کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

عناية القاضى و كفاية الراضى

عناية القاضى و كفاية الراضى


صفحه قبل

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 187

من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له، و منتسبة إليه و لذلك فضل ما حكى اللّه عن حبيبه حين قال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [سورة التوبة، الآية: 40] على ما حكاه عن كليمه حيث معرضا عن غير ما استغرق له و هو إمّا من الاستغراق بمعنى الاستيعاب لاستيعاب أوقاته، أو نظره في ذلك، أو بمعنى اشتغل به، و تفرّغ عن غيره، و في القاموس فلأنه تغترق نظرهم أي تشغلهم بالنظر إليها عن النظر إلى غيرها لحسنها، و الملاحظة من لاحظته ملاحظة، و لحاظا بمعنى راقبته و أصله النظر باللحظ و هو مؤخر العين يقال لحظته بالعين و لحظت إليه لحظا، و الجناب بالفتح الفناء و الجانب و القدس بضم القاف و الدال و تسكن في الأكثر الأفصح بمعنى النزاهة و الطهارة، و جناب النزاهة عبارة عنه سبحانه و تعالى بمعنى المقدس، و حظيرة القدس الجنّة كما قاله الراغب. و قوله: (حتى أنه إلخ) غاية لاستغراقه لأنه إذا استغرق غاب عن ذهنه كل شي‏ء حتى نفسه. قوله: (إلّا من حيث إلخ) لما كان قوله: فإنّ العارف إلخ تعليلا لقوله:

ينبغي لأنّ العابد إمّا عارف أو بصدد أن يكون عارفا و على الأوّل الاستغراق مقتضى حاله و على الثاني هو طالب لأن يكون حاله. و قوله: (من حيث أنها إلخ) ملاحظة إن كان بكسر الحاء اسم فاعل فضمير إنها راجع للنفس و ضمير له للجناب كما في بعض الحواشي، و إن كان بفتحها فهو مصدر و ضمير أنها للملاحظة المفهومة من يلاحظ كما ذهب إليه بعض المحشين، و ما ارتكبه دعاه إليه تصحيح الحمل و المعنى حينئذ لا يلاحظ نفسه و أحوالها إلّا من حيث أنّ ملاحظتها ملاحظة للمعبود و استبعده بعضهم و قال الأولى أنّ المعنى إلّا من حيث أنّ النفس، و أحوالها آلة ملاحظة له تعالى، و مرآة تشاهد فيها، كما هو شأن كل مصنوع غايته أنه جعل آلة الشي‏ء نفسه مبالغة في كونه آلة و مثله شائع و هو تكلف، و قوله و منتسبة بالواو العاطفة و في بعض النسخ بدونها لأنه كالتفسير لما قبله. قوله: (و لذلك إلخ) أي لأنّ العارف إنما يحق وصوله إلخ أو لأنّ العابد ينبغي أن يكون نظره إلخ فضل لما فيه من ملاحظة الحق قبل نفسه بالتقديم عليها قيل، و الوجه هو الثاني لأنّ المحكيّ عن الحبيب فيه النظر إلى المعبود أوّلا بخلاف المحكيّ عن الكليم، و أمّا من حيث الاستغراق في جناب القدس لا يظهر به وجه التفضيل بل صيغة المتكلم مع الغير في الأوّل و المتكلم وحده في الثاني توهم خلافه إلّا أن يقال شأن المستغرق تقديم ما استغرق فيه و لئن سلم، فالوجه الثاني أظهر في المقصود، و لا يخفى أنه إذا غابت نفسه عنه، و أحوالها من جملة ما تضمنه قوله نعبد كان مقتضاه أن لا يذكر ذلك فضلا عن أن يقدّم و هذا أبلغ و لذا قدّمه، و أمّا ذكر المتكلم مع الغير ثمة و هنا، هو المطابق للواقع فلا وجه لما ادّعاه، ثم إنه قيل هنا لكل وجهة فالحبيب قدّم الاسم لأنه في مقام تسكين روع الصديق بالإرشاد إلى ملاحظة الحق و الاعتماد عليه و الرجوع في كل مهمّ إليه، و الكليم عليه السلام قدّم الظرف في جواب قول قومه‏ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ‏ [سورة الشعراء، الآية:

61] تنبيها على اختصاصه و من تبعه بالمعية، كأنه قال: إنّ معي و اتباعي ربي لا معهم فالهداية إلى طريق النجاة لي لا لهم، فإن قيل الكليم أيضا في مقام التسكين لروع قومه قيل: هو و إن‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 188

قال: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ‏ [سورة الشعراء، الآية: 62] و كرّر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير، و قدّمت العبادة على الاستعانة لتوافق رؤوس الآي، و يعلم منه أن كان كذلك إلّا أنه غير منظور إليه أوّلا بل إلى ملزومه و هو اختصاصه بالمعية الموجبة للنجاة ردّ للقوم لما جزموا بلحوقهم، ثم إن تعليقه المعية باسم الذات دون الوصف، كما فعله الكليم عليه السلام ما لا يخفى من علوّ شرفه في موارد النبوّة، فإنّ ما حكاه اللّه عن حبيبه عليه الصلاة و السلام، و إن كان أفضل مما حكى عن كليمه صلى اللّه عليه و سلم من الجهة المذكورة لكن الأمر بالعكس من حيث إفادة الثاني للحصر دون الأوّل قيل إنّ الحصر فيه أيضا مستفاد من نفس النسبة لامتناع كونه مع المعاندين ناصرا لهم، فإنّ معنى قوله تعالى عنه‏ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [سورة التوبة، الآية: 40] أنه تعالى معنا بالعصمة و المعونة، ثم إنّ في تعبيره بالحبيب و الكليم دون محمد و موسى نكتة لطيفة و هي مناسبة ذلك للمعية لأنّ المرء مع من أحب، و اقتضاء المكالمة للاجتماع ظاهر أيضا. قوله: (و كرّر الضمير إلخ) لاحتمال تقديره مؤخرا عند الحذف، و عدم نصوصية الخطاب في الحصر و على تقدير تقديره مقدّما و عدم اعتبار تقديره مؤخرا أنّ التصريح بتقديمه تنصيص بخلاف نصب القرينة على تقديمه، و أيضا يحتمل تعلق الحصر بالمجموع و بالتكرار يرتفع ذلك، و في قوله المستعان به إيماء إلى أنه يتعدّى بنفسه و بالباء و أنهما بمعنى.

و قوله لتوافق رؤوس الآي ظاهره أنّ القرآن فيه سجع و سيأتي ما فيه. قوله: (و يعلم إلخ) يعلم مرفوع و يجوز نصبه أيضا، و يؤيده أنه وقع في نسخة و ليعلم، و الوسيلة كل ما يتقرّب به يقال توسل إلى اللّه بوسيلة أي تقرّب إليه بعمل كذا في المصباح، و أدعى أفعل تفضيل من دعاه إلى كذا إذا حثّه على قصده أي تقديم السائل على سؤاله شيئا يرضاه المسؤول منه كهدية أو تعظيم أو ثناء، و نحوه يقتضي إجابته، و لذا قدّمت العبادة على الدعاء في الواقع.

و سنّ الدعاء عقب الصلوات، فقدّم هنا لفظ العبادة على الإستعانة ليوافق ترتيب الألفاظ ترتيب معانيها، فيرشد الترتيب الذكري للترتيب الخارجيّ، و من خصوصية المادّة يتفطن أنه لكونه أدعى إلى الإجابة، و هذا مراد المصنّف رحمه اللّه تبعا للزمخشريّ في توجيه الترتيب، و هو جواب عن سؤال تقديره إنّ العبادة تقرّبهم لمولاهم، و الاستعانة طلب الفعل المولى، فكان ينبغي تقديمه، فلم عكس ذلك، ثم إنهم قالوا قد مرّ أنّ الاستعانة المذكورة طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات، و على الثاني العبادة مقصودة لذاتها، و الإعانة وسيلة لها دون العكس، فهذا على الوجه الأول فقط، و هو الراجح عند المصنّف رحمه اللّه، فصنيعه أحسن مما في الكشاف لا يقال جائز أن يكون بعض العبادات وسيلة إلى الإعانة على البعض لأنا نقول لا اختصاص، لقوله نعبد و نستعين ببعضها لإطلاقهما، فحينئذ ينبغي أن يقال وجه تقديم العبادة أنّ الإعانة مطلوبة لتكميل العبادة بالزيادة أو الثبات، و يؤيده كون اهدنا بيانا لها،

