کتابخانه تفاسیر
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 297
كلمة في هذا المقطع و سياقه:
- مر معنا في مقطع إبراهيم قصة بناء إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام الكعبة، و يأتي هذا المقطع ليكون الشىء الرئيسي فيه هو الكلام عن جعل الله هذه الكعبة هي قبلة المسلمين في صلاتهم، و رأينا في مقطع إبراهيم عليه السلام كيف أن إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام دعوا بدعوات وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ... رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و نجد في بداية هذا المقطع قوله تعالى وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً و نجد في نهايته كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ ... فمقطع القبلة يرينا استجابة الله عز و جل لإبراهيم و إسماعيل في شأن الأمة و الرسول صلى الله عليه و سلم.
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 298
- حدثنا مقطع إبراهيم عن السفاهة في العزوف عن ملة إبراهيم وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ و هذا المقطع يبدأ بالكلام عن مواقف السفهاء سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها و في ذلك تقرير أن التوجه إلى حيث وجه الله إنما هو من الإسلام الذي هو ملة إبراهيم. و المقطع يقيم الحجة على بني إسرائيل و على النصارى في شأن القبلة. فالمقطع امتداد للحوار الذي مر معنا في مقطع بني إسرائيل. و إذ كانت القبلة بعض هدى الله المنزل نجد في هذا المقطع قوله تعالى وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فإن صلة المقطع بقصة آدم عليه السلام المنتهية بقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ إن الصلة واضحة بين هذا المقطع و مقطع آدم عليه السلام من حيث إن المقطع يرينا و يقص علينا بعض ما أنزله الله علينا من هدى بواسطة رسول كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ ... و محل القبلة في قضية العبادة لا يخفى. و من ثم كان هذا المقطع جزءا من القسم الذي ابتدأ بالأمر بالعبادة و التوحيد يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... و في مقدمة سورة البقرة كلام عن المتقين و الكافرين و المنافقين. و مما وصف به المنافقون قوله تعالى أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ و ههنا حديث عن قولة من قولات السفهاء سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ... و ههنا حديث عن نعمة الله على هذه الأمة بالهداية و كيف ينبغي أن تقابلها. كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ ... فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ
فالمقطع فيه تذكير بالنعمة، و تأكيد للسير، و تفصيل في الطريق.
فلم يأت مقطع القبلة إلا بعد كل المقدمات اللازمة له. و هذا يدلنا على أهمية قضية القبلة في حياة الأمة، لقد سبق بمقدمة تعمق الثقة بالبيت و بناته، و سبق ذلك بمقدمة تسلب الثقة عن نوع من المشوشين، و سبق ذلك ما يعمق الالتزام بطاعة الله و اتباع هداه، و سبق ذلك بالأمر بالعبادة، و سبق ذلك ما يعرف به السفهاء من أهل النفاق و ما يعرف به المتقون. و ذلك كله ليأتي المقطع في مكانه، مفصلا قضية جديدة سبقتها كل تمهيداتها و الكلام عن المقطع و سياقه مستمر فلنكتف ههنا بما مر.
تفسير الفقرة الأولى:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها السين في
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 299
قوله تعالى سَيَقُولُ للاستقبال. فهل الآية إخبار عن القول قبل وقوعه أو أنها إخبار عنه بعد وقوعه؟ قولان للمفسرين: فعلى القول أن الآية نزلت بعد القول فذلك يفيد أن القائلين مستمرون في لغطهم و في قولهم. و تكون الآية و ما بعدها متأخرة نزولا على قوله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ و يؤيد ذلك ما رواه البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا. و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة. فأنزل الله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ... إلى آخر الآية. فقال السفهاء و هم اليهود: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ و على القول بأن الآية إخبار عما يأتي تكون الحكمة كما قال الألوسي: «و تقديم الإخبار بالقول على الوقوع لتوطين النفس عليه فإن مفاجأة المكروه أشد إيلاما. و العلم به قبل الوقوع أبعد من الاضطراب. و لما أن فيه إعداد الجواب. و الجواب المعد قبل الحاجة أقطع للخصم» و السفهاء: هم خفاف الأحلام. فأصل السفه الخفة. و هم هنا إما اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة و أنهم لا يرون النسخ. أو المنافقون لحرصهم على الطعن و الاستهزاء. أو المشركون لقولهم:
رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها. و الله ليرجعن إلى دينهم. قال ابن كثير: و الآية عامة في هؤلاء كلهم. قال الألوسي في ترجيح العموم: «لأن الجمع فيها محلى باللام و هو يفيد العموم. فيدخل فيه الكل. و التخصيص بالبعض لا يدعو إليه داع» أقول و قد مر معنا في السورة قوله تعالى وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ و مر معنا في المنافقين أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ فحمل الآية على جميع من وصف الله في السورة بالسفه مقتضى السياق. و معنى قولهم: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها أي ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، و هي بيت المقدس. و القبلة: هي الجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة. لأن المصلي يقابلها. فهؤلاء السفهاء قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا و تارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ الصراط المستقيم هو الطريق المستوي.
