کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

عناية القاضى و كفاية الراضى

عناية القاضى و كفاية الراضى


صفحه قبل

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 297

المطلوب، و المقصود و يجوز في بائها الكسر و الضمّ قال في المصباح: ولي عنده بغية بالكسر، و هي الحاجة التي تبغيها و ضمها لغة. و قيل: بالكسر الهيئة، و بالضمّ الحاجة اه. قوله: (لأنه جعل مقابل الضلالة إلخ) هذا شروع في مرجحات الثاني الذي ارتضاه الزمخشريّ، و اقتصر عليه و المصنف أخره، و مرّضه مخالفا له و طوى بعضه لما سيأتي عن قريب و هذا هو الدليل الأوّل على ترجيح الثاني، و حاصله أنه مقابل في القرآن و الإستعمال بالضلالة و الضلال، و لا شكّ أنّ عدم الوصول معتبر في مفهوم الضلال، فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الضلال لم يتقابلا، و أورد عليه أنّ المقابل للضلال هو الهدي اللازم الذي بمعنى الاهتداء مجازا، أو اشتراكا و كلامنا في المتعدّي، و مقابله الإضلال، و لا استدلال به إذ ربما يفسر بالدلالة على ما لا يوصل لا بجعله ضالا أي غير واصل و أجيب بأنه لا فرق بين اللازم و المتعدّي في باب المطاوعة إلّا بأنّ الأوّل تأثر، و الثاني تأثير فإذا اعتبر الوصول في اللازم كان معتبرا في المتعدّي أيضا و حينئذ يكون الضمير في مقابله راجعا إلى اللازم على طريق الاستخدام، و هو فاسد لأنّ التمسك بالمطاوعة وجه مستقل، فذكر المقابلة حينئذ مستدرك، فإنّ اعتبار الوصول في الاهتداء مستغن عن الدليل كذا قاله قدّس سرّه، و قيل: عليه اعتبار عدم الوصول في مفهوم الضلال ليس لكونه فقدان المطلوب بل فقدان طريق من شأنه الإيصال إليه، كما صرّح به الثقات، و في الإضلال لاراءة ضده، فمقتضاه كون معنى الهداية اللازمة وجدان طريق من شأنه الإيصال، و معنى الهداية المتعدية الدلالة على ذلك الطريق، و لو سلمناه، فاستعمال الهداية في أحد فرديها بقرينة المقابلة و الكلام في مطلقها.

و ههنا أبحاث:

(الأوّل) أنه إذا فسرت بمطلق الدلالة على ما من شأنه الإيصال أوصل أم لا، و فسر الضلال المقابل لها تقابل الإيجاب و السلب بعدم تلك الدلالة المطلقة لزم منه عدم الوصول لأنّ سلب الدلالة المطلقة سلب للدلالة المقيدة بالموصلة إذ سلب الأعمّ يستلزم سلب الأخص كاللاحيوان، و اللاإنسان، فليس في هذا التقابل ما يرجح الثاني كما لا يخفى، و قوله: فلو لم يعتبر الوصول لم يقع في حيز القبول.

(الثاني) أنّ قوله لا فرق بين اللازم و المتعدّي في باب المطاوعة مبنيّ على أنّ المعنى المصدري أمر نسبي بين الفاعل و المفعول متحد بالذات مختلف بالاعتبار كالتعليم و التعلم، و هو و إن اشتهر مشكل لأنّ الأوّل صفة قائمة بالأستاذ، و الثاني صفة قائمة بالتلميذ فيلزم أمّا قيام الصفة الواحدة بمحلين متغايرين أو اتحاد، وصفين و نسبتين متغايرتين و كلاهما ظاهر الفساد و قد أجاب عنه بعض الفضلاء بأنّ معنى كونهما واحدا أنّ في المتعلم حالة مخصوصة يسمى قبولها تعلما، و تحصيلها له تعليما و لا استحالة في قيام صفة واحدة بالذات بمحل يكون لمباينة

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 298

لَعَلى‏ هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏ [سورة سباء، الآية: 24] و لأنه لا يقال: مهديّ إلا لمن معها تعلق التحصيل و التأثير كما هو الواقع في جميع تاء المطاوعة، و لم يريدوا أنّ النسبتين واحدة لأنهما بالضرورة متغايرتان، ففي كل طرف غير ما في الطرف الآخر، و لكن متعلقهما صفة واحدة قائمة بطرف واحد فلا يرد عليه شي‏ء.