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 189

تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة و أقول لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا و اعتدادا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله و إياك نستعين ليدل على أن و طلب ما يزداد به الشي‏ء، أو يدوم متأخر عنه، و إن جعلت الإعانة مطلوبة لتحصيل العبادة ابتداء، فالتقديم لأنها مقصودة بالنسبة إلى الاستعانة و على الأوّل إن أريد بالمهمات ما لا يتناول العبادة، لتبادره مع أنه المعروف المناسب على ما اختاره قدّس سرّه فكون العبادة وسيلة إلى الإعانة ظاهر، و وجه التقديم ما ذكره المصنّف رحمه اللّه كما بيناه لك، و إن أريد ما يتناولها لعدم قيام القرينة على التقييد يقال: الإعانة المطلقة و إن كان بعض أفرادها وسيلة إلى العبادة إلّا أنّ كثيرا من أفرادها يتوسل بالعبادة إليه و هو ما يترتب على العبادة، و يكون نتيجة لها فكونها وسيلة معتبر بالقياس إلى بعض أفراد الإعانة لا إلى جميعها، و تقديمها في الذكر للإشارة لما مرّ من أنّ تقديم الوسيلة أدعى للإجابة، و فيه تكلف ظاهر، و لو قيل العبادة وسيلة إلى بعض أفراد الإعانة، و مقصودة من البعض، فتقديمه بالنسبة إلى الأوّل لما ذكر، و بالنسبة إلى الثاني لما سبق كان وجها هكذا قرّره الفاضل الليثيّ تبعا للسيد السند، و هو حاصل ما في شروح الكشاف، و من لغو القول هنا ما قيل إنّ كلام المصنّف رحمه اللّه مناف لما سيأتي منه في سورة هود في تفسير قوله تعالى: وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ‏ [سورة هود، الآية: 90] و لا يليق الاشتغال به إلّا أنّ فيما قاله هؤلاء هنا بحثا، و هو أنّ هذا كما لا يتأتى على الثاني أصلا، أو بغير تكلّف لا يتأتى على الأوّل أيضا على ما يقتضيه كلام المصنّف رحمه اللّه لأنه قسم المعونة إلى ضرورية يتوقف عليها صحة التكليف، و غير ضرورية يتيسر بها الفعل مطلقا، فإن بنى كلامه هنا على أنّ المراد مجموع المعونتين، أو الأولى أو الأعمّ لزم توقفها على العبادة لتوقف التكليف عليها، فلا يتأتى ما ذكر على الأوّل أيضا إلّا إذا أريد بالمعونة غير الضرورية، و بالمهمات المهمات الدنيوية لا الدينية، و لا ما يشملهما، فيندرج فيه العبادة، و إنما نشأ هذا من توهم اتحاد كلام المصنّف و كلام الزمخشريّ، و قد عرفت معنى الوسيلة، و أنها ليست بمعنى السبب كما يتوهم و حينئذ، فالظاهر أنّ المراد بالمهمات كلها مهمات كل عبد في أمور دنياه، فإنه المتبادر منها و المعونة كل ما له مساعدة على فعل، أو تحصيل غرض مّا من الأمور المحسوسة فهي بالمعنى اللغوي فإن قلنا إنها عامة شاملة للعبادة، و كذا إن قلنا إنها إعانة على أداء العبادة، فالجواب ما قيل من أن العبادة مع العلم بأنها مما يتوسّل به إلى إجابة طلب الحاجة، و ذكر الاستعانة المطلوب منها المعونة في العبادة المستلزم كونها وسيلة للعبادة قرينة على أنّ العبادة باعتبار بعض أفرادها وسيلة، و باعتبار بعض آخر يتوسل إليها بالاستعانة فلا إشكال، و على ما ذهب إليه المصنّف رحمه اللّه لا بدّ في الخلاص عما مرّ من التزام ما ذكر إلّا أنه محتاج إلى تكلّف فتأمّل. قوله: (و أقول لما نسب إلخ) اعترض عليه بأنّ المتبادر منه أنه من خواصه التي تفرّد بها، و هو بعينه مذكور في التفسير الكبير، و الحمل على التوارد، أو أنه دل بذلك على اختياره له، كما قيل بعيد كما لا يخفى. و قوله: (تبجحا) تفعل من البجح بالباء الموحدة

