کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم

الجزء الحادي عشر

فهرس المجلد الحادي عشر من روح المعاني

الجزء الثاني عشر

الفهرس

الجزء الثالث عشر

فهرس المجلد الثالث عشر من روح المعاني

الجزء الرابع عشر

فهرس المجلد الرابع عشر من روح المعاني

الجزء الخامس عشر

فهرس المجلد الخامس عشر من روح المعاني

الجزء السادس عشر

الفهارس العامة

فهرس الآيات المفسرة

تفسير سورة البقرة تفسير سورة آل عمران تفسير سورة النساء تفسير سورة المائدة تفسير سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة يوسف تفسير سورة الرعد تفسير سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر تفسير سورة النحل تفسير سورة الإسراء تفسير سورة الكهف تفسير سورة مريم تفسير سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة القصص تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة تفسير سورة الأحزاب تفسير سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة ص تفسير سورة الزمر تفسير سورة المؤمن تفسير سورة فصلت تفسير سورة الشورى تفسير سورة الزخرف تفسير سورة الدخان تفسير سورة الجاثية تفسير سورة الأحقاف تفسير سورة محمد صلى الله عليه و سلم تفسير سورة الفتح تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق تفسير سورة الذاريات تفسير سورة الطور تفسير سورة و النجم تفسير سورة القمر تفسير سورة الرحمن عز و جل تفسير سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف تفسير سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم تفسير سورة الحاقة تفسير سورة المعارج تفسير سورة نوح تفسير سورة الجن تفسير سورة المزمل تفسير سورة المدثر تفسير سورة القيامة تفسير سورة الإنسان تفسير سورة المرسلات تفسير سورة النبأ تفسير سورة النازعات تفسير سورة عبس تفسير سورة التكوير تفسير سورة الانفطار تفسير سورة المطففين تفسير سورة الانشقاق تفسير سورة البروج تفسير سورة الطارق تفسير سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد تفسير سورة الشمس تفسير سورة الليل تفسير سورة الضحى تفسير سورة الشرح تفسير سورة التين تفسير سورة العلق تفسير سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة تفسير سورة التكاثر تفسير سورة العصر تفسير سورة الهمزة تفسير سورة الفيل تفسير سورة قريش تفسير سورة الماعون تفسير سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون تفسير سورة النصر تفسير سورة تبت تفسير سورة الإخلاص تفسير سورة الفلق تفسير سورة الناس

فهرس آيات الشواهد

سورة الفاتحة سورة البقرة سورة آل عمران سورة النساء سورة المائدة سورة الأنعام سورة الأعراف سورة الأنفال سورة التوبة سورة يونس سورة هود سورة يوسف سورة الرعد سورة إبراهيم سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف سورة مريم سورة طه سورة الأنبياء سورة الحج سورة المؤمنون سورة النور سورة الفرقان سورة الشعراء سورة النمل سورة القصص سورة العنكبوت سورة الروم سورة لقمان سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ سورة فاطر سورة يس سورة الصافات سورة ص سورة الزمر سورة غافر سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد سورة الفتح سورة الحجرات سورة ق سورة الذاريات سورة الطور سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة سورة الحديد سورة المجادلة سورة الحشر سورة الممتحنة سورة الصف سورة الجمعة سورة المنافقون سورة التغابن سورة الطلاق سورة التحريم سورة الملك سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن سورة المزمل سورة المدثر سورة القيامة سورة النبأ سورة المرسلات سورة الإنسان سورة النازعات سورة عبس سورة التكوير سورة الانفطار سورة المطففين سورة الانشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى سورة الغاشية سورة الفجر سورة البلد سورة الشمس سورة الليل سورة الضحى سورة الشرح سورة التين سورة العلق سورة القدر سورة البينة سورة الزلزلة سورة العاديات سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر سورة الهمزة سورة الفيل سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر سورة الكافرون سورة النصر سورة المسد سورة الإخلاص سورة الفلق سورة الناس