(الثالث) إنّ القول بفساد الجواب لاستدراك المقابلة، و لأنّ التمسك بالمطاوعة وجه مستقلّ مدفوع بأنهما متغايران بالإعتبار، فإنّ مقابلة الضلال المعتبر فيه عدم الوصول تدل على اعتبار الوصول في الهدي أخذا من مقابله و ضدّه:

و بضدّها تتبين الأشياء

و المطاوعة الدالة على الوصول تدلّ على اعتباره فيه باعتبار أنه لازم له لا ينفك عنه، فالفرق مثل الصبح ظاهر. قوله: (و لأنه لا يقال مهديّ إلخ) و في الكشاف: و يقال: مهديّ في موضع المدح كمهتد، و لا يمدح إلّا بالوصول إلى الكمال، و اعترض بأنّ التمكن من الوصول أيضا فضيلة يصح أن يمدح بها، و بأنّ المهدي فيما ذكر أريد به المنتفع بالهدي مجازا، و دفع الأوّل بأنّ التمكن مع عدم الوصول نقيصة يذمّ بها كما قيل:

و لم أر في عيوب الناس عيبا

كنقص القادرين على التمام‏

و الثاني بأنّ الأصل في الإطلاق الحقيقة، كما حققه قدّس سرّه، و المراد بقول الزمخشريّ في موضع المدح أنها صفة مادحة وضعا، و إنما يتمدّح بها بهذا المعنى فلا يرد عليه أنّ مقام المدح قرينة لذلك، و إنّ المصنّف لذلك عدل عنه، فبين كلاميهما مخالفة، و قيل: عليه إنّ التمكن مع عدم الوصول ليس بنقيصة لمن هو بصدده مجدّ في بلوغه، و كون الأصل في الإطلاق الحقيقيّ إنما يفيد إذا استعمل بلا قرينة و المدح قرينة، و قد مرّ ما يعارضه من الآيات، و ما قيل من أنه مجاز عن إفاضة أسباب الاهتداء، و إزاحة العلل ردّ بأنّ الأصل الحقيقة، و لو لا قرينة المدح و المقابلة لم يتبادر منه إلّا مطلق الدلالة و عليه أكثر أئمة اللغة و التفسير و لا يضرّه مخالفة الزمخشريّ، فلذا أخره و مرّضه، و كون المهدي لا يستعمل إلّا بمعنى المهتدي غير مسلّم عندهم.

(بقي هنا دليل) تركه المصنّف، و هو إن اهتدى مطاوع هدي، و المطاوعة حصول الأثر في المفعول بسبب تعلق الفعل المتعدّي به، فلا يكون المتعدّي مخالفا لأصله إلّا في الأثر و التأثر كما مرّ، فلو لم يكن في الهدي إيصال لم يكن في الاهتداء وصول، و نقض بنحو أمرته فلم يأتمر و علمته فلم يتعلم، و ردّ بأنّ حقيقة الائتمار صيرورته مأمورا، و هو بهذا المعنى مطاوع للأمر ثم استعمل في الامتثال مجازا و شاع حتى صار حقيقة عرفية و ليس مطاوعا بهذا المعنى، و إن ترتب عليه في الجملة على صورة المطاوعة و أمّا نحو علمته فلم يرد به حقيقته أعني حصلت فيه العلم بل المعنى المجازيّ و هو وجهت إليه ما قد يفضي إلى العلم و ليس التعلم‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 299