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 190

العبادة أيضا مما لا يتم و لا يستتبّ له إلا بمعونة منه و توفيق و قيل الواو للحال و المعنى نعبدك مستعينين بك و قرئ بكسر النون فيهما، و هي لغة بني تميم، فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ بيان للمعونة و الجيم و الحاء المهملة، و معناه الفرح و السرور كما في الصحاح، و قد فسّر بالافتخار الناشئ من العجب و الكبر، و هو أنسب بالمقام، و يستتبّ بسين مهملة و تاءين فوقيتين من استتبّ الأمر إذا تهيأ و استقام كما في الصحاح، أو هو من التباب بمعنى الهلاك و هو يتبع التمام فكان ما تمّ يطلبه كما في الأساس، و هو منزع حسن و عليه قوله:

إذا تمّ أمر بدا نقصه‏

تيقن زوالا إذا قيل تم‏

و فسر أيضا بيستمرّ أو يستقل.

و قال الراغب: التبب الخسار و تببته قلت له ذلك، و لتضمنه الاستمرار قيل: استتب لفلان كذا إذا استمرّ اه. و ما قيل من أنه لم يثبت عند صاحب القاموس، فلذا لم يذكره من قصره باع الاطلاع، و في كلامه تصريح بأنّ المراد بالمعونة التوفيق، و به يتمّ التوفيق.

(فإن قلت): هل هذا جار على الوجهين أو مخصوص بأنّ الاستعانة في أداء العبادة على الوجه الراجح المستحسن كما قيل، و على كل حال كيف يفهم هذا من قصر الاستعانة على اللّه و إنما يفيده لو قيل لا يصدر منا أمر إلّا باستعانة منك قلت: هذا من قبيل الاحتراس، و اتباع الكلام بما يزيل إبهامه كقوله:

فسقى ديارك غير مفسدها

و هو من ذكره بعد مطلقا و مقتض لتأخيره فما ذكر لا وجه له مع أنّ قوله: إنه الراجح من عدم الفرق بين كلام الشيخين بل هو على مقابله أوضح و المعنى المذكور يؤخذ من عدم تقييده بمتعلق ظاهر و لك أن تقول إنه مغاير لما مرّ أيضا. قوله: (و قيل الواو إلخ) ليس هذا من قبيل قمت و اصك وجهه بناء على تجويزه شذوذا، أو تقدير مبتدأ فيه أي، و نحن إياك نستعين كما توهم حتى يورد عليه أنه غير فصيح، أو ينازع في المثال، و إن كان الاشتغال بمثله ليس من دأب المحصلين، فيقال: إنّ الزمخشريّ جعل أصك حكاية حال ماضية، و الواو معه عاطفة و تقديره قمت، و صككت وجهه، فأبرز في صورة المستقبل حكاية لتلك الحالة العجيبة الشأن، فإنّ ما ذكره النحاة إذا كان المضارع في صدر جملة أمّا إذا تقدم عليه شي‏ء من متعلقاته، فيجوز اقترانه بالواو لمشابهته للاسمية صورة، و قد أشار إلى ما ذكر ابن مالك في تسهيله، و أمّا تجويز الزمخشريّ الحالية من غير تقدير فيه، فمعترض عليه كما ستراه، فاحفظه فإنه مما خفي على أرباب الحواشي.

