کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

عناية القاضى و كفاية الراضى

عناية القاضى و كفاية الراضى


صفحه قبل

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 61

...

استعنت باللّه، و قد ورد في لسان الشرع و هو إذن في إطلاقه، فلا يقال إنه موهم للنقص فلا يصح هنا و قد يقال إنّ الأكثرية علمت بنقل الثقات و قد قال سيبويه رحمه اللّه تعالى أصل معاني الباء الإلصاق و جميع معانيها ترجع له و هو إن لم يكن عين المصاحبة فليس ببعيد منها فتأمله.

و أمّا الثاني: و هو أنّ التبرك باسم اللّه تعالى تأدّب الخ فردّ بأنّ جهة الابتذال غير ملحوظة هنا بل الملحوظ كون الفعل غير معتد به شرعا ما لم يصدّر باسمه تعالى كما مرّ و هو يعارض التبرك بل أرجح منه، و في الانتصاف أنّ معناها اعتراف العبد في أوّل فعله بأنه جار على يديه و أنّ وجود فعله بقدرة اللّه و إيجاده لا بفعله تسليما للّه من أوّل الأمر و الزمخشريّ لا يستطيع هذا لنزعات الشيطان الاعتزالية، و ليت شعري ما يصنع بقوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ إذ المراد أنه لا يطلب المعونة إلا من اللّه و التوفيق على عبادته في جميع أحواله و لا يلزم من كون اللّه معينا ما تصوّر في القلم كأنه يقول اقرأ باستظهاره و مكانته عند مسماه، و في الحقيقة هو المعين في كل جزء كما قاله الطيبي رحمه اللّه و لا يتوهم اتحاد المستعان و المستعان به، أو عدم الفرق بينهما كما قيل، و قيل عليه: إنه تعصب لأنه يريد أنّ في التبرك تعظيما و تكريما ليس في الآلة و إن لم يدل على التحقير و اللفظ الدال على التعظيم في حقه تعالى أولى من غيره مما لا يدل عليه أو يوهم خلافه، و إن كان معناه صحيحا ثابتا له ألا ترى أنه لا يقال خالق الخنازير و إن كان خالق كل شي‏ء، و لك أن تقول التبرك ليس معنى الباء كما سيأتي، و ما ذكر إنما هو فيما يدل على الآلة وضعا بالمادّة، كلفظ آلة أو بالهيئة كمفتاح، فإنه لا يطلق عليه تعالى، و لذا استقبح ابن رشيق في العمدة قول أبي تمام:

و اللّه مفتاح باب المعقل الأشب‏

أمّا الحروف الداخلة على الآلة إذا دخلت على ما يتعلق به تعالى بطريق المشابهة المكنية، و قامت القرينة على وجه الشبه لا نقص فيه فلا مانع من الحمل عليه إذا قصد به ما يدل على التعظيم، و إيهام ما لا يليق و إن كفى مرجحا إلا أنه مغتفر لبعده و ظهور قرينة ضدّه فإذا ساعده المرجح رجح.

و أما الثالث: و هو أنّ المشركين كانوا يبدؤن بأسماء آلهتهم للتبرك الخ فغير مسلم بل كانوا يقصدون الاستعانة أيضا لعدّها وسايط يتقرّب بها إليه تعالى و هذا شبيه بالآلة.

و أما الرابع: و هو إنّ المصاحبة أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل الخ فقد مر أنّ اقرأ يدل على ذلك دون ابتدى‏ء و لا يلزم من مصاحبة شي‏ء لشي‏ء ملابسته لجميع أجزائه في جميع أزمانه، و الآلة لا بد من وجودها إلى آخر الفعل و إلا لم يتم، و فيه أنّ تقدير أقرأ إذا دل على ذلك فمع ما يدل على المصاحبة يكون أظهر و لذلك قال أدل و أمّا الخامس و هو أنّ التبرك معنى ظاهر الخ فإن أراد أنّ المصاحبة معناه التبرك، فظاهر البطلان لأنه لا تبرك في نحو دخلت عليه‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 62

...