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم


صفحه قبل

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏1، ص: 88

إن تملك المعدوم محال إلا أن يقال يجعل الكلام كناية عن كونه مالكا للأمر كله لأن تملك الزمان كتملك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه و لا يلزم في الكناية إمكان المعنى الحقيقي و الاستلزام بمعنى الانتقال في الجملة لا بمعنى عدم الانفكاك فلا يرد المنع و أنت إذا قرأت ملك تسلم من هذا القيل و القال إن جعلته صفة مشبهة أو ألحقته بأسماء الأجناس الجامدة كسلطان و أما إذا جعلته صيغة مبالغة كحذر- و هو ملحق باسم الفاعل- فيرد عليك ما ورد علينا و أنا من فضل اللّه تعالى لا تحركني العواصف بل ذلك يزيدني في المالك حبا، و إنما قال مالك يوم الدين و لم يقل يوم القيامة مراعاة للفاصلة و ترجيحا للعموم فإن الدين بمعنى الجزاء يشمل جميع أحوال القيامة من ابتداء النشور إل السرمد الدائم بل يكاد يتناول النشأة الأولى بأسرها على أن يوم القيامة لا يفهم منه الجزاء مثل يوم الدين و لا يخلو اعتباره عن لطف، و أيضا للدين معان شاع‏ «1» استعماله فيها كالطاعة و الشريعة فتذهب نفس السامع إلى كل مذهب سائغ و قد قال بكل من هذين المعنيين بعض و المعنى حينئذ على تقدير مضاف فعلى الأول يوم الجزاء الكائن للدين و على الثاني يوم الجزاء الثابت في الدين و إذا أريد بالطاعة في الأول الانقياد المطلق لظهوره ذلك اليوم ظاهرا و باطنا و جعل إضافة يوم للدين في الثاني لما بينهما من الملابسة باعتبار الجزاء لم يحتج إلى تقدير، و تخصيص اليوم بالإضافة مع أنه تعالى مالك و ملك جميع الأشياء في كل الأوقات و الأيام إما للتعظيم و أما لأن الملك و الملك الحاصلين في الدنيا لبعض الناس بحسب الظاهر يزولان و ينسلخ الخلق عنهما انسلاخا ظاهرا في الآخرة وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم:

95] و ينفرد سبحانه في ذلك اليوم بهما انفرادا لا خفاء فيه و لذلك قال سبحانه‏ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏ [الانفطار: 19] و لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] و أيضا هنالك يجتمع الأولون و الآخرون و يقوم الروح و الملائكة صفا و تجتمع العبيد في صعيد واحد و تظهر صفة الجمال و الجلال أتم ظهور فتعلم صفة المالكية و الملكية للمجموع في آن واحد فوق ما علمت لكل فرد فرد أو جمع جمع على توالي الأزمان و إنما ختم سبحانه هذه الأوصاف بهذا الوصف إشارة إلى الإعادة كما افتتح بما يشير إلى الإبداء و في إجرائها عليه تعالى تعليل لإثبات ما سبق و تمهيد لما لحق و فيه إيماء إلى أن الحمد ليس مجرد الحمد للّه بل مع العلم بصفات الكمال و نعوت الجلال و هذه أمهاتها و لم تك تصلح إلا له و لم يك يصلح إلا لها و قد يقال في إجراء هذه الأوصاف بعد ذكر اسم الذات الجامع لصفات الكمال إشارة إلى أن الذي يحمده الناس و يعظمونه إنما يكون حمده و تعظيمه لأحد أمور أربعة: إما لكونه كاملا في ذاته و صفاته و إن لم يكن منه إحسان إليهم، و إما لكونه محسنا إليهم و متفضلا عليهم، و إما لأنهم يرجون لطفه و إحسانه في الاستقبال، و إما لأنهم يخافون من كمال قدرته فهذه هي الجهات الموجبة للحمد و التعظيم فكأنه سبحانه يقول يا عبادي إن كنتم تحمدون و تعظمون للكمال الذاتي و الصفاتي فاحمدوني فإني أنا اللّه و إن كان للإحسان و التربية و الانعام فإني أنا رب العالمين و إن كان للرجاء و الطمع في المستقبل فإني أنا الرحمن الرحيم و إن كان للخوف فإني أنا مالك يوم الدين. و من الناس من استدل كما قال الإمام على وجوب الشكر عقلا قبل مجي‏ء الشرع بأنه تعالى أثبت الحمد هنا لذاته و وصفه بكونه ربا للعالمين رحمانا رحيما بهم مالكا لعاقبة أمورهم في القيامة، و ترتب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون الحكم معللا به فدل ذلك على ثبوت الحمد له قبل الشرع و بعده و هو على ما فيه دليل عليه لا له لأنه بيان من اللّه تعالى لا يجابه فهو سمعي لا عقلي فالمستدل به كناطح صخرة، هذا و في ذكر هذه الأسماء الخمسة أيضا لطائف فالإنسان بدن و نفس شيطانية و نفس سبعية و نفس بهيمية

(1) قال الراغب: الدين الطاعة و الجزاء و استعير للشريعة فافهم ا ه منه.

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏1، ص: 89

و جوهر ملكي عقلي فالتجلي باسمه تعالى اللّه للجوهر الملكي‏ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ‏ [الرعد: 28] و باسم الرب للنفس الشيطانية رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ‏ [المؤمنون: 97] و باسم الرحمن للنفس السبعية بناء على أنه مركب من لطف و قهر الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ‏ [الفرقان: 26] و باسم الرحيم للنفس البهيمية أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ* [المائدة: 5] و بمالك يوم الدين للبدن الكثيف‏ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ‏ [الرحمن: 31].

