کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

فى ظلال القرآن

الجزء الأول

تقديم مقدمة فهرس المجلد الأول

الجزء الثاني

فهرس المجلد الثاني

الجزء الثالث

فهرس المجلد الثالث الجزء الثامن

الجزء الرابع

فهرس المجلد الرابع

الجزء الخامس

فهرس المجلد الخامس

الجزء السادس

فهرس المجلد السادس(الأخير)

فى ظلال القرآن


صفحه قبل

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 23

لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏» .. كما قال عن جماعة من أهل الكتاب: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. و كانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، تعج بالأرباب المختلفة، بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما يزعمون! فإطلاق الربوبية في هذه السورة، و شمول هذه الربوبية للعالمين جميعا، هي مفرق الطريق بين النظام و الفوضى في العقيدة. لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد، تقر له بالسيادة المطلقة، و تنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة، و عنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب .. ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية اللّه الدائمة و ربوبيته القائمة. و إلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبدا و لا تفتر و لا تغيب، لا كما كان أرقى تصور فلسفي لأرسطو مثلا يقول بأن اللّه أوجد هذا الكون ثم لم يعد يهتم به، لأن اللّه أرقى من أن يفكر فيما هو دونه! فهو لا يفكر إلا في ذاته! و أرسطو- و هذا تصوره- هو أكبر الفلاسفة، و عقله هو أكبر العقول! لقد جاء الإسلام و في العالم ركام من العقائد و التصورات و الأساطير و الفلسفات و الأوهام و الأفكار ..

يختلط فيها الحق بالباطل، و الصحيح بالزائف، و الدين بالخرافة، و الفلسفة بالأسطورة .. و الضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات و ظنون، و لا يستقر منها على يقين.

و كان التيه الذي لا قرار فيه و لا يقين و لا نور، هو ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها، و صفاته و علاقته بخلائقه، و نوع الصلة بين اللّه و الإنسان على وجه الخصوص.

و لم يكن مستطاعا أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون، و في أمر نفسه و في منهج حياته، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته و تصوره لإلهه و صفاته، و قبل أن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء و هذا التيه و هذا الركام الثقيل.

و لا يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام، و حتى يرود هذا التيه من العقائد و التصورات و الأساطير و الفلسفات و الأوهام و الأفكار التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري، و التي أشرنا إلى طرف منها فيما تقدم صغير. (و سيجي‏ء في استعراض سور القرآن الكثير منها، مما عالجه القرآن علاجا وافيا شاملا كاملا).

و من ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة، و تحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر اللّه و صفاته، و علاقته بالخلائق، و علاقة الخلائق به على وجه القطع و اليقين.

و من ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل، الذي لا تشوبه شائبة من قريب و لا من بعيد .. هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام، و ظل يجلوها في الضمير، و يتتبع فيه كل هاجسة و كل شائبة حول حقيقة التوحيد، حتى يخلصها من كل غبش. و يدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها و هم في صورة من الصور ..

كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات اللّه و بخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة.

فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات و العقائد كما تخبط فيه الأوهام و الأساطير ..

مما يتعلق بهذا الأمر الخطير، العظيم الأثر في الضمير الإنساني. و في السلوك البشري سواء.

و الذي يراجع لجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات اللّه و صفاته و علاقته بمخلوقاته، هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة .. الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه .. قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر، و إلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير .. و لكن مراجعة ذلك الركام تكشف‏

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 24

عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة- و تقوم في تحرير الضمير البشري و إعتاقه؛ و إطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب و شتى الأوهام و الأساطير! و إن جمال هذه العقيدة و كمالها و تناسقها و بساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها .. كل هذا لا ينجلى للقلب و العقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد و التصورات، و الأساطير و الفلسفات! و بخاصة موضوع الحقيقة الإلهية و علاقتها بالعالم .. عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة. رحمة حقيقية للقلب و العقل، رحمة بما فيها من جمال و بساطة، و وضوح و تناسق، و قرب و أنس، و تجاوب مع الفطرة مباشر عميق.

«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .. هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة و حالاتها و مجالاتها تتكرر هنا في صلب السورة، في آية مستقلة، لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة؛ و لتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب و مربوبيه. و بين الخالق و مخلوقاته .. إنها صلة الرحمة و الرعاية التي تستجيش الحمد و الثناء. إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة و تنبض بالمودة، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية.