قوله: (و قرئ بكسر النون الخ) هي قراءة الأعمش و نسبت لغيره، و هي لغة قيس و تميم و أسد و ربيعة و هذيل، و هي مطردة عندهم بشرط أن لا يكون ياء مثناة تحتية لثقل الكسرة على الياء على أنّ بعضهم قال: يجل بكسر ياء المضارع من وجل و قرئ أيضا فإنهم يعلمون، و هذا مما يقتضى عدم صحة ذلك الاستثناء، و أن يكون ماضيه مكسور العين كعلم أوفى أوّله همزة

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 191

المطلوبة، فكأنه قال كيف أعينكم، فقالوا: اهدنا أو إفراد لما هو المقصود الأعظم و صل كنستعين أو تاء مطاوعة نحو تتكلم، فلا يجوز في نضرب، و نقتل كسر حرف المضارعة و نحوها من الأفعال بشرط أن لا ينضم ما بعدها لاستثقال الخروج من الكسرة إلى الضمة فإن توسط حرف و إن كان ساكنا جاز.

و اعلم أنه قرئ و إياك يعبد بصيغة المجهول بوضع ضمير النصب موضع ضمير الرفع و الالتفات و هو غريب نادر لقول بعض أهل المعاني إنّ وقوع الملتفت و الملتفت عنه في جملة واحدة لم يعهد. قوله: (بيان للمعونة إلخ) هو بيان لتناسب الجمل، و ارتباطها لا لترك العاطف كما قيل لاختلافها خبرا و إنشاء، و القول بأن نستعين لدلالته على الطلب بمعنى أعنا، فهو إنشاء معنى تبرع لمن لا يقبل و في الكشاف، و الأحسن أن تراد الاستعانة به و بتوفيقه على أداء العبادة، و يكون قوله اهدنا بيانا للمطلوب من المعونة كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا: اهدنا الصراط المستقيم، و إنما كان أحسن لتلاؤم الكلام، و أخذ بعضه بحجز بعض، و قال قدّس سرّه: أي لتناسب الجمل الواقعة فيه، و انتظام بعضها مع بعض حيث دلّ إيّاك نستعين على طلب الإعانة على العبادة، و صار اهدنا بيانا للإعانة المطلوبة، فكملت الملاءمة بين الجمل الثلاث لمزيد ارتباط بينها، و ربما يقال إيّاك نعبد بيان للحمد، و استئناف نشأ من إجراء تلك الأوصاف على ما مرّ، فتكون الجمل الأربع التي في الفاتحة متلاصقة متلاحقة و إذا جعلت الاستعانة عامّة، لم يكن اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة، و لا المعونة مخصوصة بالعبادة، فلم يكن الاتصال بين الجمل بتلك المثابة اه.

فالبيان بمعناه اللغوي لأنه استئناف بيانيّ في جواب سؤال مقدّر تقديره ما ذكر فعليه ترك العاطف، لأنه مستأنف لا لكمال الاتصال كما توهّم فإنّ تقدير السؤال يأباه، و قيل: إنّ المصنّف رحمه اللّه عنى أنّ ترك الواو إمّا لكمال الاتصال، كما في الوجه الأوّل، أو الانقطاع كما في الثاني، و فساده ظاهر و سوف يرى إذا انجلى الغبار. قوله: (كأنه قال كيف أعينكم) قيل: المناسب لكونه بيانا للمعونة أن يقدر أيّ إعانة تطلبون يعني أنّ البيان حقه أن يكون عين المبين لا فرد منه، و إن كان قد يكون المطلوب منه بيان الكيفية، و لا يخفى أنه مع قيام القرينة على أنّ المراد المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادة يتعين الإعانة، فلا يبقى لهذا السؤال وجه، و إنما يحتاج إلى بيان كيفيته و لذا اتفق الشيخان على تقدير ما ذكر فلا تغفل ثم إنه أورد على ما مرّ من أنّ قوله إيّاك إلخ بيان للحمد كأنه قيل كيف تحمدونه، فقيل: إيّاك نعبد إلخ مع أنه لا حاجة إليه لا صحة له في نفسه، فإن السؤال المقدّر لا بدّ أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام و تنساق إليه الأذهان و الأفهام، و لا ريب في أنّ الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته على أنّ ما قدّر من السؤال غير مطابق للجواب، فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العبادة حتى يتوهم كونه بيانا لحمدهم، و الاعتذار بأنّ المعنى نخصك بالعبادة، و به يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر، و تمحل لتوفيق المنزل المقرّر بالموهوم المقدّر، و بعد اللتيا و التي إن فرض السؤال من جهته عز و جل فاتت‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 192