و من الصراط المستقيم التوجه إلى كعبة إبراهيم بعد إذ أمر الله به. و في ذكر ذلك إشارة إلى نعمة الله على هذه الأمة بهدايتها في شأنها كله إلى الصراط المستقيم. و تعريض بغيرهم. و معنى النص: أن بلاد المشرق و المغرب و الأرض كلها لله. و الحكم و التصرف و الأمر كله لله فالشأن كله في امتثال أوامره. و لو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة. فنحن عبيده و في تصرفه. و قد شاء عناية بعبده محمد صلى الله عليه و سلم و أمته
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 300
أن يهديهم إلى اتخاذ كعبة إبراهيم خليل الرحمن قبلة. فجعل توجههم إليها و هي المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له، و هي أشرف بيوت الله في الأرض.
كلمة في السياق:
1- ذكرنا من قبل صلة المقطع بما قبله. فما الصلة بين آية سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ بما قبلها مباشرة؟ لقد كان ما قبلها يناقش اليهود و النصارى في قضايا العقائد. و ههنا النقاش في العمليات و لذلك قال الألوسي: «و مناسبة الآية لما قبلها أن الأولى قدح في الأصول (أي في العقائد) و هذا في أمر متعلق بالفروع (أي في العمليات من الشريعة) و إنما لم يعطف تنبيها على استقلال كل منها في الشناعة».
2- ثم يبين الله عز و جل في الآية اللاحقة أن تحويل القبلة بحيث تكون إلى الكعبة ينسجم مع مبدأ الوسطية الذي هو سمة هذه الأمة. و في تحقيق أشار إليه الأستاذ الندوي في السيرة النبوية كتبه أحد المتخصصين: أثبت فيه أن مكة بالنسبة للعالم تقع في مركزه تماما. فهي وسط هذا العالم. فتحويل القبلة إلى البيت الحرام ينسجم مع صفة الوسطية لهذه الأمة. و لذلك جاءت الآية اللاحقة تقول: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.
3- في قوله تعالى يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إشارة إلى أن في تشريعاته لهذه الأمة هداية لها إلى صراطه المستقيم، فلنتذكر أننا في الفاتحة ندعو الله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ... و قد فعل جل جلاله فيما هدانا إليه. و ليكن في هذا إشارة إلى الربط بين سورة البقرة في سياقها كله و بين سورة الفاتحة و لنعد إلى التفسير:
وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً الوسط: الخيار. و قيل للخيار وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل.
و الأوساط محمية. أي: كما جعلكم خير الأمم جعلت قبلتكم خير القبل. و الوسط كذلك العدول. لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض. أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة جعلناكم أمة وسطا، فهذه الآية بمثابة تعليل لاختيار الكعبة قبلة لنا. ذلك أننا أمة وسط. فلتكن قبلتكم كذلك. و قد أفاض صاحب الظلال في استخراج مظاهر الوسطية في هذه الأمة كما سنرى في فوائد هذه الفقرة.
و قد علل جل جلاله لجعلنا أمة وسطا أي عدولا أو خيارا بقوله لِتَكُونُوا شُهَداءَ
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 301
عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً أي لتكونوا شهداء على سائر الأمم يوم القيامة بأن الله تعالى قد أوضح السبل و أرسل الرسل فبلغوا و نصحوا، و يكون الرسول صلى الله عليه و سلم وحده شهيدا علينا بأنه قد بلغ و أدى و أقام الحجة. و أننا قد لبينا و استجبنا فنحن شهداء على الناس يوم القيامة أن رسلهم قد بلغتهم. و رسولنا شهيد علينا يزكينا. و أخر الجار و المجرور (على الناس) في قوله تعالى لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ و قدم الجار و المجرور (عليكم) في قوله وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم. و في الآخر اختصاصهم بكون الرسول صلى الله عليه و سلم شهيدا عليهم.
أخرج الحافظ ابن مردويه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «أنا و أمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق. ما من الناس أحد إلا ود أنه منا، و ما من نبي كذبه قومه إلا و نحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه» و إذا كنا عدولا في الآخرة فنحن عدول في الدنيا كذلك. روى الحاكم و ابن مردويه و اللفظ له عن جابر بن عبد الله قال: «شهد رسول الله صلى الله عليه و سلم جنازة في بني سلمة. و كنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه و سلم. فقال بعضهم: و الله يا رسول لنعم المرء كان. لقد كان عفيفا مسلما و كان .. و أثنوا عليه خيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:
أنت بما تقول. فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر. فأما الذي بدالنا منه فذاك. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: و جبت ثم شهد جنازة في بني حارثة. و كنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال بعضهم: يا رسول الله بئس المرء كان. إن كان لفظا غليظا. فأثنوا عليه شرا.
فقال النبي صلى الله عليه و سلم لبعضهم أنت بالذي تقول. فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر. فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: و جبت. قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب. صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قرأ: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ثم قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه.