اهتدى إلى المطلوب و اختصاصه بالمتقين، لأنهم المهتدون به و المنتفعون بنصبه، مطاوعا إلّا لمعناه الحقيقيّ، فلا حاجة إلى ما قيل: من أنّ المتأثران كان مختار ألم يجب أن يوافق المطاوع أصله و إلّا وجب نعم كثر في المختار استعمال الأصل في معناه المجازيّ، و لهم في هذه المسئلة أقوال لا يلزم من وجود الفعل وجود مطاوعه مطلقا يلزم مطلقا التفصيل بين المختار و غيره، و ارتضاه السبكيّ و استشهد لوجوده بدون المطاوع بقوله تعالى: وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [سورة الإسراء، الآية: 59] و بقوله: وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً [سورة الإسراء، الآية: 60] لوجود التخويف بدون الخوف و أنه يقال علمته فما تعلم، و لا يقال كسرته فما انكسر، و الفرق بينهما مفصل في كتاب عروس الأفراح، و المصنّف رحمه اللّه لم يلتفت لهذا الدليل إمّا لأنّ مذهبه تخلف فعل المطاوعة، أو لأنه مختلف فيه، أو لأنّ الدليل الأوّل، و هو مقابلته بالضلال مبنيّ على المطاوعة، فالأدلة ثلاثة و هي عند التحقيق اثنان كما قيل، و أعلم أنهم اختلفوا في الهداية هل هي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في غيرها أو العكس، أو هي مشتركة بينهما، أو موضوعة لقدر مشترك ذهب إلى كل طائفة، و المصنّف رحمه اللّه اختار الأوّل إلّا أنّ فيه بحثا لأنه فسر الهداية بما يخالف ما هنا بحسب الظاهر، و نوّعها إلى أنواع رابعها كشف الأمور بوحي و نحوه، مما يختص بالأنبياء عليهم الصلاة و السلام و الأولياء، و هي دلالة موصلة بغير شك، و الجواب عنه ظاهر لمن تدبر. قوله:

(و اختصاصه بالمتقين إلخ) قيل: إن أراد بالمتقين المتقين عن الشرك و جعل الذين ابتداء كلام فقصر الاهتداء ظاهر، و إن أراد الكاملين في التقوى، و الموصول موصول بالمتقين، فالقصر باعتبار كمال الاهتداء، و هذا جواب عن سؤال مقدّر تقديره ظاهر على الوجهين، لأنّ الهدي سواء كان مطلق الدلالة، أو الموصل منها حاصل بل غير خاص بالمتقي إن أريد المتقي غير الكامل، أو الكامل نعم هو على الأوّل أظهر، فمن قدره بقوله لم خص الهدى بالمتقين مع أنه الدلالة و هي عامة، و قال: صرح به الإمام قصر في فهم المرام، و المراد بالاختصاص في كلام المصنّف رحمه اللّه تعالى التخصيص الذكري الواقع في النظم المستفاد من اللام كالانتفاع في قوله: المنتفعون لأنّ اللام للانتفاع، و على للمضرّة في نحو دعا له، و عليه لأنّ هذه اللام زائدة للتقوية، و القول بأنها تفيده في الجملة تكلف لا حاجة إليه مع أنّ مدلول اللام ليس الاختصاص بمعنى الحصر كما حقق في محله، و الحاصل أنّ هنا أمرين يختلجان في الصدر إذا سمع النظم الكريم.

الأوّل أنّ المتقي مهتد فما فائدة جعله هدي له و هو تحصيل الحاصل.

الثاني أنّ هداية القرآن عامة للناس، فلم خصت بهؤلاء.

و إذا فسرت بالدلالة الموصلة، ورد محذور آخر و هو المهتدي لمقصوده دلالته على ما يوصله إليه لغو، و العلامة اقتصر في الكشاف على دفع الأوّل و قال: هو كقولك للعزيز المكرّم أعزك اللّه، و أكرمك تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه، و استدامته كقوله‏ اهْدِنَا الصِّراطَ