و آثار هذا التجلي طاعة الأبدان بالعبادة و طاعة النفس الشيطانية بطلب الاستعانة و السبعية بطلب الهداية و البهيمية بطلب الاستقامة، و تواضعت الروح القدسية فعرضت لطلب إيصالها إلى الأرواح العالية المطهرة و أيضا دعائم الإسلام خمس فالشهادة من أنوار تجلي اللّه و الصلاة من أنوار تجلي الرب و إيتاء الزكاة من أنوار تجلي الرحمن و صيام رمضان من أنوار تجلي الرحيم و الحج من أنوار تجلي مالك يوم الدين و كأنه لهذا طلبت الفاتحة في الصلاة التي هي العماد و لما بلغ الثناء الغاية القصوى قال سبحانه‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ ايا في المشهور ضمير نصب منفصل و اللواحق حروف زيدت لبيان الحال، و قيل أسماء أضيف هو إليها، و قيل الضمير هي تلك اللواحق و ايا عامة، و قيل الضمير هو المجموع، و قيل ايا مظهر مبهم مضاف إلى اللواحق و زعم أبو عبيدة اشتقاقه و هو جهل عجيب و البحث مستوفى في علم النحو، و قد جاء وياك بقلب الهمزة واوا و لا أدري أهو عن القراء أم عن العرب و قرأ عمرو بن فائدة عن أبيّ إياك بكسر الهمزة و تخفيف الياء و علي و أبو الفضل الرقاشي أياك بفتح الهمزة و التشديد و أبو السوار الغنوي هياك بابدال الهمزة مكسورة و مفتوحة هاء و الجمهور إياك بالكسر و التشديد، و العبادة أعلى مراتب الخضوع و لا يجوز شرعا و لا عقلا فعلها إلا للّه تعالى لأنه المستحق لذلك لكونه موليا لأعظم النعم من الحياة و الوجود و توابعهما و لذلك يحرم السجود لغيره سبحانه لأن وضع أشرف الأعضاء على أهون الأشياء هو التراب و موطى‏ء الأقدام و النعال غاية الخضوع و قيل: لا تستعمل إلا في الخضوع له سبحانه و ما ورد من نحو قوله تعالى‏ إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏ [الأنبياء:

98] وارد على زعمهم تعريضا لهم و نداء على غباوتهم و تستعمل بمعنى الطاعة و منه‏ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ‏ و بمعنى الدعاء منه‏ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي‏ [غافر: 60] و بمعنى التوحيد و منه‏ وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏ [الذاريات: 56] و كلها متقاربة المعنى و ذكر بعض المحققين أن لها ثلاث درجات‏ «1» لأنه إما أن يعبد اللّه تعالى رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه و يختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متابعة الدنيا و طيباتها طمعا فيما هو أدوم و أشرف و هذه مرتبة نازلة عند أهل اللّه تعالى و تسمى عبادة و إما أن يعبد اللّه تعالى تشرفا بعبادته أو لقبوله لتكاليفه أو بالانتساب إليه و هذه مرتبة متوسطة و تسمى بالعبودية «2» و إما أن يعبد اللّه تعالى لاستحقاقه الذاتي من غير نظر إلى نفسه بوجه من الوجوه و لا يقتضيه إلا الخضوع و الذلة و هذه أعلى الدرجات و تسمى بالعبودة و إليه الإشارة بقول المصلى.

أصلي للّه تعالى فإنه لو قال أصلي لثوابه تعالى مثلا أو للتشرف بعبادته فسدت صلاته. و الاستعانة طلب المعونة و ياء فعله منقلبة عن واو و تمسكت الجبرية و القدرية بهذه الآية أما الجبرية فقالوا لو كان العبد مستقلا لما كان للاستعانة على الفعل فائدة، و أما القدرية فقالوا: السؤال إنما يحسن لو كان العبد متمكنا في أصل الفعل فيطلب الإعانة من الغير أما إذا لم يقدر عليه لم يكن للاستعانة فائدة، و قد أشار ناصر الملة و الدين البيضاوي بيض اللّه تعالى وجه حجته ببيان المعونة إلى أنه لا تمسك لواحد من الفريقين في ذلك حيث قال: و هي إما ضرورية أو غيرها و الضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه‏

(1) و بما ذكرنا سقط ما قيل إن العبادة إذا كانت أعلى مراتب الخضوع يلزم أن لا يكون أكثر المؤمنين عابدين ا ه منه.

(2) و الإمام الرازي في التفسير لم يضع للثانية اسما و سمى الثالثة بالعبودية ا ه منه.

