کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

عناية القاضى و كفاية الراضى

عناية القاضى و كفاية الراضى


صفحه قبل

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 31

التحقيق وضعت لأنواع و أعراض تتعدّد بتعدّد محالها القائمة بها كزيد و عمرو، و قد تجعل أعلاما شخصية باعتبار أن المتعدّد باعتبار المحلّ يعدّ واحدا في العرف، و هو إنما يتمّ إذا لم تكن موضوعة للمفهوم الاجماليّ و تردّد السبكيّ في أسماء العلوم هل هي أعلام بالغلبة أو منقولات عرفية كالدابة و رجح الثانية، و سيأتي تتمة لهذا المبحث في تعريف الجلالة الكريمة.

قوله: (لأنها مفتتحه و مبدؤه الخ) الأمّ في اللغة الأصل و الوالدة ثم أطلق على الفاتحة و محكم القرآن قال تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ‏ [سورة آل عمران، الآية: 7] و مفتتح اسم مفعول أو اسم مكان أو مصدر ميمي، و قال صاحب القاموس في شرح الديباجة المفتتح لغة شائعة فصيحة يقال فتحه و افتتحه نقيض أغلقه، و أمّا المختتم فغير فصيحة، و لا تكاد توجد عند لغويّ ثبت، و المراد به غير الأوّل و لذا عطف عليه قوله و مبدؤه عطفا تفسيريا، و لما كان افتتاحه و ابتداؤه بها في كتابة المصاحف، أو في التلاوة، أو في الصلاة أو في النزول بناء على أنها أوّل سورة نزلت و يتلوها ما عداها في ذلك جعلت أمّا و أصلا له و منشأ بطريق التسبب لأنّ الولد يتكوّن و يوجد بعه أمّه، و لذلك سميت أساسا لتوقف بقية البناء و ابتنائه عليه، و وجوده بعده و بهذا التقرير سقط ما في بعض الحواشي من الأوهام مثل ما قيل من أنّ المبدأ يقال للجزء الأوّل، و لما منه ذلك الشي‏ء، و الفاتحة مبدأ بالمعنى الأوّل، و أمّ بالمعنى الثاني، فجعل هذا وجها لتسميتها أمّا غير مرضي، و كذا ما قيل أنه لا فائدة لذكر الأصالة و المنشئية إذ ليس في الفاتحة سوى المبدئية، و إن كانتا موجودتين في المنقول عنه، و هي الوالدة و الأمّ في اللغة الأصل، و منه قيل للوالدة: أصل و حينئذ لا يناسب ذكر كان، لأن الجزء الأوّل من الشي‏ء أصل ينبني عليه باقي الأجزاء من حيث أنها أجزاء متأخرة انتهى.

و قيل: إنها سميت أما لجمعها كل خير كأمّ الدماغ الجامعة للحواس، أو لأنها مفزع أهل الإيمان كما تسمى الراية أمّا و ركاكته ظاهرة، فإن قلت: زعم بعض فضلاء العصر أنّ قوله في الكشاف، و تسمى أمّ القرآن لأنّ أم الشي‏ء أصله و هي مشتملة على كليات معاني القرآن أولى مما ذكره المصنف، لأنّ الاشتمال أنسب بالأمّ من الافتتاح، و المبتدئية بمعنى الابتداء، و إن كان ما ذكره صحيحا أيضا.

قلت: هذا و هم منه فإنّ المصنف ذكر ما في الكشاف بعينه و زاد عليه وجها آخر قدّمه عليه إشارة لأرجحيته عنده لأنّ أصل معنى القرآن و الكتاب الألفاظ لا المعاني، و هو فيما اختاره باق على أصله بخلافه في الوجه الثاني فإنه محتاج إلى التجوّز أو التقدير. أي أمّ معاني القرآن، و هو بعيد كحمل القرآن على المعاني، و هذا لم ينبه عليه أحد و تنبه له.