بثياب السفر و قد مثلوا لها برجع بخفي حنين و معناها خائبا كما صرحوا به فكيف يتوهم التبرك فيما هو بمعنى الخيبة، و إن أراد أنه يفهم منها بالقرينة إذ لا معنى لمصاحبتها لجميع الفعل إلا مصاحبة بركتها فلك أن تقول تلك القرينة باقية بعينها، فتفيده إذا قصد الآلة لتوقف الاعتداد بها شرعا عليها، و أما كون التبرك معنى ظاهرا لكل أحد، فغير مسلم أنه مأخوذ من خصوص معنى المصاحبة كما عرفت فما قيل عليه من أن العمدة و النظر للخواص، و العوامّ كالهوامّ، و الدقة من أسباب الترجيح لا الرد مما لا حاجة إليه و إن ردّ بأنه ذهول عن المراد فإنه ينادي على أنّ كل أحد من الخواص و العوام و البله و الحذاق مأمورون بذلك من الشارع فلو لم يكن معناه مكشوفا لكل أحد لكانوا مأمورين بما لم يعرفوه و هو بعيد جدّا.

و أمّا السادس: فإنّ ما يفتح به الشي‏ء لا مانع من كونه جزأ له كالطومار و الكتاب يفتح بأوّل أجزائه، و قد مرّ أنّ الفاتحة مفتتح القرآن مع كونها جزأ بلا خلاف، و لو سلم فجعلها مفتتحا و مبدأ بالنسبة لما عداها و أمّا الاستئناس بالحديث فقد قيل عليه: إن المراد بما في الحديث الإخبار عن أنه لا يضر مع ذكر اسمه شي‏ء من مخلوق، و المصاحبة تستدعي أمرا حاصلا عندها نحو جاءكم الرسول بالحق و القراءة لم تحصل حينئذ فتعذرت حقيقة المصاحبة فيه، و لا وجه له فإن المصاحبة هنا ليست محسوسة، و كونها إخبارا بنفي صحبة الضرر يفهم منه صحبة النفع و البركة كما لا يخفى، و المراد بالبركة دفع الوسوسة عن القارئ مع جزيل الثواب كما قاله ابن عبد السلام رحمه اللّه، فلا يتوهم أنّ القرآن أشرف من البسملة فكيف يطلب له بركتها، و قيل: الباء للإلصاق، و قيل: بمعنى على و قيل زائدة و من الغريب ما قيل إنها قسمية.

(و أعلم): أنّ الجمهور على أنّ الظرف إذا كانت الباء للملابسة و المصاحبة ظرف مستقرّ فإذا كانت للاستعانة و الآلية لغو لأنّ مدخولها سبب للفعل متعلق به بواسطة الباء من غير اعتبار معنى فعل آخر عامل في الظرف و جوّز الرضى، و صاحب اللباب اللغوية على الأوّل أيضا قال في اللباب: و لا صادّ عندي من الإلغاء كما في باء الاستعانة و قال الفاضل الليثي: إنه إذا قصد بباء المصاحبة مجرّد كون معمول الفعل مصاحبا لمجرورها زمان تعلقه به من غير مشاركة في معنى العامل، فمستقرّ في موضع الحال و إن قصد مشاركته فيه فلغو و يؤيده التمثيل بإشترى الفرس بسرجه لاحتماله لكلا المعنيين، فعلى أحد الوجهين يكون مشترى دون الآخر بخلاف نحو نمت بالعمامة، فإنه لا يحتمل اللغوية و كذا ما نحن فيه إذ لم يقصد إيقاع القراءة على اسم اللّه و فيه نظر ظاهر لمنعه خصوصا على مذهب المصنف و قد قيل عليه أيضا أنّ المصاحبة إنما هي المعنى الأوّل، و أما الثاني فهو معنى الإلصاق و ليس بشي‏ء إذ الإلصاق لا ينافي المصاحبة خصوصا على مذهب القائل بعدم انفكاكه عنها و قولهم متبركا ليس لبيان المتعلق بل بيان لمعنى الملابسة، و على المصاحبة تعلقه بالفعل المقدر معنويّ لا صناعيّ، فهو متعلق بحال هو قيد له‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 63

و المعنى متبركا باسم اللّه اقرأ و هذا و ما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا فكأنه متعلق به إلا أنه لا يلائم ظاهر كلامهم، و اختلافهم في تقدير عامل عام أو خاص كما مرّ، و كيف يتأتى هذا في قول الكشاف تعلقت الباء بمحذوف تقديره بسم اللّه اقرأ انتهى.