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏1، ص: 90

كاقتدار الفاعل و تصوره و حصول آلة و مادة يفعل بها فيها و عند استجماعها يصح أن يوصف الرجل بالاستطاعة و يصح أن يكلف بالفعل و غير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل و يسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرب الفاعل إلى الفعل و يحثه عليه و هذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف انتهى.

و حاصله أن الاستعانة طلب ما يتمكن به العبد من الفعل أو يوجب اليسر عليه و شي‏ء منهما لا يوجب الجبر و لا القدر و عندي أن الآية إن استدل بها على شي‏ء من بحث خلق الأفعال فليستدل بها على أن للعباد قدرا مؤثرة بإذن اللّه تعالى لا بالاستقلال كما عقدت عليه خنصر عقيدتي لا أنهم ليس لهم قدرة أصلا بل جميع أفعالهم كحركة المرتعش كما يقوله الجبرية إذ الضرورة تكذبه و لا أن لهم قدرة غير مؤثرة أبدا كاليد المشلولة كما هو الشائع من مذهب الأشاعرة إذ هو في المآل كقول الجبرية و أي فرق بين قدرة لا أثر لها و بين عدم القدرة بالكلية إلا بما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا و لا أن لهم قدرة مستقلة بالأفعال يفعلون بها ما شاؤوا فاللّه تعالى يريد ما لا يفعله العبد و يفعل العبد ما لا يريده اللّه تعالى كما يقوله المعتزلة إذ يرد ذلك النصوص القواطع كما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى، و وجه الاستدلال أن إياك نعبد مشير إلى صدور الفعل من العباد و ذلك يستدعي قدرة يكون بها الإيجاد و من لا قدرة له أو له قدرة لا مدخل لها في الإيجاد لا يقال له أوجد و صحة ذلك باعتبار الكسب كيفما فسر لا يرتضيه المنصف العاقل. و قوله و إياك نستعين يدل على نفي الاستقلال فيه و أنه بإذن اللّه تعالى و إعانته كما يشير إليه لا حول و لا قوة إلا باللّه و هذا هو اللبن السائغ الذي يخرج من بين فرث و دم فلا جبر و لا تفويض فاحفظه و انتظر تتمته.

و لو كان هذا موضع القول لاشتفى‏

فؤادي و لكن للمقال مواضع‏

«و هاهنا أبحاث» الأول في سر تقديم الضمير على الفعلين و ذكروا له وجوها الدلالة على الحصر و الاختصاص كما يشعر به عدول البليغ عما هو الأصل من غير ضرورة، و لذلك قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما: معناه لا نعبد غيرك و هو حقيقي لا يستدعي رد خطأ المخاطب و المقصود منه التبرئة عن الشرك و تعريض بالمشركين و تقديم ما هو مقدم في الوجود فإنه تعالى مقدم على العابد و العبادة ذاتا فقدم وضعا ليوافق الوضع الطبع. و تنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو اللّه تعالى الحق فلا يتكاسل في التعظيم و لا يلتفت يمينا و شمالا و الاهتمام فإن ذكره تعالى أهم للمؤمنين في كل حال لا سيما حال العبادة لأنها محل وساوس الشيطان من الغفلة و الكسل و البطالة و التصريح من أول وهلة بأن العبادة له سبحانه فهو أبلغ في التوحيد و أبعد عن احتمال الشرك فإنه لو أخر فقبل أن يذكر المفعول يحتمل أن تكون العبادة لغيره تعالى. و الإشارة إلى حال العارف و أنه ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا و بالذات و إلى العبادة من حيث إنها وصلة إليه و راحلة تغذ به عليه فيبقى مستغرقا في مشاهدة أنوار جلاله مستقرا في فردوس أنوار جماله و كم من فرق بين قوله تعالى للمحمديين‏ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ‏ [البقرة: 152] و بين قوله للإسرائيلين: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ* [البقرة: 47] و بين ما حكي عن الحبيب من قوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] و بين ما حكاه عن الكليم من قوله: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ‏ [الشعراء: 62]. الثاني في سر قوله نعبد دون أعبد فقد قيل: هو الإشارة إلى حال العبد كأنه يقول إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أذكرها وحدها لأنها ممزوجة بالتقصير و لكن أخلطها بعبادة جميع العابدين و أذكر الكل بعبارة واحدة حتى لا يلزم تفريق الصفقة و قيل النكتة في العدول إلى الأفراد التحرز عن الوقوع في الكذب فإنا لم نزل خاضعين لأهل الدنيا متذللين لهم مستعينين في حوائجنا بمن لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا و لا حياة و لا موتا و لا نشورا و يا ليت الفحل يهضم نفسه فكيف يقول أحدنا إياك أعبد و إياك أستعين بالإفراد و يمكن في الجمع أن يقصد تغليب الأصفياء المتقين من الأولياء و المقربين و قيل لو قال إياك أعبد لكان‏

