کتابخانه تفاسیر
عناية القاضى و كفاية الراضى، ج2، ص: 618
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
تجد حطبا جزلا و نارا تأججا
و إدغام الراء في اللام لحن إذ الراء لا تدغم إلا في مثلها وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإحياء و المحاسبة
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ شهادة و تنصيص من اللّه سبحانه و تعالى على صحة إيمانه و الاعتداد به و أنه جازم في أمره غير شاك فيه وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا يخلو من أن يعطف المؤمنون على الرسول فيكون الضمير الذي ينوب عنه التنوين راجعا إلى الرسول و المؤمنين أو يجعل مبتدأ فيكون الضمير للمؤمنين و باعتباره يصح وقوع كل بخبره خبر المبتدأ و يكون إفراد الرسول عليها و أما بدل البعض فلا إذ الفعل لا يتجزأ فليس بشيء لأنه إذا كان جنسا فله جزئيات يجري فيها ذلك. قوله:
( متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
تجد حطبا جزلا و نارا تأججا )
جعل الإلمام بدلا من الإتيان إمّا بدل بعض لأنه إتيان لا توقف فيه فهو بعضه أو اشتمال لأنه نزول خفيف، و ألف تأججا ألف تثنية للنار و الحطب يقال تأججت النار أي التهبت و تأجج الحطب إذا وقع فيه النار، أو ألف إطلاق و فاعل تأجج ضمير النار لتأويله بالقبس و قيل: أصله تتأجج فحذفت إحدى التاءين و لحقته نون التوكيد الخفيفة ثم صارت ألفا في الوقف و هو بعيد و هو عبارة عن الجود و كثرة الضيفان. قوله: (و إدغام الراء في اللام لحن الخ) هذا مما تابع فيه الكشاف و هو من دائه العضال إذ هو يعتقد أنّ القراءة بالرأي و هو غلط فاحش و كيف يكون لحنا و هي قراءة أبي عمرو إمام القرّاء و العربية و المانع من الإدغام تكرير الراء و قوّتها و الأقوى لا يدغم في الأضعف و هو مذهب سيبويه و البصريين و أجاز ذلك الفراء و الكسائي و الرواسي و يعقوب الحضرمي و غيرهم و لا حاجة إلى التطويل فيه و ليس هذا مما يليق بجلالة المصنف رحمه اللّه تعالى و قد يعتذر له بما ذكره صاحب الإقناع من أنه روي عن أبي عمرو رحمه اللّه أن رجع عن هذه القراءة فيكون الطعن في الرواية لا في القراءة فتدبر. و قال الزجاج رحمه اللّه:
لما ذكر اللّه عز و جل في هذه السورة فرض الصلاة و الزكاة و الطلاق و الحيض و الإيلاء و الجهاد و قصص الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و الدين و الربا ختمها بقوله: آمن الرسول الخ، لتعظيمه و تصديق نبيه صلى اللّه عليه و سلم و المؤمنين لجميع ذلك المذكور قبله و غيره ليكون تأكيدا له و فذلكة. قوله:
(شهادة و تنصيص من اللّه الخ) يعني أنّ الإيمان بما ذكر كما يجب على الأمة يجب عليه أيضا به و بكتابه و بما قبله من غير فرق في أصل الإيمان و إن تفاوت تفاوتا عظيما فيما ينبني عليه و كيفيته و لا يلزم منه إتباعه لغيره من الرسل عليهم الصلاة و السلام فتأمل. قوله: (لا يخلو من أن عطف المؤمنون الخ) جوّز في المؤمنون أن يكون معطوفا على الرسول مرفوعا بالفاعلية فيوقف عليه و يدل عليه قراءة عليّ رضي اللّه عنه و آمن المؤمنون و كل آمن جملة من مبتدأ و خبر و سوغ الابتداء بالنكرة كونه في تقدير الإضافة أو المؤمنون مبتدأ و كلّ مبتدأ ثان و آمن خبره و الجملة
عناية القاضى و كفاية الراضى، ج2، ص: 619