و ليس المقصود بالحصر حينئذ التبرك على معنى أني لا أبدأ إلا متبركا بل حصر التبرك في اسمه تعالى لأنّ دخول الحصر على مقيد كدخول النفي في وجوهه. قوله: (و المعنى متبركا الخ) هو بيان للمعنى على الثاني لأن المصاحبة و إن كان معناها مجرّد لملابسة لكنها بمعونة قرائن المقام محمولة على الملابسة بطريق التبرك، و لا يصح رجوعه إليهما بناء على أنّ كونه اسم آلة ليس إلا باعتبار التوسل ببركته فيرجع بالآخرة إلى هذا كما يعلم من الكشاف و شروحه:

و ليس المراد أنّ الباء صلة التبرك كما توهم بل هو تصوير للمعنى، و بيان للملابسة فإنها تكون على وجوه شتى فلا يرد أنّ التبرك لم يعدّ من معاني الباء أصلا، و ما قيل من أنّ الباء موضوعة لجزئيات الملابسة، و منها التبرك فحملت على بعض معانيها بقرينة المقام بشي‏ء لأنه لا يلزم من اتصاف بعض جزئياتها بالتبرك كون التبرك موضوعا له لأنه وضع لذوات الجزئيات لا لصفاتها كما لا يخفى، ثم إنّ الشارح المحقق قال في شرح قول الزمخشري هنا على معنى متبركا يعني أنّ التقدير ملتبسا باسم اللّه ليكون المقدر من الأفعال العامة لكن المعنى بحسب القرينة على هذا، فلهذا يجعل الظرف مستقرا إلا لغوا انتهى.

فقيل عليه: إنه مبنيّ على أنّ المقدّر في الظرف المستقرّ عام البتة و إن كان المعنى على الخصوص، فيناقض ما سبق منه من أنّ النحويين إنما يقدرون متعلق الظرف المستقرّ عاما إذا لم توجد قرينة الخصوص، و دفع بأنه لا مناقضة لأنّ العموم الذي نفى لزومه في متعلق الظرف المستقرّ هو العموم المطلق البالغ الغاية، كما أنّ الكون و الحصول الذي دل كلامه هنا على لزومه هو العموم بالإضافة إلى متبركا و نور، بأنّ هذا القسم من الظروف سمي مستقرّا لاستقرار معنى المتعلق فيه و انفهامه منه و كل ظرف يفهم منه حصول شي‏ء ما فيه، فبعضها ما لا يفهم منه إلا ذلك كزيد في الدار و بعضها يفهم منه خصوصيته بوجه كزيد على الفرس، و فيما نحن فيه ليس للظرف نفسه دلالة على التبرك فلو قدر متعلقه متبركا خرج عن كونه مستقرّا بخلاف ما إذا قدّر ملتبسا مع أنّ فيه أيضا خصوصية بالنسبة إلى كائن و حاصل، فإنه لا يخرج عن كونه مستقرّ الانفهام معنى ملتبسا منه، و يدل عليه جعله ملتبسا من الأفعال العامة انتهى و لا يخفى أنّ هذا و إن حصل به التوفيق بين كلاميه إلا أنه معنى معقد من غير فائدة و لذا اعترف بعض الفضلاء بأنه وارد غير مندفع فتدبر. قوله: (و هذا و ما بعده الخ) هذا راجع إلى الوجهين السابقين كما نبه عليه كثير من أصحاب الحواشي و هو الأظهر، فإن خص بالثاني لذكر التبرك و نحوه على أنه من مقول قيل، فالوجه الأول يعلم أمره بالمقايسة على الثاني إلا أنّ بيان متعلقات ما مرّضه و ترك ما اختاره بعيد، و هذا جواب سؤال نشأ مما مرّ، فإنه بحسب الظاهر لا يليق بجناب العزة أن يقول أقرأ متبركا و كذا الاستعانة و نحوها، و التبرك مفهوم من البسملة لأن الاستعانة لا تخلو عنه أيضا