إن الرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم و الأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها و ثوراتها كما تصورها أساطير الإغريق. و لا يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في «العهد القديم» كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين‏ «1» .

«مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» .. و هذه تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها، كلية الاعتقاد بالآخرة .. و الملك أقصى درجات الاستيلاء و السيطرة. و يوم الدين هو يوما الجزاء في الآخرة .. و كثيرا ما اعتقد الناس بألوهية اللّه، و خلقه للكون أول مرة؛ و لكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء .. و القرآن يقول عن بعض هؤلاء: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ»* .. ثم يحكي عنهم في موضع آخر: «بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون: هذا شي‏ء عجيب. أ إذا متنا و كنا ترابا؟

ذلك رجع بعيد»! و الاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر و قلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض؛ فلا تستبد بهم ضرورات الأرض. و عندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات. و لا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود، و في مجال الأرض المحصور. و عندئذ يملكون العمل لوجه اللّه و انتظار الجزاء حيث يقدره اللّه، في الأرض أو في الدار الآخرة سواء، في طمأنينة للّه، و في ثقة بالخير، و في إصرار على الحق، و في سعة و سماحة و يقين .. و من ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات و الرغائب، و الطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان. بين الخضوع لتصورات الأرض و قيمها و موازينها و التعلق بالقيم الربانية و الاستعلاء على منطق الجاهلية. مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها اللّه الرب لعباده، و الصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال.

(1) و كانت الأرض كلها لغة واحدة و كلاما واحدا. و كان أنهم لما رحلوا من المشرق وجدوا بقعة في أرض شنعار فأقاموا هناك. و قال بعضهم لبعض تعالوا نصنع لبنا و ننضجه طبخا فكان لهم اللبن بدل الحجارة و الحمر كان لهم بدل الطين. و قالوا تعالوا نبن لنا مدينة و برجا رأسه إلى السماء و نقم لنا اسما كي لا نتبدد على وجه الأرض كلها. فنزل الرب لينظر المدينة و البرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. و قال الرب هو ذا هم شعب واحد و لجميعهم لغة واحدة و هذا ما أخذوا يفعلونه. و الآن لا يكفون عما هموا به حتى يصنعوه. هلم نهبط و نبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها و كفوا عن بناء المدينة. و لذلك سميت بابل لأن الرب هناك بلبل لغة الأرض كلها. و من هناك شتتهم الرب على كل وجهها.

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 25

و ما تستقيم الحياة البشرية على منهج اللّه الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر. و ما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير. و ما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها، و أن يضحي لنصرة الحق و الخير معتمدا على العوض الذي يلقاه فيها ..

و ما يستوي المؤمنون بالآخرة و المنكرون لها في شعور و لا خلق و لا سلوك و لا عمل. فهما صنفان مختلفان من الخلق. و طبيعتان متميزتان لا تلتقيان في الأرض في عمل و لا تلتقيان في الآخرة في جزاء .. و هذا هو مفرق الطريق ..

«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .. و هذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة. فلا عبادة إلا للّه، و لا استعانة إلا باللّه.

و هنا كذلك مفرق طريق .. مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، و بين العبودية المطلقة للعبيد! و هذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل. التحرر من عبودية الأوهام. و التحرر من عبودية النظم، و التحرر من عبودية الأوضاع. و إذا كان اللّه وحده هو الذي يعبد، و اللّه وحده هو الذي يستعان، فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم و الأوضاع و الأشخاص، كما تخلص من استذلال الأساطير و الأوهام و الخرافات ..

و هنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية، و من القوى الطبيعية ..

فأما القوى الإنسانية- بالقياس إلى المسلم- فهي نوعان: قوة مهتدية، تؤمن باللّه، و تتبع منهج اللّه ..

و هذه يجب أن يؤازرها، و يتعاون معها على الخير و الحق و الصلاح .. و قوة ضالة لا تتصل باللّه و لا تتبع منهجه. و هذه يجب أن يحاربها و يكافحها و يغير عليها.

و لا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية. فهي بضلالها عن مصدرها الأول- قوة اللّه- تفقد قوتها الحقيقية. تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها. و ذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب، فما يلبث أن ينطفى‏ء و يبرد و يفقد ناره و نوره، مهما كانت كتلته من الضخامة. على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها و حرارتها و نورها: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ» ..

غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول، و باستمدادها من النبع الواحد للقوة و للعزة جميعا.

و أما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف التعرف و الصداقة، لا موقف التخوف و العداء. ذلك أن قوة الإنسان و قوة الطبيعة صادرتان عن إرادة اللّه و مشيئته. محكومتان بإرادة اللّه و مشيئته، متناسقتان متعاونتان في الحركة و الاتجاه.

إن عقيدة المسلم توحي إليه أن اللّه ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقا مساعدا متعاونا؛ و أن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها. و يتعرف إليها، و يتعاون و إياها، و يتجه معها إلى اللّه ربه و ربها.

و إذا كانت هذه القوى تؤذيه أحيانا، فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها و لم يتعرف إليها، و لم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها.

و لقد درج الغربيون- ورثة الجاهلية الرومانية- على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم: «قهر الطبيعة» .. و لهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة باللّه، و بروح الكون المستجيب للّه.

فأما المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم، الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبحة للّه رب العالمين ..

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 26

فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر و الجفوة. إنه يعتقد أن اللّه هو مبدع هذه القوى جميعا. خلقها كلها وفق ناموس واحد، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس. و أنه سخرها للإنسان ابتداء و يسر له كشف أسرارها و معرفة قوانينها. و أن على الإنسان أن يشكر اللّه كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها. فاللّه هو الذي يسخرها له، و ليس هو الذي يقهرها: «سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» ..

و إذن فإن الأوهام لن تملأ حسه تجاه قوى الطبيعة؛ و لن تقوم بينه و بينها المخاوف .. إنه يؤمن باللّه وحده، و يعبد اللّه وحده، و يستعين باللّه وحده. و هذه القوى من خلق ربه. و هو يتأملها و يألفها و يتعرف أسرارها، فتبذل له معونتها، و تكشف له عن أسرارها. فيعيش معها في كون مأنوس صديق ودود .. و ما أروع قول الرسول- صلى اللّه عليه و سلم- و هو ينظر إلى جبل أحد: «هذا جبل يحبنا و نحبه» .. ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول محمد- صلى اللّه عليه و سلم- من ود و ألفة و تجاوب، بينه و بين الطبيعة في أضخم و أخشن مجاليها.

و بعد تقرير تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي؛ و تقرير الاتجاه إلى اللّه وحده بالعبادة و الاستعانة ..

يبدأ في التطبيق العملي لها بالتوجه إلى اللّه بالدعاء على صورة كلية تناسب جو السورة و طبيعتها:

«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» ..

«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» .. و فقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الواصل؛ و وفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته .. فالمعرفة و الاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية اللّه و رعايته و رحمته. و التوجه إلى اللّه في هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين. و هذا الأمر هو أعظم و أول ما يطلب المؤمن من ربه العون فيه. فالهداية إلى الطريق المستقيم هي ضمان السعادة في الدنيا و الآخرة عن يقين .. و هي في حقيقتها هداية فطرة الإنسان إلى ناموس اللّه الذي ينسق بين حركة الإنسان و حركة الوجود كله في الاتجاه إلى اللّه رب العالمين.

و يكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم: «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» ..

فهو طريق الذين قسم لهم نعمته. لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حيدتهم عنه. أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلا إليه .. إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين ..

و بعد فهذه هي السورة المختارة للتكرار في كل صلاة، و التي لا تصح بدونها صلاة. و فيها على قصرها تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي؛ و تلك التوجهات الشعورية المنبثقة من ذلك التصور.

و قد ورد في صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه، عن أبي هريرة عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم-: «يقول اللّه تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين. فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل .. إذا قال العبد: الحمد للّه رب العالمين. قال اللّه: حمدني عبدي. و إذا قال الرحمن الرحيم. قال اللّه أثنى عليّ عبدي. فإذا قال: مالك يوم الدين. قال اللّه: مجدني عبدي.

و إذا قال: إياك نعبد و إياك نستعين. قال: هذا بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين. قال: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل» ..

و لعل هذا الحديث الصحيح- بعد ما تبين من سياق السورة ما تبين- يكشف عن سر من أسرار اختيار السورة ليرددها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم و ليلة؛ أو ما شاء اللّه أن يرددها كلما قام يدعوه في الصلاة ..