و أعلم أنّ في كلام المصنف هنا وجهين:

أحدهما: أن يكون قوله مفتتحه بيانا لوجه التسمية بفاتحة الكتاب، و مبدؤه لأمّ القرآن لفا

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 32

أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على اللّه سبحانه و تعالى، و التعبد بأمره و نهيه و بيان و نشرا. و قوله: (فكأنها الخ) بيان لمشابهته للمعنى الأصلي للامّ في المبتدئية حقيقة للمعنى العرفي و هو الوالدة فيما له زيادة خصوصية و اشتهار به أعني المبتدئية، و المنشئية ادّعاء دون المتبدئية الأوّلية، و كونه مفتتحا غنيّ عن البيان.

و الثاني: أن يكون مبدؤه عطفا تفسيريا و هما علة لقوله أمّ القرآن، و ترك تسميتها بالفاتحة لظهوره.

قال الفاضل الليثيّ: و هو وجه وجيه إلا أنه مخالف لما نقل عن المصنف في حواشيه من أنّ قوله لأنها مفتتحه تعليل لما تضمنه قوله سورة فاتحة الكتاب من الجملة الخبرية التي تقديرها تسمى فاتحة الكتاب، في هذا الوجه يكون المنقول عنه بالمعنى العرفيّ أنسب، كما أنّ الوجه الأوّل بالأصليّ أنسب، و إن جرى كل منهما في كل منهما. و قوله: (و لذلك) أي لكونها أصلا و هو ظاهر، ثم أنها تسمى أيضا أمّ الكتاب، و فاتحة القرآن و وجهه يعلم مما مرّ، ثم أنه قيل:

إنّ في كلام المصنف إشارة إلى أنّ التسمية بفاتحة الكتاب من قبيل تسمية المكان باسم الفاعل، و هي من فروع الإسناد إليه، و إذا كان مصدرا كالعافية، فمن فروع تسمية المكان بالمصدر و جعلها من تسمية المفعول بالمصدر إذ فاتحة الشي‏ء أوّله و الفتح يتعلق به أوّلا و بتبعيته للمجموع، فهو المفتوح الأوّل بعيد إذ تسمية المفعول بالمصدر غير مشهورة، و قيل: فاتحة الشي‏ء، و أوّله آلة لفتحه، و هو من تسمية الآلة بالفاعل كالباصرة و السامعة، و على اشتقاقها تاؤها للنقل لا للتأنيث بتقدير طائفة فاتحة و لا للمبالغة لقلة مجيئه في غير صيغ المبالغة، و عدم مناسبته هنا و جعله من النسب كتامر بعيد غير مسموع إذ هو مقصور على السماع انتهى.

و لا يخفى ما فيه من التعسف، لأنه ليس بمكان حقيقيّ، فنقل اسم الفاعل إلى المكان المتجوز به عن الأوّل مع صحة تسمية الأوّل فاتحا لحصول الفتح به تطويل بغير طائل، و قد مرّ ما فيه غنية عنه، و الذي حمله على هذا قوله مفتتحه. قوله: (أو لأنها تشتمل على ما فيه الخ) في بعض الحواشي أن المراد جميع ما فيه يعني ادّعاء و اجمالا و يأباه قوله فيما بعد أو على جملة معانيه إلا أن يكون تفننا في التعبير، و الذي في الحواشي الشريفية و غيرها تفسيره بأصول ما فيه، و مقاصده، و هو الظاهر فلا يرد عليه أنّ فيه القصص و غيرها، و إن قيل إنها ترجع لما ذكر لما فيها من العبرة و الإتعاظ، و هذا هو الوجه الثاني لكونها أمّا. و عليه اقتصر في الكشاف كما مرّ. قوله: (و التعبد بأمره و نهيه) أي التكليف، و هو في إياك نعبد لأنّ العبادة قيام العبد بما تعبد به من امتثال الأوامر و اجتناب النواهي كما قيل، و أورد عليه أنّ في قوله إياك نعبد التنسك الذي هو وصف العبد لا التكليف، و أجيب بأنه بناء على أنه على لسان العباد تعليما لهم و طلبا لعبادتهم فهو تكليف، ثم إنّ تفسير التعبد بالتكليف لا تساعده اللغة إلا أن يقال هو تفسير له بلازم معناه، و حقيقته اتخذه عبدا، أو تضمين لتعدّيه بالباء كذا قيل.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 33