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏1، ص: 91

ذلك بمعنى أنا العابد و لما قال إياك نعبد كان المعنى أني واحد من عبيدك و فرق بين الأمرين كما يرشدك إليه قوله تعالى حكاية عن الذبيح عليه السلام: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏ [الصافات: 102] و قوله تعالى: حكاية عن موسى‏ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً [الكهف: 69] فصبر الذبيح لتواضعه بعدّ نفسه واحدا من جمع و لم يصبر الكليم لإفراده نفسه مع أن كلّا منهما عليهما السلام قال: إن شاء اللّه و قيل الضمير في الفعلين للقارى‏ء و من معه من الحفظة و حاضري الجماعة و قيل هو من باب «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ» على ما ذكره الغزالي قدس سره و قد تقدم، الثالث في سر تقديم فعل العبادة على فعل الاستعانة و له وجوه: الأول أن العبادة أمانة كما قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ‏ [الأحزاب: 73] فاهتم للأداء فقدم، الثاني: أنه لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا و اعتدادا منه بما صدر عنه فعقبه بقوله: و إياك نستعين ليدل على أن العبادة مما لا تتم إلا بمعونة و توفيق و إذن منه سبحانه، الثالث: أن العبادة مما يتقرب بها العبد إلى اللّه تعالى و الاستعانة ليست كذلك فالأول أهم، الرابع: أنها وسيلة فتقدم على طلب الحاجة لأنه ادعى للإجابة.

الخامس: أنها مطلوبة للّه تعالى من العبادة، و الاستعانة مطلوبهم منه سبحانه فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه، السادس: أن العبادة واجبة حتما لا مناص للعباد عن الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس و الجن فكانت أحق بالتقديم، السابع: أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء و الاستعانة أقوى التئاما بطلب الهداية، الثامن: أن مبدأ الإسلام التخصيص بالعبادة و الخلوص من الشرك و التخصيص بالاستعانة بعد الرسوخ.

التاسع: أن في تأخير فعل الاستعانة توافق رؤوس الآي، العاشر: أن أحدهما إذا كان مرتبطا بالآخر لم يختلف التقديم و التأخير كما يقال قضيت حقي فأحسنت إلي و أحسنت إلي فقضيت حقي.

الحادي عشر: أن مقام السالكين ينتهي عند قوله: إياك نعبدوا بعده يطلب التمكين و ذلك أن الحمد مبادي حركة المريد فإن نفس السالك إذا تزكت و مرآة قلبه إذا انجلت فلاحت فيها أنوار العناية الموجبة للولاية تجردت النفس الزكية للطلب فرأت آثار نعم اللّه تعالى عليها سابغة و ألطافه غير متناهية فحمدت على ذلك و أخذت في الذكر فكشف لها الحجاب من وراء أستار العزة عن معنى رب العالمين فشاهدت ما سوى اللّه سبحانه على شرف الفناء مفتقرا إلى المبقى محتاجا إلى التربية فترقت لطلب الخلاص من وحشة الأدبار و ظلمة السكون إلى الأغيار فهبت لها من نفحات جناب القدس نسائم ألطاف الرحمن الرحيم فعرجت للمعات بوارق الجلال من وراء سجاف الجمال إلى الملك الحقيقي فنادت بلسان الاضطرار في مقام‏ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] أسلمت نفسي إليك و أقبلت بكليتي عليك و هناك خاضت لجة الوصول و انتهت إلى مقام العين فحققت نسبة العبودية فقال إياك نعبد و هنا انتهاء مقام السالك ألا يرى إلى سيد الخلق و حبيب الحق كيف عبر عن مقامه هذا بقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] فطلب التمكين بقوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ و استعاذ عن التلوين بقوله‏ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ‏ فصعد مستكملا و رجع مكملا و كأنه لهذا سميت الصلاة معراج المؤمنين، البحث الرابع في سر الالتفات من الغيبة إلى الخطاب و قد ازدحمت فيه أذهان العلماء بعد بيان نكتته العامة و هي التفنن في الكلام و العدول من أسلوب إلى آخر تطرية له و تنشيطا للسامع فقيل لما ذكر الحقيق بالحمد و وصف بصفات عظام تميّز بها عن سائر الذوات و تعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ليكون أدل على الاختصاص و الترقي من البرهان إلى العيان و الانتقال من الغيبة إلى الشهود و كأن المعلوم صار عيانا و المعقول مشاهدا و الغيب حضورا، و قيل: لما شرح اللّه تعالى صدر عبده و أفاض على قلبه و قالبه نور الإيمان و الإسلام من عنده ترقى بذريعة الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى‏