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 64

كيف يتبرك باسمه و يحمد على نعمه و يسئل من فضله و إنما كسرت و من حق الحروف و الحمد من قوله الحمد للّه و كونه على نعمه من قوله رب العالمين الرحمن الرحيم لا لأن الحمد في مقابلة النعمة و السؤال من فضله من قوله: اهْدِنَا الخ و يعلم منه أيضا بقية ما فيها، فلا يرد عليه أنه لم يتعرّض لقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ حتى يتكلف ادخاله فيما ذكر. قوله: لِيَعْلَمُوا* الخ الظاهر أنه بالتخفيف من العلم، و يجوز أن يكون من التعليم و نقل الطيبيّ رحمه اللّه تعالى عن الزمخشريّ أنه قال: مثاله إذا أمرك إنسان أن تكتب رسالة من جهته إلى غيره فإنك تكتب كتبت هذه الأحرف، و إنما تفعله على لسان آمرك، و ليس فيه قل مقدّرة كما يتوهم إذ المراد أنه تعالى حمد نفسه ليقتدى به و مدح النفس، و إن استقبح من العباد يحسن منه تعالى كما قيل:

و يقبح من سواك الشي‏ء عندي‏

و تفعله فيحسن منه ذاكا

مع أنه ليس كذلك مطلقا و لذا قال يوسف عليه الصلاة السلام: اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏ [سورة يوسف، الآية: 55] و قال البلقيني رحمه اللّه: إنّ جعله مقولا على ألسنة العباد نزغة اعتزالية لم يتنبه لها من اتبعه، فقيل: إنه باطل و قيل: وجهه أنّ المعتزلة يقولون أنه يكلم اللّه خلقه الكلام على لسان غيره فتدبر، و قوله في الكشاف هنا: فكيف قال اللّه متبركا باسم اللّه الخ و هي ليست من السورة عنده ظاهر لمن له أذن واعية. قوله: (كيف يتبرك الخ) يتبرك بصيغة المجهول أي يتبرك العباد، و معنى كيف يتبرك كما قاله الشريف بأي عبارة يتبركون فلا يرد أنّ ما ذكر تعليم للتبرك باسمه لا لكيفية التبرك به انتهى.

يعني أنّ الإستفهام هنا حقيقي و هو عن التبرك، فإنه إنما يكون في كلام العبد لا في كلام اللّه تعالى، فكيف استفهم عن كيفيته دونه، فأشار إلى أنّ المراد بالكيفية العبارة المخصوصة لأنها لباسه الذي يبرز فيه، فكأنها كيفية و حالة، فما قيل من أنه استفهام إنكاريّ استعيرت صيغته للاستبعاد لأنّ الإنكار مجاز مشهور، و تعلق الإستفهام سواء كان إنكارا أو استبعادا بمدخول كيف و إقحامه للمبالغة بطريق الكناية عن انتفاء الشي‏ء بانتفاء كيفيته إذ لا بد لكل ماله خطر من الوقوع على كيفية مّا على ما حقق في تفسير قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ‏ [سورة البقرة، الآية: 28] و من لم يتنبه لهذا اعترض بأنه تعليم للتبرك لا لكيفيته، كما سمعته آنفا ليس بشي‏ء لأنه استفهام حقيقيّ لا إنكاريّ حتى يحتاج لما ذكر، و كذا ما قيل من أنه ليس المراد بالكيفية العبارة بل أي كيفية متبرك بها من اعتبار تقديم المتعلق و تأخيره، و الدلالة على الاختصاص و غيره، و فيه أنّ ذلك التقديم و التأخير في النص ليس بحسب اللفظ، فإن علم العباد ما يوجب اعتبار هذا التقديم و التأخير، فلا حاجة إلى تعليم تلك الكيفية، و إن لم يعلموه لم يعلموا ذلك التقديم و التأخير، فكيف يكون فيه تعليم لهم، فإنه تعسف من غير داع له، و قريب منه ما قيل: من أنه لا خفاء في أنّ ما ذكره يشتمل على التبرك باسمه تعالى على وجه معين و كيفية مخصوصة، و بهذا الإعتبار يصح أن يقع جوابا للسؤال عن كيفية التبرك من غير احتياج لاعتبار العبارة، و صرفه للسؤال عنها و هذا غريب منه فإنه عين ما أفاده الشريف إلا أنه‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 65