وعده و وعيده أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، و الأحكام العملية التي هي سلوك (و أنا أقول) الذي دعا الشريف و غيره لتفسير التعبد بما ذكر أنه ليس المراد مطلق التنسك لتقييده بأمر اللّه و نهيه، بل تعبد المرء تنسكه بما كلفه الشارع به، فتفسيره بالتكليف إمّا لأنه أظهر في العبادة المقصودة هنا سواء كانت الآية تعليما للعباد أم لا نعم إذا كانت تعليما كانت أظهر و أنور فهو كقولهم حصول الصورة أو هو حقيقة لغة قال السمين في «مفرداته»: قوله تعالى: أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ‏ [سورة الشعراء، الآية: 22] أي اتخذّتهم عبيدا و قيل ذللتهم ذلة العبيد و قيل كلفتهم الأعمال الشاقة التي يكلف مثلها العباد، و بهذا وقفت على ما في كلام هذا القائل، و أن قوله لا تساعده اللغة من قصور الباع و عدم الإطلاع، ثم إنّ الإيمان باللّه و رسله داخل في التعبد، لأنه مع توقف العبادة عليه مأمور به في آمنوا باللّه و رسله، فلا يتوهم أنه خارج و هو أجلّ المقاصد، و اشتمالها على الثناء من الحمد و إجراء الصفات المذكورة، و التعبد في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ كما مرّ و في قوله: الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ إن أريد به ملة الإسلام، و قيل: هو في قوله الحمد للّه لأنه بتقدير قولوا و فيه نظر، و أمّا الوعد و الوعيد، ففي قوله:

أَنْعَمْتَ‏ الْمَغْضُوبِ‏ عليهم أو في يوم الدين و الجزاء لتناوله الثواب و العقاب، و لما كانت مقاصد الأمور نتائجها و النسل أعظم المقاصد و نتيجة مقدّمات الأعمار شبهت بالولد، و لذا سمي نتاجا و وجه الشبه ظاهر كما قيل:

لنا من بنات الفكر

نسل بها نسلو

و إنما كانت هذه مقاصد و أصولا، لأنه أنزل إرشادا للعباد، إلى معرفة المبدإ و المعاد ليؤدّوا حق المبدإ بامتثال أوامره و نواهيه، و يدّخروا للمعاد مثوبة كبرى، و لأنه كافل لسعادة الإنسان، و ذلك بمعرفة مولاه، و التوصل بما يقرّ به و التنصل عما يبعده منه، و الباعث عليه الوعد و الزاجر عنه الوعيد، و إلا حجب عن نور الأنوار، و هوى في ظلمات بعضها فوق بعض، و أمّا الدعاء و السؤال، فوسيلة يعتبر منها ما تعلق بالمعاد، و لا يرد اشتمال غير هذه السورة على مثل ما ذكر لأن وجه التسمية لا يلزم اطراده و لأنها استحقته بالسبق إليه، و الترتيب الخاص و الإجمال المفصل في غيرها فضاهت مكة في تسميتها أمّ القرى لما تقدّمت، و دحيت الأرض عنها، و تمام تفصيله في شروح الكشاف، و في بعض الحواشي أنّ ابن سيرين كره تسميتها أمّ القرآن و الحسن البصري تسميتها أمّ الكتاب، و ردّ بثبوته في الصحيحين و غيرهما كحديث «الحمد للّه أمّ القرآن و أمّ الكتاب» «1» قوله: (أو على جملة معانيه الخ) الجملة بمعنى الجميع، و بمعنى الإجمال و المراد الثاني، و الحكم جمع حكمة و هي لغة العلم الحق المحكم عن قبول الشبه، و لذا فسرها ابن عباس في قوله عز و جل: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً

(1) أخرجه أبو داود 1457 و الترمذي 3123 من حديث أبي هريرة و قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح اه.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 34

الطريق المستقيم، و الاطلاع على مراتب السعداء، و منازل الأشقياء و سورة الكنز، و الوافية، كَثِيراً [سورة البقرة، الآية: 269] بعلم القرآن و فسرها الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية، و هو قريب مما قبله، و النظرية نسبة للنظر بمعنى الفكر و المراد ما لا تعلق له بالعمل من العقائد الحقة الشاملة لأمر المعاد و النبوّة و سائر الإلهيات و نحوها مما المقصود منه بالذات العلم دون العمل، و الأحكام مرّ تفسيرها، و العملية منها العبادات، و كل ما ذكر في الفروع، و الأوّل مستفاد من أوّل السورة إلى قوله: يَوْمِ الدِّينِ‏ و الثاني من قوله:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ و ما بعده، و سلوك الطريق المستقيم من قوله اهدنا الصراط، و الإطلاع بتشديد الطاء افتعال من طلع ظهر، و بسكونها أفعال منه و الأوّل أظهر و هو من قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏ الخ و فيه، وعد و وعيد فدخلا فيه، و الأمثال و القصص المقصود بها الاتعاظ، و كذا الدعاء و الثناء فهذه جملة المعاني القرآنية إجمالا مطابقة، و التزاما فقوله من الحكم بيان لجملة و قوله: (التي الخ) في موصوفه احتمالات، لأنه يحتمل أن يكون صفة جملة أو معان أيضا المبينة بالحكم، و الأحكام فيكون في المعنى صفة لهما من غير تكلف، كما في القول بأنه صفة لهما معا و ليس صفة للأحكام وحدها كما في بعض الحواشي قيل: لأن السلوك شامل للنظرية و العملية، و قيل لأنه لا يصح الحكم عليها بأنها سلوك الطريق المستقيم، لأنه العمل لا الحكم فيحتاج إلى تقدير مضاف أي أحكام الخ، و كلاهما على طرف الثمام، و منهم من جعل المشير إلى الأحكام العملية الصراط المستقيم، و إلى النظرية ذكر السعداء و الأشقياء على أنه لف و نشر غير مرتب مع أنّ ذكر الصفات دال على ما هو من الحكم النظرية أيضا، و قوله و الإطلاع الخ إن قرئ بالجرّ على أنه معطوف على الحكم في قوله من الحكم فالأقسام ثلاثة، و الإطلاع على مراتب السعداء للإقتداء، و على منازل الأشقياء للإتقاء، و الأوّل من قوله:

أَنْعَمْتَ‏ و الثاني من‏ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ‏ الخ و هذا لا يختص بالنظرية، و لا بالعملية بل هو من آثارهما و ثمراتهما، و إن رفع فهو معطوف على قوله سلوك الطريق على أن التي صفة للحكم، و الأحكام معنى أو حقيقة لا للثاني، و لذا قيل الإطلاع ناظر إلى الحكم النظرية، و لم يراع ترتيب اللف محافظة على ما عليه التنزيل من تقديم الأوّل أعني‏ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ و تأخير الثاني أعني الذين أنعمت الخ. و قد قيل عليه أيضا: إنه محتاج إلى التقدير أي بعيد سلوك الخ أو أصله التي غايتها أي المقصود منها، فلما حذف المضاف ارتفع الضمير، و انفصل أو هو محمول عليه مبالغة و ادّعاء، و ليس هذا مخصوصا بكونه صفة للأحكام فقط كما توهم.