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 300

الْمُسْتَقِيمَ‏ [سورة الفاتحة، الآية: 6] و وجه آخر، و هو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين كقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قتل قتيلا فله سلبه»، و لم يقل الضالين لأنهم فريقان فريق علم بقاؤه على ضلاله و لا يهتدي و ما ليس كذلك حق التعبير عنه الصائرين إلى التقوى، فاختصر ليكون سلما لتصدير أولى الزهراوين التي هي سنام القرآن بذكر المرتضى من عباده، و قال قدّس سرّه: لا بدّ من أحد أمرين إمّا أن يراد بالهدي زيادة الهدي إلى مطالب أخر غير حاصلة و التثبيت على ما كان حاصلا، كما في اهدنا أو يراد بالمتقين المشارفون للتقوى و الأوّل مختاره فإن قلت قد ثبت أنّ الهدي في التثبيت مجاز قطعا، و في الزيادة إمّا مجاز، أو حقيقة فكيف جمع بينهما قلت أراد أنّ اللفظ مستعمل في الزيادة فقط و التثبيت لازم له تبعا لا يقال تأويل نحو أعزك اللّه لازم لأنه طلب مختص بالاستقبال، فلو لم يؤول كان تحصيل الحاصل بخلاف‏ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ‏ إذ يجوز أن يكون معناه هدى للمتقين المهديين بذلك الهدى، كما في السلاح عصمة للمعتصم أي سبب لها إذ لم يفهم منه أن هناك عصمة أخرى مغايرة لما كان معتصما به، لأنا نقول إذا عبرت عن شي‏ء بما فيه معنى الوصفية، و علقت به معنى مصدريا مطلقا فهم منه في عرف اللغة أنّ ذلك الشي‏ء موصوف بتلك الصفة حال تعلق ذلك المعنى به لا بسببه، فإذا قلت ضربت مضروبا فهم منه أنه موصوف بالمضروبية بضرب آخر حال تعلق ضربك به لا بسبب ضربك إياه، فأخذت مضروبيته على أنها صفة مقرّرة له و إن لم يضرب، فإذا أردت أنه مضروب بضربك هذا كان مخالفا للظاهر مجازا باعتبار الأوّل، فقولك هدي لزيد أو للضالّ و إضلال لبكر، أو للمهتدي جار على ظاهره بخلاف هدى للمتقين و إضلال للضالّ، و حديث العصمة لا يجدي إذ لم يرد معناها المصدري المتضمن للحدوث بل الحاصل بالمصدر، و هو معنى مستقرّ ثابت يضاف للمعتصم فإن أريد المعنى المصدري احتيج لأحد التأويلين، و ما يتوهم من أنّ متعلقات الأفعال، و أطراف النسب حقها على الإطلاق أن يعبر عنها بما يستحق التعبير به حال التعلّق و النسبة لا حال الحكم بالنسبة حتى لو خولف ذلك كان مجازا منظورا فيه، لأنّ قولك عصرت هذا الخل في السنة الماضية مشيرا إلى خل بين يديك لا مجاز فيه مع أنه لم يكن خلا زمان العصر، و قولك سأشرب هذا الخل مشيرا إلى عصير عندك مجاز باعتبار المآل، و إن كان خلا حال الشرب، فالواجب في ذلك كما قال قدّس سرّه أن ترجع إلى وضع الكلام، و طريقته فإنه كثيرا ما يعتبر زمان النسبة، كما في الأمثلة المتقدّمة، و ربما يعتبر زمان إثباتها كما في هذين المثالين، ثم المجاز باعتبار المآل قد يكون بطريق المشارفة، كما في «من قتل قتيلا» فإنه قتيل حقيقة عقيب تعلق القتل به بلا تراخ كما في تمريض المريض، و قد يكون بطريق الصيرورة مجرّدة عن المشارفة، كما في قوله: وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [سورة نوح، الآية: 27] فإنّ الإتصاف بالفجور و الكفر متراخ عن الولادة.

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 301

...