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 27

(2) سورة البقرة مدنيّة و آياتها ستّ و ثمانون و مائتان‏

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذه السورة من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة. و هي أطول سور القرآن على الإطلاق. و المرجح أن آياتها لم تنزل متوالية كلها حتى اكتملت قبل نزول آيات من سور أخرى؛ فمراجعة أسباب نزول بعض آياتها و بعض الآيات من السور المدنية الأخرى- و إن تكن هذه الأسباب ليست قطعية الثبوت- تفيد أن السور المدنية الطوال لم تنزل آياتها كلها متوالية؛ إنما كان يحدث أن تنزل آيات من سورة لاحقة قبل استكمال سورة سابقة نزلت مقدماتها؛ و أن المعول عليه في ترتيب السور من حيث النزول هو سبق نزول أوائلها- لا جميعها- و في هذه السورة آيات في أواخر ما نزل من القرآن كآيات الربا، في حين أن الراجح أن مقدماتها كانت من أول ما نزل من القرآن في المدينة.

فأما تجميع آيات كل سورة في السورة، و ترتيب هذه الآيات، فهو توقيفي موحى به .. روى الترمذي- بإسناده- عن ابن عباس- رضي اللّه عنهما- قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني و إلى براءة و هي من المئين، و قرنتم بينهما و لم تكتبوا سطر: بسم اللّه الرحمن الرحيم، و وضعتموها في السبع الطوال؟ و ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- كان مما يأتي عليه الزمان و هو ينزل عليه السور ذوات العدد؛ فكان إذا نزل عليه الشي‏ء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا. و كانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، و كانت براءة من آخر ما نزل من القرآن؛ و كانت قصتها شبيهة بقصتها، و خشيت أنها منها؛ و قبض رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- و لم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، و لم أكتب بينهما سطر: بسم اللّه الرحمن الرحيم، و وضعتها في السبع الطوال.

فهذه الرواية تبين أن ترتيب الآيات في كل سورة كان بتوقيف من رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- و قد روى الشيخان عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال كان النبي- صلى اللّه عليه و سلم- أجود الناس بالخير و كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. و كان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي- صلى اللّه عليه و سلم- القرآن، و في رواية فيدارسه القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة. و من الثابت أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- و قد قرأ القرآن كله على جبريل- عليه السلام- كما أن جبريل قد قرأه عليه .. و معنى هذا أنهما قرآن مرتبة آياته في سوره.

و من ثم يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة! شخصية لها روح‏

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 28

يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح و السمات و الأنفاس! و لها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص. و لها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها؛ و يجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة، تحقق التناسق بينها و فق هذا الجو. و لها إيقاع موسيقي خاص- إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة «1» .. و هذا طابع عام في سور القرآن جميعا.

و لا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة.

هذه السورة تضم عدة موضوعات. و لكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا .. فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة، و استقبالهم لها، و مواجهتهم لرسولها- صلى اللّه عليه و سلم- و للجماعة المسلمة الناشئة على أساسها ...

و سائر ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود و المنافقين من جهة، و بين اليهود و المشركين من جهة أخرى .. و هي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها؛ و إعدادها لحمل أمانة الدعوة و الخلافة في الأرض، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها، و نقضهم لعهد اللّه بخصوصها، و تجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم- عليه السلام- صاحب الحنيفية الأولى، و تبصير الجماعة المسلمة و تحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم ..

و كل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين، كما سيجي‏ء في استعراضها التفصيلي.

و لكي يتضح مدى الارتباط بين محور السورة و موضوعاتها من جهة، و بين خط سير الدعوة أول العهد بالمدينة، و حياة الجماعة المسلمة و ملابساتها من الجهة الأخرى .. يحسن أن نلقي ضوءا على مجمل هذه الملابسات التي نزلت آيات السورة لمواجهتها ابتداء. مع التنبيه الدائم إلى أن هذه الملابسات في عمومها هي الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية و أصحابها يواجهونها- مع اختلاف يسير- على مر العصور و كر الدهور؛ من أعدائها و أوليائها على السواء. مما يجعل هذه التوجيهات القرآنية هي دستور هذه الدعوة الخالد؛ و يبث في هذه النصوص حياة تتجدد لمواجهة كل عصر و كل طور؛ و يرفعها معالم للطريق أمام الأمة المسلمة تهتدي بها في طريقها الطويل الشاق، بين العداوات المتعددة المظاهر المتوحدة الطبيعة .. و هذا هو الإعجاز يتبدى جانب من جوانبه في هذه السمة الثابتة المميزة في كل نص قرآني.