المفردة أن تفتح لاختصاصها بلزوم الحرفية و الجر كما كسرت لام الأمر و لام الإضافة داخلة كما قيل:

إذا محاسني اللاتي أدلّ بها

كانت عيوبي فقل لي كيف أعتذر

ثم إنّ التبرك بتقديم اسمه لا ينافي تقدّم لفظ اسم إذ المراد منه بعد الإضافة اسمه تعالى إذ الإضافة إن كانت لمطلق الاختصاص شمل أسماء الذات و الصفات فيفيد التبرك بجميع أسمائه، و يعلم منه وجه إقحامه و رجحه بعضهم، و إن كانت للاختصاص الوضعي الكامل يختص بلفظ اللّه لأنه اسم وضع للذات، و ما عداه أسماء صفات و أما الباء فهي وسيلة إلى ذكره على وجه يؤدّي إلى جعله مبدأ للفعل فهي تتمة لذكره على الوجه المطلوب. قوله: (و إنما كسرت الخ) أي حروف المعاني الموضوعة على حرف واحد، و حروف المعاني ما يقابل الأسماء و الأفعال، و حروف المباني ما تركب و بني منه الكلم، و لما كان البناء لا يختلف بتعاقب العوامل كان أصله السكون لخفته، فإنّ الدائم بالخفيف أولى، و أيضا أصل الإعراب أن يكون وجوديا لكونه أثر العامل و علما للمعاني، فحق مقابله أن يكون عدميا، و قد امتنع البناء على السكون في الحروف التي جاءت على حرف واحد لأنها من حيث كونها كلمة برأسها مظنة للابتداء بها، و قد رفضوا الابتداء بالساكن لتعذره أو تعسره كما سيأتي بيانه فحقها أن تبني على الفتحة التي هي أخت السكون في الخفة، و إن كانت الكسرة أختا له في المخرج لأنها أدوات كثيرة الدور على الألسنة فاستحقت الأخف كما قاله الشارح المحقق، و بقوله كثيرة الدور الخ اندفع عنه ما قيل من أنه معارض بأنّ الكسر يناسب العدم بقلته، و الساكن إذا حرك حرك بالكسر إلا أنه قيل عليه أن لا مخرج للسكون يواخى فيه فقيل: إن أراد أنّ السكون ليس له مخرج، و مخرج الكسرة لضعفه قريب من العدم مناسب له أو المراد أنّ مخرج الحرف الساكن يناسب مخرج الحرف المكسور، و لا يخفى عليك ضعف الجواب الأوّل و فساد الثاني و لو قيل:

المخرج في كلامه مصدر ميميّ بمعنى الخروج لا المخرج المعروف يعني أنّ الأصل في الخروج من السكون و التخلص منه أن يكون بالكسر كما صرح به النحاة لم يبعد فتدبر. قوله:

(لاختصاصها بلزوم الحرفية الخ) في الكشاف لكونها لازمة للحرفية و الجر و المصنف رحمه اللّه عدل عنه لما ذكره فزاد الاختصاص و غير لازمة بلزوم الخ كما رأيته و مناسبة الحرفية للكسر لأنّ الأصل فيها البناء و أصله السكون الذي هو عدم الحركة و الكسر قليل، و القلة أخت العدم، و أما الجرّ فلمناسبته لعمله و أثره، و قد اقتصر بعضهم على الثاني قيل: و هو الأظهر.