(أقول) اختلف أهل العربية، و الأصول في الوصف المشتق هل هو حقيقة في الحال، أو الاستقبال، و هل المراد زمان النسبة، أو التكلم من غير واسطة بينهما و ما ذكره هنا مخالف للفريقين، و الذي عليه المحققون أنه زمان النسبة، فما ذكره الشارح الفاضل هنا و في التلويح موافق لما قاله الجمهور، و هو الذي ارتضاه في الكشف، و يرد على ما ادّعاه من أنّ تعلق المعنى المصدري يقتضي كون اتصافه بالمعنى الوصفي مقرّر مستحقا له قبل التعلّق أنّ اسم الفاعل نحو السلاح عصمة للمعتصم يكون حقيقة في الماضي، و هو مرجوح، فإن قلت إنه لو لم يكن كذلك يكون لغوا من الكلام إذ لا مفاد لإثبات القتل لمقتول به في من قتل قتيلا. و ما ضاهاه، و هو الداعي لارتكاب ما ارتكبه كما أشار إليه قلت: نعم لو صدر من غير بليغ قصد ظاهره كان كما زعمت أمّا إذا قصد أنّ القتل المتصف به صادر عن هذا الفاعل دون غيره فكأنه قيل لم يشاركه في قتله غيره، فسلبه له دون غيره، كما يشير إليه تقدّم له كان كلاما بليغا يفيد الحصر بقرينة عقلية فمعنى المال غنى للغنيّ، لا غنى له إلّا بالمال، و كذا إذا قلت الذليل من أذلّه اللّه، فالمعنى هنا لا هدى للمتقين إلّا بكتاب اللّه المتلألئ نور هدايته، و إذا وعيت هذا عرفت أنّ الحق مع الفاضلين السعد، و صاحب الكشف، و لا خلاف بينهما إلّا في أنّ من قتل قتيلا حقيقة أم لا، و قد ذهب إلى أنّ الحق هو الأوّل الكرماني و السبكي حتى خطآ من قال: إنه مجاز و أمّا الشبهة الموردة بنحو عصرت هذا الخل، فليست بواردة و لذا قال بعض المدققين بعدما ساق كلام السيد: السند إذا وجد اسم الإشارة مثل أن يقول عصرت هذا الخل، أو هذا المتصف بالخمرية، أو الخلية فالمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق، فإن صح إطلاق الخل على المشار إليه، و اتصافه بالخلية مثلا في زمان الإشارة مع قطع النظر عن الحكم السابق كان حقيقة و لا فمجاز، و الحاصل أنه إذا علق حكم على اسم الإشارة الموصوف بما مرّ ففي الحقيقة هنا تعليقان تعليق الحكم السابق بذات المشار إليه و تعليق الإشارة به فالمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق، و هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام المشتبه على كثير من الأقوام و لذا بسطنا الكلام فيه لأنه يحتاج إليه في مواضع مهمة ستراها في محلها إن شاء اللّه تعالى، فما نحن فيه غير محتاج للتأويل و ليس من المجاز إذ المتقي مهتد بهذا الهدي حقيقة، و هذا ما جنح إليه المصنّف رحمه اللّه و دفع السؤال بوجهين الأوّل أنّ الهداية بمعنى مطلق الدلالة و الإرشاد، و إن عمت جميع الناس كما صرّح به في قوله تعالى: هُدىً لِلنَّاسِ‏ [سورة البقرة، الآية: 185] لكن غيرهم لما لم ينتفع بها كانت هدايتهم كالعدم، فلذا أضرب عنهم صفحا لتنزيلهم منزلة الجماد.

و أعلم أنّ الهداية على مراتب أربعة مرّت في الفاتحة، و التقوى أيضا على مراتب ثلاثة توقي الشرك، و تجنب المعاصي، و اجتناب ما عاق عن الحق، و إذا ضربت أنواع الهداية في التقوى فهي اثنا عشر إلّا أنّ الهداية بالمعنى الأوّل لا دخل للكتاب فيها، و الرابعة و إن كانت‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 302

و إن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر، و بهذا الاعتبار قال تعالى: هُدىً لِلنَّاسِ‏ [سورة البقرة، الآية: 185] أو لأنه لا ينتفع بالتأمّل فيه إلا من صقل العقل، و استعمله تتصوّر فيه لو أريدت، فالمراد بالمتقين الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و هو صحيح و يراد حينئذ من التقوى المرتبة الثالثة، لكنه غير مناسب و منه يعلم أنّ التقوى بالمعنى الثالث غير مرادة، فبقي من الهداية قسمان نصب مطلق الدلائل، أو السمعي منها و هما يحصلان بالقرآن و من الهداية قسمان تجنب الشرك و تجنب الآثام، فالصور الباقية أربع، و كلام المصنّف رحمه اللّه في هذا الوجه محتمل لها و المعنى لا ينتفع بالدلائل مطلقا، أو الدلائل القرآنية إلّا المسلمون، أو إلّا المجتنبون للمعاصي لعلمهم بما ظهر منها، و الأولى أوفق بكلامه، و لا مجاز في النظم على هذا كما توهم. قوله: (بنصبه) قيل هو بضمتين كل ما جعل علامة كما في القاموس، و ليس جمعا هنا و إن كان في غير هذا المحل يكون جمعا لنصاب بمعنى الأصل، و قيل: إنه بفتح النون و سكون الصاد المهملة و الباء الموحدة مصدر و المعنى نصب اللّه تعالى إياه دليلا على ذلك لهم دون غيرهم، و في بعض النسخ بنصه على أنه واحد النصوص، و عليه اقتصر بعض أرباب الحواشي، و قال في تفسيره: أي بنص من نصوصه و آية من آياته و ليس هذا بتحريف كما قيل، فإنه أقرب مما قالوه نعم هو المناسب للمقام كما سيأتي، و هو الحامل للقائل على ادعاء تحريفه قيل: و هنا نكتة لأنه يؤخذ من قوله‏ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ‏ و قوله: هُدىً لِلنَّاسِ‏ [سورة البقرة، الآية: 185] أنّ المتقين هم الناس كما قال:

و ما الناس إلّا أنتمو لا سواكمو

(و ههنا بحث) و هو أنه إذا حكم على الوصف بضدّه و ما يقتضي زوال معناه سواء كان ذلك حمليا كبلغ اليتيم، أو شرطيا كأعط اليتيم ما له إذا بلغ و إذا شفي المريض عرف قيمة العافية، فالوصف ليس متصفا بمعناه حال تعلّق ذلك الحكم به، فهل هو حقيقة أو مجاز، و الظاهر أنه حقيقة إمّا لأنّ اتصافه بمعناه لما لاصق الاتصاف بضدّه، و قرب منه كان زمانهما في حكم زمان واحد، فيراد اتصافه في زمان الحكم حقيقة أو حكما، أو لأنه يعتبر الزمانان المتلاصقان زمانا واحدا ممتدّا اتصف بهما على التعاقب فيه فالحقيقة بالنظر إلى أوّله، و الحكم ناظر إلى جزئه الأخير، و الظاهر أنّ هذا لا محيد عنه، كما سيأتي في أوّل سورة النساء في‏ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ‏ [سورة النساء، الآية: 2] حيث جعله المصنّف رحمه اللّه حقيقة بالنظر إلى أصل اللغة، أو بتقدير إذا بلغوا و هو لا يخالف ما في التلويح كما قيل لأنّ كلام المصنّف مبنيّ على تقدير الشرط بقرينة الآية الأخرى‏ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [سورة النساء، الآية: 6] و ما في التلويح مبنيّ على إرادة معنى ذلك من غير تصريح، و لا تقدير. و قوله: (و إن كانت دلالته عامة) أي على المختار عنده، و كذا قوله و بهذا الإعتبار، فلا منافاة بين قوله هنا هُدىً لِلْمُتَّقِينَ‏ و قوله في أخرى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ‏ [سورة البقرة، الآية: 185] فلا حاجة لتخصيص الناس فيه. قوله: (أو لأنه لا ينتفع بالتأمّل فيه إلخ) التأمّل‏

عناية القاضى و كفاية الراضى، ج‏1، ص: 303

في تدبر الآيات، و النظر في المعجزات، و تعرّف النبوّات لأنه كالغذاء الصالح لحفظ بمعنى التدبّر و التفكر كما في كتب اللغة يقال: تأمّلته إذا تدبرته، و في المصباح هو إعادتك النظر فيه مرة بعد أخرى حتى تعرفه اه. فكان معرفته مما تؤمله و ترجوه، و صقل بالتخفيف بمعنى جلا من صقل السيف و المرآة، و قد يكون في غيره كالثوب و الورق فشبه العقل بالمرآة و جعل النظر و الفكر مرارا بمنزلة صقله و هو ظاهر، و ضمير لأنه راجع للكتاب و التأمّل النظر الصحيح في معانيه فإنه دليل إذ به الإرشاد، و يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب، و استعمله بمعنى أعمله فيما ذكر و الضمير للعقل. و قوله: (في تدبر الآيات) التدبر أصله النظر في أدبار الأمور و عواقبها، و الآيات هنا العلامات، و الأدلة الدالة على وجود الصانع و وحدانيته، و إتصافه بصفات الكمال، و تنزهه عن سمات النقصان كما قال:

و في كل شي‏ء له آية

تدلّ على أنه الواحد

صفحه بعد