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏1، ص: 92

رتبة الإحسان و هو

«أن تعبد اللّه تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»

و أيضا حقيقة العبادة انقياد النفس الأمارة لأحكام اللّه تعالى و صورته و قالبه الإسلام و معناه و روحه الإيمان و نوره و نوره الإحسان و في نعبد و الالتفات تتم الأمور الثلاثة و أيضا لما تبين أنه ملك في الأزل ما في أحايين الأبد علم أن الشاهد و الغائب و الماضي و المستقبل بالنسبة إليه على حد سواء فلذلك عدل عن الغيبة إلى الخطاب و يحتمل أن يكون السر أن الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء و الثناء في الغيبة أولى و من هنا إلى الآخر دعاء و هو في الحضور أولى و اللّه تعالى حي كريم. و قيل إنه لما كان الحمد لا يتفاوت غيبة و حضورا بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل و أتم و كانت العبادة إنما يستحقها الحاضر الذي لا يغيب كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام‏ فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ‏ [الأنعام: 76] لا جرم عبر سبحانه و تعالى عن الحمد بطريق الغيبة و عنها بطريق الخطاب إعطاء لكل منهما ما يليق من النسق المستطاب و أيضا من تشبه بقوم فهو منهم، فالعابد لما رام ذلك سلك مسلك القوم في الذكر و مزج عبادته بعبادتهم و تكلم بلسانهم و ساق كلامه على طبق مساقهم عسى أن يصير محسوبا في عدادهم مندرجا في سياقهم.

إن لم تكونوا منهم فتشبهوا

إن التشبه بالكرام فلاح‏

و أيضا فيه إشارة إلى أن من لزم جادة الأدب و الانكسار و رأى نفسه بعيدا عن ساحة القرب لكمال الاحتقار فهو حقيق أن تدركه رحمة إلهية و تلحقه عناية أزلية تجذبه إلى حظائر القدس و تطلعه على سرائر الأنس فيصير واطئا على بساط الاقتراب فائزا بعز الحضور و سعادة الخطاب. و أيضا أنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة فإن خطبها عظيم و من دأب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره ليأتي بها العابد خالية عن الكلال عارية عن الفتور و الملال مقرونة بكمال النشاط موجبة لتمام الانبساط.

حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي‏

فأنت بمرأى من سعاد و مسمع‏

و أيضا إن الحمد ليس إلا إظهار صفات الكمال على الغير فما دام للأغيار وجود في نظر السالك فهو يواجههم بإظهار مزايا المحبوب عليهم و يخاطبهم بذكر مآثره الجميلة لديهم و أما إذا آل أمره بملازمة الأذكار إلى ارتفاع الحجب و الأستار و اضمحلال جميع الأغيار لم يبق في نظره سوى المعبود الحق و الجمال المطلق و انتهى إلى مقام الجمع و صار في مقعد فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏ [البقرة: 115] فبالضرورة لا يصير توجيه الخطاب إلا إليه و لا يمكن إظهار السر إلا لديه فينعطف عنان لسانه إلى جنابه و يصير كلامه منحصرا في خطابه، و ثم وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة و عندي و هو من نسائم الأسحار أن اللّه سبحانه بعد أن ذكر يوم الدين و هو يوم القيامة التفت إلى الخطاب للإشارة إلى أنه إذا قامت القيامة على ساق و كان إلى ربك يومئذ المساق هنالك يفوز المؤمن بلذة الحضور و يتبلج جبينه بأنوار الفرح و السرور و يخلو به الديان و ليس بينه و بينه ترجمان و يكشف الحجاب و تدور بين الأحباب كؤوس الخطاب، فتأمل في عظيم الرحمة كيف قرن سبحانه هذا الترهيب برحمتين فصرح قبل يوم الدين بما صرح و رمز بعد ذكره بما رمز و لن يغلب عسر يسرين «و من باب الإشارة» أن يوم الدين تلويح إلى مقام الفناء لأنه موت النفس عن شهواتها و خروجها عن جسد تعلقها بالأغيار و التفاتها و من مات فقد قامت قيامته فعند ذلك يحصل البقاء في جنة الشهود و يتحقق الجمع في مقام صدق عند المليك المعبود و فوق هذا مقام آخر لا يفي بتقريره الكلام و لا تقدر على تحريره الأقلام بل لا يزيده البيان إلا خفاء و لا يكسبه التقريب إلا بعدا و اعتلاء.