(قلت) نقل هنا بعض أهل العصر عن المصنف حاشية قال فيها: الحكم النظرية معرفة اللّه تعالى بصفات الكمال المشتمل عليها الحمد للّه إلى قوله‏ يَوْمِ الدِّينِ‏ و الأحكام العملية هي سلوك الطريق المستقيم، و الإطلاع على مراتب السعداء و الأشقياء المشتمل عليها إِيَّاكَ نَعْبُدُ إلى آخر السورة انتهى.

فإن صح عنه ما ذكر فهو مخالف لما مرّ، و صاحب البيت أدرى بالذي فيه تدبر، و عبر

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 35

في السعداء بالمراتب لاشعاره بالعلوّ و الرفعة لأنه من رتب بمعنى انتصب قائما كما في الفائق، و في الأشقياء بالمنازل لأنه من النزول، و هو الانحطاط المقابل به كما قيل: درج الجنة و درك النار، و الفرق بين التوجيهين قد مرّ، و قيل: مبنى الأوّل على اشتمال ألفاظه باعتباره جميع أجزائها و الثاني على اشتمالها باعتبار ما هو دعامتها و لو عكس كان أظهر، و لذا قيل: إنّ الأوّل بيان لاشتمالها على ما يستفاد منه أصول المعاني القرآنية و أساس مقاصدها. و الثاني لاشتمالها على جملة مقاصده المستفادة من تلك الأصول و كونها أما على هذا لتأخر التفصيل عن الإجمال تأخر الولد عن الأمّ، كما قيل في أمّ القرى و قيل إنّ هذا التوجيه متضمن لوجه تسميتها فاتحة أيضا لأن ما يدلّ على الشي‏ء إجمالا حقه أن يكون فاتحة، كعنوان الكتاب الدال على ما فيه، و يدل عليه عطف قوله و تسمى، و ذكر المبدإ بعد المفتتح و المنشأ بعد الأصل، و التأسيس أولى من التأكيد مع مناسبة ألفاظه للفتح لفظا و معنى، و المبدإ لللامّ، و لا يخفى ما فيه من التكلف مع أنه قد اعترف بما ينافيه و قد علم مما ذكرناه ضعف ما قيل: من أنّ ما ذكر هنا مستفاد من الوجه السابق لأنّ الحكم، و هي الأحكام الاعتقادية تستفاد من إجراء صفات الكمال عليه تعالى، و الأحكام العملية من تفاصيل التكاليف المشار إليها بالتعبد، و الإطلاع المذكور من الوعد و الوعيد، و نوقش بأن الإطلاع من قبيل العلم و المعاني معلومات فكيف يعدّ منها، و دفع بأنّ المراد به الاطلاع بقرينة السياق و قال بعض المدققين: لا يخفى ما في جعل الثناء مقابلا للتعبد أي التكليف بالعبادة، و الوعد و الوعيد من عدم المناسبة، و أيضا لا يظهر من الدليل جعل الثناء مقصودا أصليا من الكتاب بل المقصود معرفته تعالى و قد أشير إليها بقوله‏ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ أي موجدهم و مربيهم، و أبعد منه جعل الوعد و الوعيد مقصودين و هما مقحمان باعثان على العبادة، و قد عرفت مما قدمناه الجواب عنه، و بقي هنا وجوه أخر لم نسودّ بها وجه القرطاس، فإن قلت اشتمال الفاتحة على جميع المعاني القرآنية مناف لما في الحديث من أنها تعدل ثلثي‏ «1» القرآن قلت: إن صح فلا منافاة، لأنّ الإجمال لا يساوي التفصيل فزيادة مبانيه تنزل منزلة ثلث آخر في الثواب، و من العجب ما قيل هنا من أنّ ذلك لاشتمالها على دلالة التضمن و الالتزام، و هما ثلثا الدلالات، و قيل الحقوق ثلاثة حق الحق على العبد و عكسه، و حق العبد على العبد، و قد تضمنت الأوّلين فلذا جعلت ثلثيه. قوله: (و سورة الكنز الخ) لذلك أي لاشتمالها على مقاصد القرآن، أو جملة معانيه التي هي كالجواهر النفيسة المكنوزة لأنها ذخر المعاد، و السعادة الأبدية فتفي، و تكفي في ذلك، و قيل سميت وافية لأنها لا تنصف في الصلاة كغيرها و كافية لأنها تكفي المصلي دون غيرها، و هذه الألفاظ كلها