و قد اعترض على ما في الكشاف بأنها ليست لازمة لهما بل ملزومة فالصواب أن يقال ملزومة للحرفية و الجر، و لذلك غيّر المصنف رحمه اللّه عبارته لأنّ اللزوم مصدر مضاف لفاعله، فالحرفية و الجر لازم لا ملزوم، و من لم يتنبه له أوّل عبارته أيضا بناء على أنه مضاف إلى المفعول ثم قال: و يحتمل أن تكون الإضافة للفاعل، و تبعه القائل بأن إضافة اللزوم للمفعول، فالحرفية و الجر ملزومة و اللازم الباء و لم يضف اللزوم للباء إذ بعد إضافته إليها لا

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 66

...

يحس القصر عليها لأنه لا يتصور أن يتجاوز لزوم الباء إياهما عن الباء، فيحتاج إلى التكلف و التجريد عن تلك الإضافة بأن يراد أنّ عدم الإنفكاك عن الأمرين مقصور على الباء، و قيل:

إلى الفاعل و نظيره ما ضرب زيد إلا لعمرو، و هو من قصر الفعل المسند إلى الفاعل على المفعول، و ردّ بأن القصر منحصر في قصر الموصوف على الصفة، و الصفة على الموصوف، و الضرب المسند إلى زيد و إن اعتبر تعلقه بالمفعول ليس صفة لعمرو و إلا أن يقال: إنّ الضرب المذكور صفة لزيد لكنه بحسب تعلقه بعمر و يحصل له صفة اعتبارية، كما في الوصف بحال المتعلق و القصر باعتباره، و سيأتي ما في الاختصاص الذي زاده المصنف رحمه اللّه، و قد أجيب عما ذكر من اللزوم بأنّ المراد باللازم للشي‏ء هنا ما لا يفارقه كما يدل عليه تقسيمهم العارض إلى لازم و مفارق، و معنى عدم مفارقة شي‏ء لآخر أن لا يوجد الثاني بدونه لا العكس، و لذا صح انقسام اللازم إلى الأعم و المساوي، و كتب اللغة ناطقة به كما في الصحاح و الأساس و عليه قوله تعالى: وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ [سورة الفتح، الآية: 26] فمرجع اللزوم لغة إلى عدم الإنفكاك، و هم يقولون لزم فلان بيته إذا لم يفارقه، فلا يخلو البيت منه، و يلزمه عدم خروجه عنه، و هو معنى كنائيّ، و منه قولهم أم المتصلة لازمة لهمزة الإستفهام فمن قال: إنّ ما ذكر معنى اللازم الاصطلاحي، و له معنى آخر لغويّ فقد وهم، و ما قيل: إنّ ما ذكر لا يدفع الإعتراض، و إنّ الصواب في دفعه أن يقال: إنّ اللازم بمعنى الملزوم مجازا مبالغة في اللزوم، و قد نبه عليه السعد بتفسيره لازمة بملاصقة غير منفكة عنهما، فلا توجد بدونهما كما هو معنى اللزوم في اصطلاح الحكمة إلا أنه لم يصب في زعمه أنه معنى اصطلاحيّ لا لغويّ ليس بشي‏ء لأنّ عدم الدفع مكابرة معلومة مما نوّرناه و المجازية هنا فاسدة لعدم القرينة المصححة له، و لا حاجة له مع أنه مآل المعنى اللغوي الحقيقي كما اعترف به، و التخريج على متعارف أهل اللغة أنسب مع أنه قيل عليه: إنه غير مطابق لمصطلح الحكمة لأنه لا يلزم أن يكون كل حرف جار باء لأنهم إذا قالوا الكتابة لازمة للإنسان، أرادوا أنه كلما وجد الإنسان وجدت الكتابة، و هو فاسد هنا، و تكلف بعضهم توجيهه بما نحن في غنية عنه.