بالحكم إما لتعظيمه أو لأنّ إيمانه عن مشاهدة و عيان و إيمانهم عن نظر و استدلال و قرأ حمزة و الكسائيّ و كتابه يعني القرآن أو الجنس و الفرق بينه و بين الجمع أنه شائع في وحدان الجنس و الجمع في جموعه و لذلك قيل الكتاب أكثر من الكتب لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أي يقولون لا نفرّق و قرأ يعقوب لا يفرق بالياء على أنّ الفعل لكل و قرئ لا يفرّقون حملا على معناه كقوله تعالى: وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [سورة النمل، الآية: 87] و أحد في معنى الجمع لوقوعه في سياق النفي كقوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [سورة الحاقة، الآية: 47] و لذلك دخل عليه بين و المراد نفي التفرقة بالتصديق و التكذيب وَ قالُوا خبر المؤمنون و الرابط مقدّر و لا يجوز كون كل تأكيدا لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيدا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظها إلى ضميرها، و قوله: الذي ينوب إشارة إلى أنّ تنوينه للعوض و لذا منعوا دخول الألف و اللام عليه و على بعض و قالوا قولهم الكل و البعض خطأ. و قوله:
(و يكون إفراد الرسول الخ) أي على الوجه الثاني إشارة إلى أنّ إيمانه لكونه تفصيليا عيانيا كأنه نوع و جنس آخر و أيضا المتبادر من المؤمنين الأمة فلا يدخل تحتهم. قوله: (يعني القرآن أو الجنس الخ) يعني أنّ الإضافة إما للعهد أو للجنس لأنها تأتي لمعاني اللام كما حققوه، و قوله:
و الفرق الخ يعني ما قيل: إنّ استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأنّ المفرد يتناول جميع الآحاد ابتداء فلا يخرج عنه شيء منه قليلا أو كثيرا بخلاف الجمع فإنه يستغرق الجموع أوّلا و بالذات ثم يسري إلى الآحاد و الفرق بينهما في النفي ظاهر و في الإثبات كونه أظهر و أقوى خصوصا و قد شمل الحقيقة و الماهبة فاستغرق الإفراد الذهنية وضعا على ما في الكشف و نقل في الانتصاف عن بعض أهل الأصول أن تناوله للإفراد مجاز و تبعه الطيبي رحمه اللّه، و قوله:
و لذلك قيل: الخ هو منقول عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، و لكن صاحب الانتصاف تردّد في ثبوته عنه و لذا لم يصرح به المصنف رحمه اللّه و هذا المبحث من معضلات المعاني فراجعه فيها. قوله: (أي يقولون لا نفرّق الخ) و المقدر إمّا حال أو خبر بعد خبر و على قراءة لا يفرّقون جوّز فيها ذلك من غير تقدير القول و يجوز أن يقدر يقول بالإفراد على لفظ كل و الضمير الراجع إلى كل يجوز إفراده نظرا إلى لفظها و جمعه نظرا لمعناها، كما قرّره أهل العربية و كلاهما وارد في القرآن كما ذكره المصنف رحمه اللّه. قوله: (و أحد في معنى الجمع الخ) قال النحرير: ذكر أهل اللغة أن أحدا اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه الواحد و المثنى و الجمع و المذكر و المؤنث فإذا أضيف بين إليه أو أعيد إليه ضمير الجمع أو نحو ذلك، فالمراد به جمع من الجنس الذي يدل الكلام عليه و كثير من الناس يسهو فيزعم أنّ معنى ذلك أنه نكرة وقعت في سياق النفي فعممت و كانت بهذا الاعتبار في معنى الجمع كسائر النكرات اه. و هو ردّ على المصنف رحمه اللّه، و قد مرّ تفصيله و قوله: التفرقة بالتصديق و التكذيب بأن يصدق ببعضهم و يكذب بآخر كما يفعله الكفرة و فيه إشارة إلى أنّ التفرقة بالتفضيل و نحوه واقعة كما مرّ و هو إشارة إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ
عناية القاضى و كفاية الراضى، ج2، ص: 620