(1) «فاتحة الكتاب تعدل ثلثي القرآن» ذكره السيوطي في الدر 1/ 23 من حديثا بن عباس و قال: أخرجه عبد بن حميد في مسنده بسند ضعيف.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 36

و الكافية لذلك و سورة الحمد، و الشكر، و الدعاء، و تعليم المسئلة لاشتمالها عليها منصوبة عطفا على قوله أمّ القرآن، و هو الموافق لتصريحهم بأنّ الوافية و الكافية بدون إضافة سورة من أسمائها، و إن وقع في كلام بعضهم خلافه و جرهما يستلزم حذف جزء العلم، أو العطف عليه، و قد قيل حذفه جائز إذا أمن اللبس كما سيأتي في شهر رمضان و إن كان من قبيل حذف بعض الكلمة نظرا لأصله إلا أنه قيل عليه أنه في مقام بيان الاسم لا يؤمن الإلباس و إنما يلزم ما ذكر لو لم يكن كل منهما بدون السورة، و قد قيل به، و يؤيده ما جاء في الحديث مما يدل على أنه يطلق عليها الكنز بدون السورة و هو قوله عليه الصلاة و السلام «إن اللّه قال فيما منّ به على رسوله إني أعطيتك فاتحة الكتاب و هي كنز من كنوز عرشي» «1» و قد قالوا إنه سبب تسميتها به ثم إنّ كونها كنزا أو من كنز استعارة و تمثيل لعظم ما فيها و هو أنفس من الجواهر بل هي عنده من الحجارة، أو أخس و جعل العرش، و السموات مهبطه، لأنها محل ابتداء ظهوره و فيضه، و لذا رفعت الأيدي في الدعاء نحوها و إن تنزه اللّه عن المحل و الجهة و قيل: إنه من المتشابه الذي استأثر به و هو أسلم. قوله: (سورة الحمد و الشكر الخ) لاشتمالها عليها أي على المذكورات أمّا اشتمالها على الحمد فظاهر، و كذا على الشكر لأنه في مقابلة نعمة الربوبية و الرحمة الشاملة كما سيأتي، و ليس هذا مبنيا على تقدير قل كما قيل و استشكل بأنه في مقابلة النعمة بل النعمة الواصلة للشاكر، و أين ذلك هنا إلا أن يقال إنّ توصيفه برب العالمين يشعر بالعلمية و أنّ الحمد لذلك كما صرّح به الإمام، و هذا لا يتم إذا جعل حمدا من اللّه لذاته الأقدس، و لذا قيل إنه شكر إذا قرأه العبد في مقابلة نعمة، و هو تكلف و لا يخفى سقوطه، لأنه سواء قدّر قل، أولا فإن كلّ قارئ منعم عليه فإذا حمد كان في مقابلة ذلك، و لا حاجة إلى ما قيل إنه يؤخذ من قوله: (أنعمت الخ) بل لا وجه له، فإنها مشتملة على الحمد و هو أعم من الشكر و الحمد الحقيقي شكر لغويّ فتدبر. و قوله: (و الدعاء) لوقوعه فيها و تعليم المسألة بأن يثنى و يعظم المسؤول، ثم يتوجه إليه بصفاته، و المسألة هنا مصدر ميمي بمعنى السؤال، و المراد تعليم كيفية السؤال، و طريقه و ليس محل السؤال لاحتياجه إلى التكلف، و الشكر و ما بعده مجرورات، و فيه ما مرّ من حذف جزء العلم أو العطف عليه، و كون التسمية بمعنى الإطلاق لا وضع العلم، و نصبها على أنّ العلم الشكر و ما بعده بعيد، و في التفسير الكبير الاسم العاشر السؤال يروى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «إن رب العزة سبحانه و تعالى قال: من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» «2» و قد فعل الخليل عليه الصلاة و السلام‏

(1) أخرجه ابن الضريس في «فضائل القرآن» 144 و البيهقي في «الشعب» 2/ 448 من حديث أنس، و إسناده ضعيف لأخل صالح بن بشير المرّي.