و لو أن ثوبا حيك من نسج تسعة

و عشرين حرفا في علاه قصير

اللهم أغرقنا في بحار مشاهدتك و منّ علينا بخندريس وحدتك حتى لا نحدث إلا عنك و لا نسمع إلا منك و لا

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏1، ص: 93

نرى إلا إياك، هذا و قد ذكر الإمام السيوطي نقلا عن الشيخ بهاء الدين أنه قال اتفقوا على أن فيما نحن فيه التفاتا واحدا و فيه نظر لأن الزمخشري و من تابعه على أن الالتفات خلاف الظاهر مطلقا فإن كان التقدير قولوا الحمد للّه ففي الكلام المأمور به التفاتان، أحدهما في لفظ الجلالة و أصله الحمد لك لأنه تعالى حاضر، و الثاني في إياك لمجيئه على خلاف أسلوب ما قبله و إن لم يقدر كان في الحمد للّه التفات من التكلم للغيبة لأنه تعالى حمد نفسه و لا يكون في إياك التفات لتقدير قولوا معها قطعا فأحد الأمرين لازم للزمخشري و السكاكي إما أن يكون في الآية التفاتان أو لا يكون التفات أصلا هذا إن قلنا برأي السكاكي كما يشعر به كلام الزمخشري في الكشاف لأنه جعل في الشعر الذي ذكره ثلاث التفاتات و إن قلنا برأي الجمهور و لم نقدر قولوا إياك نعبد فإن قدر قولوا قبل الحمد للّه كان فيه التفات واحد و بطل قول الزمخشري إن في البيت ثلاث التفاتات انتهى. و هو كلام يغني النظر فيه عن شرح حاله فليفهم.

«البحث الخامس» في سر تكرار إياك فقيل للتنصيص على طلب العون منه تعالى فإنه لو قال سبحانه إياك نعبد و نستعين لاحتمل أن يكون إخبارا بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب و قيل إنه لو اقتصر على واحد ربما توهم أنه لا يتقرب إلى اللّه تعالى إلا بالجمع بينهما و الواقع خلافه. و قيل إنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال: الدار بين زيد و بين عمرو، و فيه أن التكرير إنما يكون تأكيدا إذا لم يكن معمولا لفعل ثان و إياك الثاني في الآية معمول لنستعين مفعول له فكيف يكون تأكيدا، و قيل إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة، و عندي أن التكرار للإشعار أن حيثية تعلق العبادة به تعالى غير حيثية تعلق طلب الاستعانة منه سبحانه و لو قال إياك نعبد و نستعين لتوهم أن الحيثية واحدة و الشأن ليس كذلك إذ لا بد في طلب الإعانة من توسط صفة و لا كذلك في العبادة فلاختلاف التعلق أعاد المفعول ليشير بها إليه. «البحث السادس» في سر إطلاق الاستعانة فقيل ليتناول كل مستعان فيه فالحذف هنا مثله في قولهم فلأن يعطي في الدلالة على العموم و رجح بلزوم الترجيح بلا مرجح في الحمل على البعض و أيضا قرينة التقييد خفية و بأنه المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما و بأن عموم المفعول متضمن لنفي الحول و القوة عن نفسه و الانقطاع بالكلية إليه تعالى عمن سواه فهو أولى بمقام العبادة و إلى ترجيحه يشير صنيع العلامة البيضاوي، و قال صاحب الكشاف: الأحسن أن يراد الاستعانة به و بتوفيقه على أداء العبادة و يكون قوله تعالى: اهْدِنَا بيانا للمطلوب من المعونة كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا اهدنا الصراط المستقيم و إنما كان أحسن لتلاؤم الكلام و أخذ بعضه بحجزة بعض انتهى، و وجه التخصيص حينئذ كمال احتياج العبادة إلى طلب الإعانة لكونها على خلاف مقتضى النفس إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي و القرينة مقارنة العبادة و لا خفاء في وضوحها و كون عموم المفعول متضمنا لما ذكر معارض بنكتة التخصيص و الرواية عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما لعلها لم تثبت كذا قيل: و الإنصاف عندي أن الحمل على العموم أولى ليتوافق ألفاظ هذه السورة الكريمة في المعنى المطلوب منها و لأن التوسل بالعبادة إلى تحصيل مرام يستوعب جميع ما يصح أن يستعان فيه ليدخل فيه التوفيق دخولا أوليا أولى من مجرد التوفيق و يلائمه الصراط المستقيم فإنه أعم من العبادات و الاعتقادات و الأخلاق و السياسات و المعاملات و المناكحات و غير ذلك من الأمور الدينية و النجاة من شدائد القبر و البرزخ و الحشر و الصراط و الميزان و من عذاب النار و الوصول إلى دار القرار و الفوز بالدرجات العلى و كلها مفتقر إلى إعانة اللّه تعالى و فضله. و أيضا طرق الضلالات التي يستعاذ منها بغير المغضوب عليهم و لا الضالين لا نهاية لها و باستعانته يتخلص من مهالكها. و أيضا لا يخفى أن المراد بالعبادة في إياك نعبد هي و ما يتعلق بها و ما تتوقف عليه فإذا توافق الاستعانة في العموم. و أيضا قوله‏ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏ مطلق شامل كل إنعام، و أيضا لو كان المراد الاستعانة به و بتوفيقه، على أداء العبادة يبقى حكم الاستعانة في غيرها غير معلوم في أم‏

روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم، ج‏1، ص: 94

الكتاب و لا أظن أحدا يقول إنه يعلم من هذا التخصيص فلا أختار أنا إلا العموم و

قد ثبت في الصحيح عنه صلى اللّه تعالى عليه و سلم أنه قال لابن عباس: «إذا استعنت فاستعن باللّه» الحديث‏

و هو ظاهر فيه و لعل ابن عباس من هنا قال به في الآية إذا قلنا بثبوت ذلك عنه و هو الظن الغالب فمن استعان بغيره في المهمات بل و في غيرها فقد استسمن ذا ورم و نفخ في غير ضرم أفلا يستعان به و هو الغني الكبير أم كيف يطلب من غيره و الكل إليه فقير؟ و إني لأرى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه من رأيه و ضلة من عقله فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزة من غيره فذلوا و راموا الثروة من سواه فافتقروا و حاولوا الارتفاع فاتضعوا فلا مستعان إلا به و لا عون إلا منه.

إليك و إلا لا تشد الركائب‏

و منك و إلا فالمؤمل خائب‏

و فيك و إلا فالغرام مضيع‏

و عنك و إلا فالمحدث كاذب‏

و قد قرأ عبيد بن عمير الليثي و زيد بن حبيش و يحيى بن وثاب و النخعي نعبد- بكسر النون- و هي لغة قيس و تميم و أسد و ربيعة و هذيل و كذلك حكم حروف المضارعة في هذا الفعل و ما أشبهه كنستعين مما لم ينضم ما بعدها فيه سوى الياء لاستثقال الكسرة عليها على أن بعضهم قال يجل بكسر ياء المضارعة من وجل و قرأ بعضهم يعلمون و قرأ الحسن و ابن المتوكل و أبو مخلف يعبد بالياء مبنيا للمفعول و هو غريب و عن بعض أهل مكة أنه قرأ نعبد بإسكان الدال و قرأ الجمهور نعبد- بفتح النون و ضم الدال- و هي لغة أهل الحجاز و هي الفصحى‏ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ الهداية دلالة بلطف لدلالة اشتقاقه و مادته عليه و لذا أطلق على المشي برفق تهاد و سميت الهداية لطفا و قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى‏ صِراطِ الْجَحِيمِ‏ [الصافات: 23] وارد على الصحيح مورد التهكم على حد فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] و يقال هداه لكذا و إلى كذا فتعديه باللام و إلى إذا لم يكن فيه و هداه كذا بدونهما محتمل للحالين حتى لا يجوز في‏ وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] لسبلنا أو إلى سبلنا إلا بإرادة الإرادة في جاهدوا أو إرادة تحصيل المراتب العلية في سبلنا و من ثم جمعها و

قد ورد: من عمل بما علم ورثه اللّه تعالى علم ما لم يعلم،

و قد يقال المراد بيان الاستعمال الحقيقي، و أما باب التجوز فواسع و هل يعتبر في الدلالة الإيصال أم لا فيه اختلاف المتأخرين من أهل اللسان ففريق خصها بالدلالة الموصلة و آخرون بالدلالة على ما يوصل، و قليل قال: إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الإيصال و لا تسند إلا إليه تعالى كما في الآية و إن تعدت باللام أو إلى كانت بمعنى إراءة الطريق فكما تسند إليه سبحانه تسند إلى القرآن كقوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏ [الإسراء: 9] و إلى النبي صلى اللّه تعالى عليه و سلم كقوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏ [الشورى: 52] و الكل من هذه الآراء غير خال عن خلل، أما الأول فيرد عليه قوله تعالى: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى‏ عَلَى الْهُدى‏ [فصلت: 17] و الجواب بجواز وقوعهم في الضلال بالارتداد بعد الوصول إلى الحق لا يساعده ما في التفاسير و التواريخ فإنها ناطقة بأن الجم الغفير من قوم ثمود لم يتصفوا بالإيمان قطعا و ما آمن من قومه إلا قليل و قد بقوا على إيمانهم و لم يرتدوا على أن صاحب الذوق يدرك من نفس الآية خلاف الفرض كما لا يخفى، و أما الثاني فيرد عليه قوله تعالى لحبيبه صلى اللّه تعالى عليه و سلّم‏ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ‏ [القصص:

صفحه بعد