لقد تمت هجرة الرسول- صلى اللّه عليه و سلم- إلى المدينة بعد تمهيد ثابت و إعداد محكم. تمت تحت تأثير ظروف حتمت هذه الهجرة؛ و جعلتها إجراء ضروريا لسير هذه الدعوة في الخط المرسوم الذي قدره اللّه لها بتدبيره .. كان موقف قريش العنيد من الدعوة في مكة- و بخاصة بعد وفاة خديجة- رضي اللّه عنها- و موت أبي طالب كافل النبي و حاميه .. كان هذا الموقف قد انتهى إلى تجميد الدعوة تقريبا في مكة و ما حولها. و مع استمرار دخول أفراد في الإسلام على الرغم من جميع الاضطهادات و التدبيرات فإن الدعوة كانت تعتبر قد تجمدت فعلا في مكة و ما حولها، بموقف قريش منها، و تحالفهم على حربها بشتى الوسائل، مما جعل بقية العرب تقف موقف التحرز و الانتظار، في ارتقاب نتيجة المعركة بين الرسول و عشيرته الأقربين، و على رأسهم أبو لهب و عمرو بن هشام و أبو سفيان بن حرب و غير هم ممن يمتون بصلة القرابة القوية لصاحب الدعوة. و ما كان هناك ما يشجع العرب في بيئة قبلية لعلاقات القرابة عندها وزن كبير، على الدخول في عقيدة

(1) يراجع فصل: «التناسق الفني في كتاب «التصوير الفني في القرآن»- «دار الشروق»

فى ظلال القرآن، ج‏1، ص: 29

رجل تقف منه عشيرته هذا الموقف. و بخاصة أن عشيرته هذه هي التي تقوم بسدانة الكعبة، و هي التي تمثل الناحية الدينية في الجزيرة! و من ثم كان بحث الرسول- صلى اللّه عليه و سلم- عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة و تكفل لها الحرية، و يتاح لها فيها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة. حيث تظفر بحرية الدعوة و بحماية المعتنقين لها من الاضطهاد و الفتنة .. و هذا في تقديري كان هو السبب الأول و الأهم للهجرة.

و لقد سبق الاتجاه إلى يثرب، لتكون قاعدة للدعوة الجديدة، عدة اتجاهات .. سبقها الاتجاه إلى الحبشة، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل. و القول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية. فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها و قوة و منعة من المسلمين. غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد و التعذيب و الفتنة لم يهاجروا. إنما هاجر رجال ذوو عصبيات، لهم من عصبيتهم- في بيئة قبلية- ما يعصمهم من الأذى، و يحميهم من الفتنة؛ و كان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين، منهم جعفر بن أبي طالب- و أبوه و فتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي- صلى اللّه عليه و سلم- و منهم جعفر بن أبي طالب- و أبوه و فتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي- صلى اللّه عليه و سلم- و منهم الزبير بن العوام، و عبد الرحمن ابن عوف، و أبو سلمة المخزومي، و عثمان بن عفان الأموي .... و غيرهم. و هاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا .. و ربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة في قريش؛ و أبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم، فرارا من الجاهلية، تاركين وراءهم كل و شائج القربى، في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا؛ و بخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة، بنت أبي سفيان، زعيم الجاهلية، و أكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة و صاحبها .. و لكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة. و بخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة. ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه، كما ورد في روايات صحيحة.

كذلك يبدو اتجاه الرسول- صلى اللّه عليه و سلم- إلى الطائف محاولة أخرى لإيجاد قاعدة حرة أو آمنة على الأقل للدعوة .. و هي محاولة لم تكلل بالنجاح لأن كبراء ثقيف استقبلوا رسول اللّه- صلى اللّه عليه و سلم- أسوأ استقبال، و سلطوا عليه سفهاءهم و صبيانهم يرجمونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه الشريفتين، و لم يتركوه حتى آوى إلى حائط (أي حديقة) لعتبة و شيبة ابني ربيعة .. و هناك انطلق لسانه بذلك الدعاء الخالص العميق: «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، و قلة حيلتي، و هواني على الناس. يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين و أنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى عدو ملكته أمري! أم بعيد يتجهمني؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي. و لكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى، و لا حول و لا قوة إلّا بك».

صفحه بعد