و قال الإمام أحمد .... عن أبي الأسود أنه قال: «أتيت المدينة فوافقتها و قد وقع فيها مرض فهم يموتون موتا ذريعا. فجلست إلى عمر بن الخطاب فمرت به جنازة فأثنى على صاحبها خيرا. فقال: و جبت. ثم مر بأخرى فأثنى على صاحبها شرا. فقال عمر:
وجبت. فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟. قال: قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم «أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» قال: فقلنا و ثلاثة؟ قال: فقال «و ثلاثة» قال: فقلنا: و اثنان. قال «و اثنان» ثم لم نسأله عن الواحد» و كذا رواه البخاري و الترمذي و النسائي من حديث داوود بن أبي الفرات. و أخرج ابن مردويه عن
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 302
أبي زهير الثقفي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم: «يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم» قالوا:
بم يا رسول الله؟. قال: «بالثناء الحسن و الثناء السىء أنتم شهداء الله في الأرض» و رواه ابن ماجه و الإمام أحمد.
ثم علل تعالى لاعتماد بيت المقدس أولا، و الانتقال إلى الكعبة ثانيا بقوله: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ. وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي: إنما شرعنا ذلك يا محمد: التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة؛ ليظهر حال من يتبعك و يستقبل معك حيثما توجهت، ممن ينقلب على عقبيه أي: مرتدا عن دينه وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً أي هذه الفعلة و هي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة إنه لعظيم شاق على النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم و أيقنوا بتصديق الرسول صلى الله عليه و سلم و أن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه. و أن الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد. فله أن يكلف عباده بما شاء و ينسخ ما يشاء. فله الحكمة التامة و الحجة البالغة في جميع ذلك. بخلاف الذين في قلوبهم مرض فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا. كما يحصل للذين امنوا إيقان و تصديق .. و في الحكمة التربوية التي نصت عليها الآية تعليلا لتحويل القبلة إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ يقول صاحب الظلال:
«و كما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، و تجريدها من التعلق بغيره، و تخليصها من كل نعرة و كل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم ... فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام، و اختار لهم الاتجاه- فترة- إلى المسجد الأقصى؛ ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، و من كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية، و ليظهر من يتبع الرسول اتباعا مجردا من كل إيحاء آخر. اتباع للطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبيه؛ اعتزازا بنعرة جاهلية، تتعلق بالجنس و القوم، و الأرض و التاريخ، أو تتلبس بها في خفايا المشاعر و حنايا الضمير أي تلبس من قريب أو من بعيد ... حتى إذا استسلم المسلمون، و اتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول صلى الله عليه و سلم و في الوقت ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام. و لكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه هي حقيقة الإسلام. حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم و إسماعيل ليكون خالصا لله، و ليكون تراثا للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولا منهم، بالإسلام الذي كان عليه
الاساس فى التفسير، ج1، ص: 303
هو و بنوه و حفدته ...».
و في تفسير قوله تعالى لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أقوال للمفسرين يذكرونها كي لا يفهم فاهم أن لله علما حادثا و هو جل جلاله لم يزل عالما فيقولون فيها: «أي لنعلم كائنا أو موجودا ما قد علمناه أنه يكون و يوجد. فالله تعالى عالم أزلا بكل ما أراد وجوده أنه يوجد، في الوقت الذي شاء وجوده فيه أو: ليميز التابع من الناكص. فوضع العلم موضع التمييز. لأن العلم يقع به التمييز. أو: ليعلم الرسول صلى الله عليه و سلم و المؤمنون ذلك. و إنما أسند علمهم إلى ذاته لأنهم خواصه مثل قوله تعالى في سورة الفتح إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أو: هو على ملاطفة الخطاب لمن لا يعلم كقولك لمن ينكر ذوب الذهب (فلنلقه في النار لنعلم أيذوب) و هو يعلم أنه يذوب.
أو: المراد به الجزاء أي: لنجازي الطائع و العاصي. و كثيرا ما يعلم التهديد في القرآن بالعلم»
و لكي لا يفهم فاهم أن الصلاة إلى بيت المقدس ليس لها أجر، أو هي في إبان فرضها ليس لها فضل قال تعالى وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي: صلاتكم إلى القبلة المنسوخة التي هي أثر إيمانكم، سمى الصلاة إيمانا لأن أهل الإيمان هم الذين يعلمون وجوبها فيؤدونها. و بها يحيا الإيمان و يستمر و يستقر و يعلم، و قبولها إنما هو من أهل الإيمان و أداؤها في الجماعة دليل الإيمان. في الصحيح عن البراء قال: «مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس. فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» و رواه الترمذي عن ابن عباس و صححه. ثم علل تعالى لعدم إضاعته إيمان المؤمنين بقوله: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فلا يضيع أجورهم.
و الرأفة في اللغة: أشد من الرحمة و جمع بينهما كما في الرحمن الرحيم. و بهذا انتهت الفقرة الأولى من مقطع القبلة و هي بمثابة المقدمة للأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام.
فوائد:
1- في عملية استقراء لمظاهر الوسطية في هذه الأمة يقول صاحب الظلال: