کتابخانه تفاسیر
الاساس فى التفسير، ج10، ص: 5722
يبعثه». و هذا إسناد عظيم و متن قويم. و في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل ملعقة بالعرش» الحديث، و روى الإمام أحمد عن عطاء بن السائب قال:
كان أول يوم عرفت فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى رأيت شيخا أبيض الرأس و اللحية على حمار، و هو يتبع جنازة فسمعته يقول: حدثني فلان بن فلان سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، و من كره لقاء الله كره الله لقاءه» قال:
فأكب القوم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: إنا نكره الموت، قال ليس ذاك و لكنه إذا احتضر فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عز و جل و الله عز و جل للقائه أحب وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ فإذا بشر بذلك كره لقاء الله، و الله تعالى للقائه أكره، هكذا رواه الإمام أحمد، و في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها شاهد لمعناه).
17- بمناسبة قوله تعالى: وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ... قال ابن كثير: (و قوله تعالى: وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي: و أما إن كان المحتضر من أصحاب اليمين فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي:
تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم: سلام لك أي: لا بأس عليك أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين. و قال قتادة و ابن زيد: سلم من عذاب الله و سلمت عليه ملائكة الله، كما قال عكرمة تسلم عليه الملائكة و تخبره أنه من أصحاب اليمين، و هذا معنى حسن، و يكون ذلك كقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ و قال البخاري فَسَلامٌ لَكَ أي:
مسلم لك أنك من أصحاب اليمين، و قد يكون كالدعاء له كقولك: سقيا لك من الرجال إن رفعت السلام فهو من الدعاء و قد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية و مال إليه و الله أعلم. و قوله تعالى: وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي: و أما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق، الضالين عن الهدى فَنُزُلٌ أي: فضيافة مِنْ حَمِيمٍ و هو المذاب الذي يصهر به
الاساس فى التفسير، ج10، ص: 5723
ما في بطونهم و الجلود وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي: و تقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته). ا. ه.
أقول: إن هناك اتجاهين في هذه الآيات. الاتجاه الأول: أن الحديث فيها عما يكون للميت يوم القيامة بعد إذ تقع الواقعة، و عندئذ تكون خاتمة السورة تتحدث عما تحدثت به بدايتها، و الاتجاه الثاني يقول: إن الحديث في هذه الآيات يدور حول ما يستقبل به الميت فور وفاته، فهي حديث عما يستقبل الميت في البرزخ في الفترة بين الموت و قيام القيامة، و على هذا الاتجاه تكون السورة بدأت بالحديث عن القيامة، و ختمت بالحديث عما قبل ذلك من حياة برزخية، و موت و حياة أولى.
18- بمناسبة قوله تعالى في خاتمة السورة: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهنى قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال: «اجعلوها في ركوعكم» و لما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «اجعلوها في سجودكم» و كذا رواه أبو داود و ابن ماجه، و قال روح بن عبادة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:
«من قال سبحان الله العظيم و بحمده غرست له نخلة في الجنة» هكذا رواه الترمذي و رواه هو و النسائي أيضا عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم به و قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير. و روى البخاري في آخر كتابه عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم» و رواه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث محمد بن فضيل بإسناده مثله).
أقول: وردت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ في السورة مرتين، و في كل مرة كانت ترد بعد ما تستجاش في النفوس عوامل الشعور بالعظمة؛ ليأتي التسبيح بعد ذلك خارجا من أعماق النفس.
و قد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نجعل هذا التسبيح في ركوعنا، فإذا عرفنا أن سورة كاملة قد سيقت للوصول إلى التسبيح في الركوع الذي هو سنة من سنن الصلاة ندرك أهمية الصلاة في حياة المسلم، و في بقاء الإسلام. و الملاحظ أن كل جزء من أجزاء الصلاة قد جاء في سياق سورة من السور؛ ليكون لهذا الجزء أرضيته العميقة التي يستند إليها، فالقيام في الصلاة جاء في سورة، و قراءة القرآن فيها جاءت في سورة، و الركوع
الاساس فى التفسير، ج10، ص: 5724
و السجود جاءا في أكثر من سورة.
و هذا يوصلنا إلى أصل عظيم في الدعوة و التربية: إن كثيرا من الأمور إذا لم تستند إلى أرضية واسعة فإنها تكون معرضة للخطر، فلا إله إلا الله مثلا إذا لم يكن أساسها متينا فإن الطغيان يحاول استئصالها، و لذلك نجد القرآن قد تحدث عنها كثيرا، و لقد ورث المسلمون في العصور المتأخرة شعائر الإسلام دون أن يرثوا مع ذلك الأرضية الواسعة للشعائر فكاد أن يتغلب أعداء الإسلام على الإسلام، لو لا أن الدعوة الإسلامية المعاصرة قد أعادت الأمر إلى نصابه.
كلمة أخيرة في سورة الواقعة:
سورة الواقعة هي أول سورة تبدأ بقوله تعالى: إِذا ثم تأتي بعد ذلك سور مبدوءة بهذه الكلمة أكثر من مرة إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ و بعد التأمل في محل هذه السور بالنسبة لما قبلها و ما بعدها. و بعد التأمل في مضامينها نلاحظ أن هذه السور لا تأتي في بداية مجموعات، و ليس شرطا أن تأتي في نهاية مجموعات كذلك، قد يكون و قد لا يكون، فسورة الواقعة نهاية مجموعة، و سورة المنافقون نهاية مجموعة، بينما سورة النصر ليست نهاية مجموعة مثلا كما سنرى. و حيثما جاءت سورة مبدوءة بإذا فإنك تجدها مهيجة على العمل و العبادة و التقوى من خلال ذكر ما يبعث على ذلك، فالتشابه كثير جدا بين مضمون هذه السور.
...
لقد لا حظنا أن سورة الواقعة فصلت في حيز قوله تعالى من سورة البقرة:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... بأن فصلت قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ... فلنتذكر أن بداية سورة الحج هي: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ و لنلاحظ أن أكثر السور المبدوءة بقوله تعالى: إِذا* فيها حديث عن الساعة إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها مثل هذا يجعلنا نستأنس أن
الاساس فى التفسير، ج10، ص: 5725
محور هذه السور هو محور سورة الحج أو حيزه، و هو الشىء الذي وجدناه من خلال سورة الواقعة، و سنجده من خلال السور المشابهة لها.
...
و من تأمل لهذه السور نجد أنها تعظ، و من الوعظ تنقلنا إلى معنى هو من باب العبادة أو التقوى، ففي سورة الواقعة نجد قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ و في سورة النصر و هي آخر سورة مبدوءة ب (إذا) نجد قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً و قبل ذلك في سورة المنافقون نجد لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ... و في سورة التكوير إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ* لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ و في سورة الانشقاق فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ... و في سورة الزلزلة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ كل ذلك يجعلنا نستأنس بأن محور هذه السور، هو إما الأمر يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... في سورة البقرة، أو في الآيات الآتية في حيزه، و على كل فالمعنى هو الذي يرينا إن كانت هذه القاعدة كلية أو أغلبية، و هو موضوع سنراه أثناء سيرنا. و قد رأينا محور سورة الواقعة.
...
و نلاحظ من خلال المعاني أنه بسورة الواقعة تنتهي المجموعة الأولى من قسم المفصل، لتبدأ مجموعات متوالية، هي مجموعات المسبحات المبدوءة بسورة الحديد التي بدايتها سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ... و نلاحظ أن سورة الواقعة منتهية بقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ و أن سورة الحديد مبدوءة بقوله تعالى:
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مما يذكرنا بالقاعدة أن نهاية كل سورة من سور القرآن مرتبطة ببداية ما بعدها نوع ارتباط، أحيانا يكون واضحا جدا، و أحيانا يحتاج إلى تأمل، فسور القرآن إذن من ابتدائها إلى انتهائها متعانقة عناقا عجيبا. لاحظ مثلا أن نهاية سورة الفاتحة هي: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ... و أن بداية سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ... لاحظ ذكر لفظة (الهداية) في نهاية الفاتحة، و بداية سورة البقرة. لاحظ مثلا نهاية سورة آل عمران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و لاحظ بداية سورة النساء يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ لاحظ وجود لفظ (اتقوا) في النهاية
الاساس فى التفسير، ج10، ص: 5726
و البداية، و لم نحاول فيما قبل المجموعات السابقة أن نقف وقفات طويلة عند هذا الموضوع، لأن تركيزنا الرئيسي كان منصبا على النسق الذي تمشى عليه أقسام القرآن و مجموعاته، و هو نفس النسق الذي سارت عليه سورة البقرة.
...
غير أن ظهور الصلات بشكل واضح في السور الست التي مرت معنا فيما بين نهايات السورة السابقة و بدايات السورة اللاحقة، جعلنا نركز على هذا المعنى هنا، و هي ظاهرة تجدها في القرآن كله: أن السورة السابقة توصلك إلى السورة اللاحقة و تمهد لها، لاحظ مثلا نهاية سورة يونس وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ و بداية سورة هود الر* كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ... تجد الصلة، لاحظ نهاية سورة هود فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ ... ثم ادرس سورة يوسف بعدها، تجد سورة يوسف درسا في التوكل و هكذا، إلا أنه كما قلنا: أحيانا تكون الصلة واضحة، و أحيانا تحتاج إلى تأمل، و من هذا المعنى و المعاني الأخرى التي ذكرناها حول ترتيب القرآن نجد أن هذا الترتيب للقرآن فيه من أنواع الإعجاز ما لا يحيط به البشر، فما أكثر جنون أولئكم الذين لا يدركون أسرار هذا الترتيب، و يطالبون بترتيب آخر أو يعترضون على هذا الترتيب، و ما أكثر ما أخطأ- و غفر الله له- من حاول أن يفسر القرآن على غير ترتيبه الحالي، كأن فسره على حسب ترتيب النزول في زعمه، و هو موضوع لا توجد أدواته أصلا و لا أدلته بشكل يستقصي القرآن كله، و ذلك من فعل الله لهذا القرآن؛ حتى لا تفكر الأمة إلا بهذا الترتيب الخاص لما يحويه من إعجاز و يترتب عليه من مصالح.
...
لقد رأينا في المجموعة المارة معنا- و هي المجموعة الأولى من المفصل- كيف أنها فصلت في مقدمة سورة البقرة، و المقطع الأول من القسم الأول من السورة، و رأينا أدلة ذلك و توجيهه، و رأينا صلة نهاية السورة منها ببداية ما بعدها، و سنلاحظ في كل المجموعات الآتية من المفصل أنها تفصل في حدود هذه الآيات من سورة البقرة، و لا تتجاوزها لما بعدها، بينما رأينا أن مجموعات القسم الأول و الثاني و بعض مجموعات القسم الثالث تفصل في هذا، و فيما يأتي بعده من سورة البقرة، و اقتصار المفصل على هذا الحد من التفصيل يشير إلى أن تفصيل هذه الآيات هو الأساس الذي يبنى عليه
الاساس فى التفسير، ج10، ص: 5727
غيره، كما أن هذا يشير إلى أن المعاني الأولى من سورة البقرة هي البداية و النهاية، و أنها المعاني التي تحتاج النفس البشرية إلى أن تذكر بها مرة بعد مرة، كما أن هذا يشير إلى كثرة المعاني المستكنة في الآيات الثلاثين الأولى لسورة البقرة حتى احتاج تفصيلها إلى عشرات السور.
...
و سنلاحظ فيما سيأتي معنا من السور أن المجموعة الواحدة تفصل في معنى متسلسل مرتبط بالآيات الأولى من سورة البقرة، ثم تأتي المجموعة الأخرى فتفصل في معنى يتكامل مع السياق بحيث يتم تكامل متعدد الجوانب في قسم المفصل، بشكل معجز و بديع.
...
و من مثل ما مر معنا ندرك كيف يأخذ كل إنسان حظه من هذا القرآن، فمن لا يدرك إلا المعاني الحرفية لكل آية يأخذ حظه كاملا، و من يدرك مع هذا محل الآية مع ما قبلها و ما بعدها يأخذ حظا آخر، و من يدرك وحدة السورة يأخذ حظا زائدا، و من يدرك صلة السورة بمجموعتها يأخذ حظا جديدا، و من يدرك صلة المجموعة بقسمها، و صلة الأقسم بسورة البقرة، و سر سياق سورة البقرة الخاص يأخذ حظوظا و معاني أخرى، ثم الناس يتفاوتون في هذا كله، فمن إدراك محدود إلى أوسع منه إلى أوسع، بما لا يلغى فيه فهم أوسع من فهم دونه، و كل ذلك هو بعض الشأن في هذا القرآن.
...
هذا كله إذا نظرنا إلى المسألة من خلال قراءة واحدة، و لكن هناك قراءات، و أوسع من ذلك أن القرآن أنزل على سبعة أحرف سنرى معناها في كتاب (الأساس في السنة و فقهها) و في ذلك أسرار كثيرة. فالوقف في قراءة يعطيك معنى، و الوقف في قراءة أخرى يعطيك معنى جديدا، و الإعراب المتعدد للكلمة الواحدة في القراءة الواحدة- أو في القراءات- يعطيك معاني جديدة، و كل معنى من هذه المعاني هو صحيح في بابه، و باجتماعها مع بعضها تتولد عندك معان لا تتناهى، و لا يستطيع أحد لها حصرا و ليس هذا هو كل شىء في هذا القرآن، بل هذا بعض الشىء.
...
الاساس فى التفسير، ج10، ص: 5728
فكتاب هذا شأنه هل يشك إلا مجنون جاهل أعمى في أنه من عند الله عز و جل، كيف و مع تقادم العصور تجد معانيه تسبق العصور، و تتحدى أن يستطيع أحد أن ينقض معنى منها. و قبل أن ننتقل إلى المجموعة الثانية من قسم المفصل نحب أن نذكر بما يلي:
1- هناك تكامل بين معاني السورة الواحدة و دليله وحدة معانيها، و هناك تكامل بين سور المجموعة الواحدة، و المجموعة التي بين أيدينا تصلح نموذجا على ذلك، فقد بدأت المجموعة في الذاريات التي تحدثت عن القيامة، و ختمت المجموعة بسورة الواقعة، و لقد تكامل الكلام عن التقوى في سور الذاريات و الطور و النجم، و جاءت سورة القمر- و فيها إنذار- لتدفع نحو التقوى، و جاءت سورة الرحمن- و فيها تذكير بالنعمة- لتدفع نحو التقوى، ثم جاءت سورة الواقعة لتكمل الدفع نحو الوصول.
2- و كما أن هناك تكاملا بين معاني السورة الواحدة، و تكاملا بين سور المجموعة، فإن تكاملا بين مجموعات القسم كائن، و سنتعرض لهذا أثناء عرضنا لهذا القسم، و قد أشرنا إلى ذلك من قبل.
3- و كل قسم من الأقسام يكمل بقية الأقسام، فقسم المفصل يكمل تفصيل قسم المثاني، و قسما المثاني و المفصل يكملان تفصيل قسم المئين، و الأقسام الثلاثة تكمل تفصيل قسم الطوال، و لهذا كله قواعده و أسرار انتظامه، و كل ذلك قد ربط بخيوط إلى سورة البقرة، فكأنها الأصل الذي ينبثق عنه بانتظام فروع أولى، ثم فروع ثانية، ثم فروع ثالثة، ثم فروع رابعة، فكأنها شجرة فيها أربع و عشرون طبقة، كل طبقة لها فروعها و ثمارها، و كل طبقة ترتبط بآيات سورة البقرة بخيوط منتظمة.