سَمِعْنا أجبنا وَ أَطَعْنا أمرك غُفْرانَكَ رَبَّنا اغفر لنا غفرانك أو نطلب غفرانك وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ المرجع بعد الموت و هو إقرار منهم بالبعث
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إلا ما تسعه قدرتها فضلا و رحمة أو ما دون مدى طاقتها بحيث يتسع فيها طوقها و يتيسر عليها كقوله سبحانه و تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: 185] و هو يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال و لا يدل على امتناعه لَها ما كَسَبَتْ من خير وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من شر لا ينتفع بطاعتها و لا يتضرّر بمعاصيها غيرها و تخصيص الكسب بالخير و الاكتساب بالشر لأنّ الاكتساب فيه اعتمال و الشر تشتهيه النفس و تنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله و أعمل بخلاف الخير رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أي لا تؤاخذنا بما أدّى بنا إلى نسيان أو خطأ من تفريط و قلة مبالاة أو بأنفسهما إذ لا يمتنع المؤاخذة بهما عقلا فإنّ الذنوب كالسموم فكما أن تناولها يؤدّي إلى وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ [سورة النساء، الآية: 150]. قوله: (أجبنا) هذا هو المعنى العرفي للسمع و الإطاعة أخص منه لأنها القبول عن طوع كما يقال سمعا و طاعة و الغفران مصدر إمّا منصوب على المصدرية أو على أنه مفعول به و المصير مصدر ميميّ المراد به البعث. قوله:
(إلا ما تسعه قدرتها الخ) على الأوّل المراد بالوسع القدرة أي لا يكلفها إلا ما تقدر عليه، و على الثاني ما يسهل عليها من المقدور فهو أخص كما إذا كان في قدرته أن يصلي ستا فأوجب خمسا فالواجب دون مدى طاقته أي غايتها و نهايتها، و قوله: و هو يدل الخ يعني على التفسيرين أمّا على الأول فظاهر، و أمّا على الثاني فبطريق الأولى، و قيل: إنه على الثاني مخصوص بهذه الأمة فلا دلالة على ذلك فهو راجع إلى التفسير الأول و فيه ردّ على من استدل بها على امتناعه و تفصيله في الأصول و ضمير لها للنفس العامة. قوله: (من خير الخ) أخذه من اللام و على الدالتين على النفع و الضر في الأصل و قوله: لا ينتفع الخ الحصر مستفاد من تقديم الخبر كما مرّ و ما ورد من الانتفاع بعمل الغير كأن يحج عنه أو يهدي له ثواب صدقته و التضرر يوزر غيره فمؤوّل بأنّ الذي له ثواب كسب المال المنفق فيه و إثم العمل الذي تسبب عنه عمل غيره و نحو ذلك. قوله: (و تخصيص الكسب بالخبر الخ) الاعتمال الاجتهاد في العمل و يرد فيما يعمله المرء لنفسه و الاستعمال فيما يعمله بواسطة غيره، و الحاصل أنّ الصيغة لما دلت على زيادة معنى و هو الاعتمال و الانجذاب إليه وردت في الشر إشارة إلى ما جبلت عليه النفوس و استعمل مقابلها في الخير لعدم ذلك فيه، و قال ابن الحاجب: إنه يدل على زيادة لطف من اللّه في شأن عباده إذ أثابتهم على الخير كيفما وقع و لم يجزهم على الشر إلا بعد الاعتمال و التصرّف و هو قريب مما ذكروه هنا. قوله: (أي لا تؤاخذنا بما أدّى بنا الخ) لما كان الخطأ و النسيان غير مؤاخذ عليهما فلا يظهر وجه الدعاء بعدم المؤاخذة أوّلوه بوجوه، أحدها: أنّ المراد لا تؤاخذنا بتفريط و إغفال يفضي إلى خطأ أو نسيان و ذلك التفريط فعمل لهم قد يؤاخذ به و إن لم يكن ذنبا في نفسه لما يترتب عليه. قوله: (أو بأنفسهما الخ) أورد عليه أنه إنما يتم على القول بأنّ
عناية القاضى و كفاية الراضى، ج2، ص: 621
الهلاك و إن كان خطأ فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب و إن لم تكن له عزيمة لكنه سبحانه و تعالى وعد التجاوز عنه رحمة و فضلا فيجوز أن يدعو الإنسان استدامة و اعتدادا بالنعمة فيه و يؤيد ذلك مفهوم قوله عليه الصلاة و السلام: «رفع عن أمتي الخطأ و النسيان» رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً عبأ ثقيلا يأصر صاحبه أي يحبسه في مكانه يريد التكاليف الشاقة و قرئ و لا تحمل بالتشديد للمبالغة كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا حملا مثل حملك إياه من قبلنا أي مثل الذي حملته إياهم فيكون صفة لا صرا و المراد به ما كلف به و إسرائيل من قتل الأنفس و قطع موضع النجاسة و خمسين صلاة في اليوم و الليلة و صرف ربع المال للزكاة أو ما أصابهم من الشدائد و المحن رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا التكليف بغير المقدر و جائز عقلا غير واقع فضلا من اللّه و إلا فلا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ و النسيان فضلا يستدام و نعمة يعتد بها و المحققون من أهل السنة و المعتزلة على خلافه و التزامه، و أنّ الجواب الأوّل مبنيّ على المشهور و هذا على خلافه أسهل من الجواب بأنّ غير المقدر و هو نفس الخطأ و النسيان و ليس الكلام في المؤاخذة عليه بل على الفعل المترتب عليه كقتل مسلم ظنه غير معصوم و نحوه مما يكون ترك المؤاخذة عليه فضلا من اللّه تعالى و العزيمة القصد المصمم، و قوله: فيجوز الخ فهو على أسلوب قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة، الآية: 5] أو أنه من باب التحدّث بالنعمة اعتناء بها كما قال تعالى: وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [سورة الضحى، الآية: 10] قال الطيبي: و هذا تكلف، و قد روي في مسلم أنّ هذه الآية ناسخة لقوله: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 1] الآية فكما أنّ الخطرات و الوساوس محلها النفس كذلك معدن النسيان و الخطأ النفس فلم يكن النسيان و الخطأ متجاوزا عنها عقلا بل نقلا، و في الانتصاف رفع المؤاخذ بهما عرف بالسمع لقوله صلى اللّه عليه و سلم: «رفع عن أمتي الخطأ» «1» الخ فلعل رفعهما كان إجابة بهذه الدعوة و قد روي أنه قيل له: عند كل دعوة قد فعلت و إنما المعتزلة يذهبون إلى استحالة المؤاخذة بذلك عقلا بناء على التحسين و التقبيح اه. قوله:
(رفع عن أمتي الخطأ و النسيان) و ما أكرهوا عليه و في رواية و ما استكرهوا عليه كذا وقع في كثير من الكتب و قد أخرجه الطبرانيّ في الأوسط عن ابن عمر رضي اللّه عنهما، و قال السبكيّ: قال محمد بن نصر ليس له إسناد يحتج به، و كذا قال غيره و قال النووي رحمه اللّه: إنه حديث حسن و في سنن ابن ماجه بدل رفع وضع و هما متقاربان و سئل أحمد بن حنبل عنه فقال لا يصح: و لا يثبت إسناده و قال من زعم أنّ الخطأ و النسيان مرفوعان: فقد خالف كتاب اللّه و سنة رسوله صلى اللّه عليه و سلم فإنّ اللّه أوجب في قتل النفس خطأ الكفارة و فيه نظر. قوله: (عبأ) كحملا لفظا و معنى بعين مهملة و باء موحدة و همزة بين وجه اشتقاقه و أصل معناه بما ذكره و قوله: للمبالغة فعل يجيء للتكثير و المبالغة نحو قطعت الثياب و للتعدية و قتل الأنفس في التوبة أو في القصاص لأنه كان لا
(1) تقدم.
عناية القاضى و كفاية الراضى، ج2، ص: 622
بِهِ من البلاء و العقوبة أو من التكاليف التي لا نفي بها الطاقة البشرية و هو يدل على جواز التكليف بما لا يطاق و إلا لما سئل التخلص منه و التشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفعول ثان وَ اعْفُ عَنَّا و امح ذنوبنا وَ اغْفِرْ لَنا و استر عيوبنا و لا تفضحنا بالمؤاخذة وَ ارْحَمْنا و تعطف بنا و تفضل علينا أَنْتَ مَوْلانا سيدنا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فإنّ من حق المولى أن ينصر مواليه على الأعداء أو المراد به عامة الكفرة «روي أنه عليه الصلاة و السلام لما دعا بهذه الدعوات قيل له فعلت» و عنه عليه الصلاة و السلام «أنزل اللّه تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل» و عنه عليه الصلاة و السلام: «من قرأ الآيتين من آخر يجوز غيره في شريعتهم و قطع موضع النجاسة من الثياب و نحوها، و قيل: من البدن و قوله:
و خمسين صلاة قال السيوطي رحمه اللّه تعالى: هذا لا أصل له و إنما الثابت في الأحاديث أنّ عليهم صلاتين، و قوله: من البلاء و العقوبة الخ ناظر إلى أوّل تفسيري قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها و قوله: أو من التكاليف إلى ثانيهما و قوله: فيكون صفة الخ أي على التوجيه الثاني و أمّا على الأوّل فصفة مصدر محذوف كما أشار إليه و في كون توبتهم بقتل أنفسهم كلام في التفاسير. قوله: (و هو يدل على جواز التكليف الخ) أي و إلا لم يكن لهذا الدعاء فائدة و أجيب بأنّ المراد به ليس هو التكليف الشرعي بل إنزال العقوبات التي نزلت بمن قبلنا لتقصيرهم، و أجيب أيضا بأنّ المراد التكليف الشاق الذي يشبه بما لا يستطاع أصلا و ضعف بأنه يكون تكريرا لما سبق من قوله: لا تحمل علينا إصرا و الفائدة الجديدة أولى و في شرح المقاصد تمسك بهذه الآية على جواز التكليف بما لا يطاق و دلالته على الجواز ظاهرة و أما على الوقوع فلأنّ الاستعاذة إنما تكون عما وقع في الجملة لا عما أمكن و لم يقع أصلا، و الجواب أنّ المراد به العوارض التي لا طاقة بها لا التكاليف اه. قوله: (و امح ذنوبنا) فيه إشارة إلى الفرق بين العفو و المغفرة و تأخير الرحمة و وجهه ظاهر من تفسيره و فسر المولى بالسيد و ترك تفسيره بمن يتولى أمورهم كما في الكشاف و قوله: فإنّ الخ إشارة إلى وجه الترتب بالفاء و فسر الكافرين بأعدائهم في الدين المحاربين لهم لمناسبته للنصرة و جوّز أن يعم جميع الكفرة. قوله: (روي أنه صلى اللّه عليه و سلم لما دعا الخ) قيل الظاهر أنّ المراد بدعائه بهذه الدعوات قراءته لهذه الآيات و يحتمل أن يكون قد دعا بها فنزلت هذه الآية حكاية لها، و قيل: الأوّل «1» هو الوارد في الأحاديث الصحيحة «و الثاني ورد بمعناه» حديث مرسل أخرجه ابن جرير، و النكتة في صيغة الجمع أنّ للاجتماعات تأثيرات و بركات و لإرادة العبد خبرا بأخيه أثرا في استنزال الخيرات، و قوله:
«كفتاه» أي عن قيام تلك الليلة و قيل: «كفتاه» المكروه، و قوله: من كنوز الجنة تمثيل لما فيها
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 562 و الترمذي 2882 من حديث البشير بن النعمان و قال الترمذي:
حسن غريب، و قال الحاكم: صحيح الإسناد و وافقه الذهبي.
عناية القاضى و كفاية الراضى، ج2، ص: 623
سورة البقرة في ليلة كفتاه» و هو يردّ قول من استكره أن يقال سورة البقرة و قال ينبغي أن يقال السورة التي تذكر فيها البقرة كما قال عليه الصلاة و السلام: «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة و تركها حسرة و لن يستطيعها البطلة» قيل و ما البطلة قال السحرة.
من كثرة الخير و البركة و الثواب، و كذا الكتابة باليد تمثيل و تصوير لإثباتهما و تحققهما و تقديرهما بألفي سنة عبارة عن قدمهما لا للتحديد. قوله: (و هو يرد الخ) قال النووي رحمه اللّه تعالى في كناية الأذكار: نقل عن بعض المتقدّمين أنه كان يكره أن يقال سورة البقرة و سورة الدخان و العنكبوت و شبه ذلك و إنما يقال السورة التي يذكر فيها البقرة و هكذا و هو خطأ فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة «آيتان من آخر سورة البقرة» «1» الحديث و أشباهه كثيرة لا تحصى اه. قلت قد مر أنّ المنع من ذلك صح عنهم و الاستعمال أيضا صحيح بلا شبهة و لا خطأ فيه و إنما المنع كان في صدر الإسلام لما استهزأ سفهاء المشركين بسورة العنكبوت و نحوها فمنع منه دفعا لطعن الملحدين ثم لما استقر الدين و قطع اللّه دابر القوم الظالمين شاع ذلك و ساغ و الشيء يرتفع بارتفاع سببه، و قوله: «فسطاط القرآن» «2» الفسطاط بضم الفاء و كسرها هو الخيمة أو المدينة الجامعة أو الأوّل أصله و هذا منقول منه سميت بذلك لاشتمالها على معظم أصول الدين و فروعه و للإرشاد إلى كثير من أمور المعاش و المعاد، و سميت السحرة بطلة جمع باطل لانهماكهم في الباطل أو لبطالتهم عن أمر الدين و معنى عدم استطاعتهم أنهم مع حذقهم لا يوفقون لتعلمها أو لتأمل معانيها أو العمل بما فيها، و قيل: لن يستطيعها إذا قرئت فإنها تهزمهم و تبطل سحرهم و شرهم و قيل: إنها من المعجزات التي لا تقدر السحرة على معارضتها كغيرها من المعجزات المحسوسة، و قيل: المراد بالسحرة البلغاء كما في قوله: «إنّ من البيان لسحرا» «3» و هو بعيد اللهم وفقنا للوصول إلى هذا الفسطاط و اجعلنا ممن استظل بظل عنايتك و رحمتك و يسر لنا خيري الدنيا و الآخرة و اجعل القرآن ربيع قلوبنا و جلاء أسماعنا و نزعة أرواحنا و يسر لنا إتمام ما قصدناه بإحسانك يا أرحم الراحمين و صلّ و سلم على نبيك المنزل عليه و على آله و أصحابه و أهل بيته آمين.
تمّ الجزء الثاني و يليه الجزء الثالث أوّله سورة آل عمران
(1) أخرجه البخاري 5051- 5040- 5009 و مسلم 807- 255 و الترمذي 2881 و النسائي 719 و ابن ماجه 1369 كلهم من حديث أبي مسعود.
(2) أخرجه الديلمي في «الفردوس» 3559 من حديث أبي سعيد و قال المناوي في «فيض القدير» 4841 و فيه إسماعيل بن أبي زياد و الشامي قال الذهبي، قال الدارقطني يضع الحديث.