نكتة الالتفات التي أجمع عليها السلف و الخلف، و إن فرض من جهة الغير يختل النظام لابتناء الجواب على خطابه تعالى، و بهذا يتضح فساد ما قيل من أنه استئناف جواب لسؤال يقتضيه إجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها، فكأنه قيل ما شأنكم معه، و كيف توجهتم إليه، فأجيب بحصر العبادة و الإستعانة فيه، فإن تناسى جانب السائل بالكلية، و بناء الجواب على خطابه عز و علا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله، و الحق الذي لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن إلحاقه بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذكر من النعوت الجليلة الموجبة للإقبال الكلي عليه من غير أن يتوسط هناك شي‏ء آخر كما ستحيط به خبرا.

(أقول) هذا مع أنه على طرف التمام مسروق من حواشي الطيبي، و ليس أوّل سار غرّه القمر، فإنّ هذا السؤال ليس محققا و لا مقدّرا في النظم حتى يلزم ما توهموه و إنما هو أمر ينساق إليه الكلام السابق حتى نزل منزلة السؤال، و مآله إلى اقتضاء ما قبله للخطاب، و حينئذ يكون أشدّ اتصالا به سواء قدر من جهة اللّه أو لا، و لو جعل استئنافا حقيقيا لم يرتبط به لكونه في حكم كلامين و الإلتفات فيه لا يلتفت إليه، و لكون العبادة أجل تعظيم و أظهره صح أن تجعل كالمبين للحمد لأنه أخو الشكر، فتبين أنه ليس بمجرّد اللسان بل ظاهره مطابق لباطنه فيه، و لا يلزم من الالتفات اتحاد الخطاب كما صرح به ابن الأثير، و أشار إليه السكاكي، فما ذكره من التعكيس و غيره ساقط. قوله: (أو أفراد إلخ) وقع في نسخة بالواو يعني أفرد بالذكر كبدل البعض من الكل في الجملة نحو أمدّكم بما تعلمون أمدّكم بأنعام و بنين، و لا ينافيه اختلافهما خبرا و إنشاء و لا حاجة لتأويل نستعين بأعنّا، و قيل إنه توجيه لتخصيص الهداية بالطلب في مقام الجواب عن قوله كيف أعينكم و ليس بيانا لكونه من ذكر الخاص بعد العامّ كما في قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى‏ [سورة البقرة، الآية: 238] لأنّ الطريقة المسلوكة فيه العطف بالواو، و كون الهداية للصراط مقصودة لا يضره كونه طريقا و فيه ما فيه، و أمّا ما قيل من أنه ابتداء دعاء و سؤال حينئذ إذ لم يجعل مربوطا فيكون ترك الواو لكمال الانقطاع بين الجملتين لاختلافهما في الخبرية و الإنشائية، فغير سديد كما أشرنا إليه، و قيل: إن كان المراد بالاستعانة طلب المعونة في المهمات كلها، فإن كان المراد بالصراط المستقيم طريق الوصول إليها كان اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة، و إن كان المراد به ما يخص العبادات كان إفرادا لما هو المقصود الأعظم منها و الأوّل و إن كان خلاف المتبادر لكنه محتمل، و به يلتئم الكلامان، و ينتظمان أشدّ انتظام، و إن كان المراد بالاستعانة طلب المعونة في أداء العبادات كان اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة لكون الصراط ما يوصل إلى العبادة، كما هو الظاهر فيتلاءم الكلام و تنتظم جمله أشد انتظام و حكم السيد بأنه على عموم الاستعانة لا يكون اهدنا بيانا للمعونة بناء على حمل الزمخشريّ الصراط المستقيم على ملة الإسلام، فإن قلت:

كيف يكون اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة، و خلق القدرة ممكنة كانت أو ميسرة من المعونة المطلوبة و لا تندرج في الهداية قلت بتقييد اللطف في تعريف الهداية تندرج فيها فإنه عندنا خلق‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 193

و الهداية دلالة بلطف، و لذلك تستعمل في الخير و قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى‏ صِراطِ القدرة على الطاعة كما في شرح المقاصد، فإذا اندرج فيها جاز أن تكون المعونة المطلوبة هي الهداية إلى طريق الوصول إلى المهمات على الأوّل، و إلى العبادات على الثاني، فيحمل عليه الكلام ليتلاءم، و يجوز أن يقال المراد أنّ المعونة المطلوبة إن كانت الهداية، فاهدنا بيان لها، و إن كانت ما يتناولها، فافراد لما هو إلخ ثم إنه سيجي‏ء أنّ المطلوب إمّا زيادة الهدى أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المترتبة عليه، فكون اهدنا بيانا بناء على أنّ زيادة الهدى أو الثبات عليه إعانة على بعض ما يستعان فيه قطعا، و إنّ الإعانة على البعض إعانة على الكل لتوقفه عليه، أو على أنّ المستعان فيه تكميل العبادات، أو المهمات بأحد الوجهين الازدياد، أو الثبات و أمّا الهداية إلى المراتب المترتبة عليه، و كونها بيانا للمعونة على أداء العبادات، فإنما يصح إذا كانت وسيلة إلى العبادة، و قد قيل عليه إنّ قوله في صدر كلامه إن كان إلخ غير متأت هنا لأنّ الأوّل يأباه ما في الدرّ المنثور عن ابن عباس رضي اللّه عنهما من تفسير الهداية إلى الصراط المستقيم بالهام الدين الحق، و لذا فسّره في الكشاف، و غيره بملة الإسلام، فهو مخالف لما عليه المفسرون، و كذا كون صراط الذين أنعمت عليهم بدلا منه.

و قوله و إن كان المراد بالاستعانة طلب المعونة في أداء العبادات كان اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة لكون الصراط ما يوصل إلى العبادة مخالف للمتبادر من كلام المصنّف، فإنه يفهم منه إنّ البيان على تقدير تخصيص الاستعانة بالعبادات، و الافراد على تقدير تعميمها، و عليه أكثر أرباب الحواشي بل كلهم، و قوله فإن قلت إلخ قد يجاب أيضا بأنه يمكن أن يقدر متعلق الاستعانة ما ينطبق أحد هذه الأمور عليه، فليتأمّل انتهى و فيه ما فيه. قوله: (و الهداية دلالة إلخ) هذا برمته مأخوذ من كلام الراغب رحمه اللّه في مفرداته، إلّا أنه وقع في نسخة بدل قوله بلطف بتلطف، و الأولى أولى رواية و دراية، و إنما قيده به لدلالة اشتقاقه و مادّته عليه و لذا أطلق على المشي برفق تهاد و سميت الهداية لطفا، و من لم يدر هذا قال لأنها في اللغة الإرشاد، و هو عين اللطف، و لذا قال ابن عطية إنها لغة الإرشاد، و هل يعتبر في هذه الدلالة الإيصال أم لا فيه خلاف سيأتي تحقيقه، و نعني باللطف كما في الصحاح و غيره من كتب اللغة الرفق المقابل للعنف و هو في صفة الأجسام مقابل للغلظ و الكثافة، و يكون اللطف و اللطافة أيضا عبارة عن الحركة الخفية، و تعاطي الأمور الدقيقة و قد يعبر به عما لا تدركه الحاسة كما قاله الراغب و هذا تحقيقه باعتبار الوضع اللغوي مطلقا.

صفحه بعد