(2) أخرجه الترمذي 2926 من حديث أبي سعيد الخدري، و قال: هذا حديث حسن غريب ا ه.

و أخرجه البيهقي في «الشعب» 573 و الأصبهاني في «الترغيب» 1364 من حديث جابر.-

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 37

ذلك حيث قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ‏ [سورة الشعراء، الآية: 78] إلى قوله: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏ [سورة الشعراء، الآية: 83] ففي هذه السورة وقعت البداءة بالثناء عليه تعالى، ثم ذكر العبودية، ثم ذكر الاستعانة، ثم وقع الختم على طلب الهداية.

و أورد عليه أنه لا يتحصل مما ذكره الدلالة على تسميتها بالسؤال الذي أراده، ثم مقتضى الحديث تجرّد الذكر عن السؤال و السورة جامعة بينهما، فلا مناسبة لهذا الحديث هنا، و ليس كما توهمه المعترض بل المراد أنّ تسميتها بالسؤال، لأنها مشتملة على تعليمه و بيان كيفيته اللائقة بالكاملين كما مرّ، و يشهد له قصة الخليل عليه الصلاة و السلام، و كذلك هذا الحديث القدسي أيضا بناء على أنّ المراد منه اشتغاله بذكره في ابتداء توجهه للسؤال لأنه نصب عينيه و قبلة اقباله، و من أحب شيأ أكثر من ذكره و يؤيده ما ذكره بعده نعم هو لا يخلو من الخفاء و كون المراد بالحديث ما ذكر غير مسلم، و قد سئل بعض التابعين عما ورد في الحديث «أفضل ما دعاني به عبدي، لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد» «1» فقيل كيف سمي هذا دعاء، و هو صرف ذكر، فقال هو دعاء أيضا لحديث «من شغله ذكري» الخ ثم نقل هذا الجواب لبعض السلف فقال: هو كما قال فإنّ الثناء على الكريم سؤال و طلب، فقيل: هل عرف مثله فقال: نعم أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان في قصيدته المشهورة:

أ أذكر حاجتي أم قد كفاني‏

حياؤك إنّ سميتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه من تعرّضك الثناء

و نحوه قول الغنوي:

و إذا طلبت إلى كريم حاجة

فلقاؤه يكفيك و التسليم‏

و هو معنى بديع سيأتي بيانه. قوله: (لاشتمالها عليها) أي على المسألة، و كيفية تعليمها و لو قال: عليه بإرجاع الضمير للتعليم كان أظهر و في تفسير ابن برحان من آداب الدعاء و حلية السؤال، و الضراعة إلى الملك الملك الأمر كله أن يقدّم العبد بين يدي دعائه التوحيد و التعظيم و الإجلال، ثم يحمد اللّه بمحامده التي هو لها أهل، و يثني عليه و يمجده و يتبرأ إليه من حوله و قوّته، ثم يسأل اللّه الهداية إلى ما يرضيه، و حسن العون على ذكره، ثم يسأل اللّه بعدما ما

و أخرجه البيهقي في «الشعب» 572 و ابن عبد البر في «التمهيد» 6/ 45- 44 من حديث عمر.

(1) لم أره بهذا اللفظ و جاء في سنن الترمذي 3585 «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، و خير ما قلت أنا و النبيّون قبلي: لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، و هو على كل شي‏ء قدير» قال الترمذي:

هذا حديث غريب من هذا الوجه و حماد بن أبي حميد، ليس بالقوي عند أهل الحديث ا ه.

صفحه بعد