(و الذي نصححه): ما في حواشي بعض الفضلاء العصريين من أنّ الصحيح من نسخ شرح الفاضل التفتازاني على ما هو معنى الملزوم في اصطلاح الحكماء بصيغة المفعول، و ما في بعض النسخ من معنى اللزوم بصيغة المصدر لا صحة له رواية و دراية فإن قلت: إن الباء تكفّ بما عن العمل كما في حرف الميم من مغنى اللبيب فكيف يتم أمر اللزوم قلت: كأنه لقلته بالنسبة لعملها جعل كالمعدوم، أو أنه الأصل ما لم يعارضه معارض فتدبر و اللزوم أحد المصادر التي جاءت على فعول للمتعدّي و هي محفوظة، و أمّا قيد الاختصاص الذي زاده المصنف على الكشاف فذهب ناس إلى أنها زيادة ضارة فتركها أولى و آخرون إلى لزومها أو حسنها لأنّ اللزوم قد يكون عرفيا غير كليّ عقليّ، فأشار بإقحامه إلى أنه كليّ عقليّ، و ما قيل‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 67

على المظهر للفصل بينهما و بين لام الابتداء و الاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي في توجيهه من أنه لا يطلق حرف الجر على غير الباء لا يسمن و لا يغني من جوع و قيل: إنه زيد لئلا يتوجه عليه شي‏ء من النقوض الآتية إذ معناه لامتيازها من بين الحروف باللزوم و ظاهر أنه إنما يصح إذا اعتبرت صورة الحرف من حيث دلالتها على معنى مع قطع النظر عن خصوصية نشأت من الإضافة أو غيرها، فإن شيأ من حروف الجر المفردة من حيث هو حرف لا ينفك عن الحرفية و الجر فيلزم أن تكون كلها مكسورة، فلا بد من قطع النظر عن الخصوصية و الباء داخلة على المقصور كما هو المشهور و كل من الحرفية و الجر مناسب للكسر كما مرّ ثم إنه قيل إنهما وجهان و نقص الأوّل بواو و العطف وفائه اللازمتين للحرفية و الثاني بكاف التشبيه اللازمة للجر، و قيل: هما وجه واحد فاندفع النقضان لكن بقي النقض بواو القسم و تائه و دفع بأنّ عملهما بالنيابة عن الباء فكان الجر ليس أثرهما و احترز بلزوم الحرفية عن كاف التشبيه، و قيل هو مستدرك لأنها لا تعمل الجر إذا كانت اسما إلا أن يقال إنه على قول قوله: (كما كسرت لام الأمر الخ) التشبيه في أنها خالفت الحروف المفردة التي حقها الفتح لعلة اقتضت المخالفة، و هي هنا دفع اللبس المذكور و لام الإضافة هي لام الجر، و بعض النحاة يسمى حروف الجر حروف الإضافة لأن الإضافة إفضاء لإيصالها معاني متعلقها إلى مجرورها و لام الابتداء هي الداخلة على بعض أجزاء الجملة الإسمية سميت بها لدخولها في الابتداء بحسب الأصل كما بينه، و ما ذكر لا ينافي فتح غيرها كلام الجواب و القسمية، و كسرت لام الجر لما ذكر مع مناسبة عملها أيضا و كسرت لام الأمر حملا عليها لأنها مشابهة لها في مطلق العمل أو في الاختصاص بنوع من الكلم و أثرها يشبه أثرها في كونه من خواص بعض الكلمات، و فتحت الجارة للضمير على الأصل من غير نظر للفرق المذكور لأنه حاصل بجوهر المدخول عليه، و لم ينظر لإعراب مدخولها لأنه قد لا يظهر كما في حالة الوقف و نحوها، و هذا كلام غير مطرد مجمل إذ اللام الداخلة على الضمير قد تكسر إذا دخلت على ياء المتكلم و اللام غير العاملة مفتوحة و إن لم تكن لام ابتداء كما مرّ و لام الاستغانة و التعجب مفتوحة مع جرها للمظهر، و إن وجهوها بأنها واقعة في موقع اللام الجارة للمضمر و هو كاف أدعوك لكن هذه علل نحوية بعد الوقوع كما قيل.

عهد الذي أهوى و ميثاقه‏

أضعف من حجة نحويّ‏

صفحه بعد