کتابخانه تفاسیر
محاسن التاويل
الجزء الأول
تمهيد خطير في قواعد التفسير
10 - قاعدة الترغيب و الترهيب في التنزيل الكريم
11 - قاعدة في أنه: هل في القرآن مجاز أم لا؟
سورة فاتحة الكتاب
سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
سورة آل عمران
الجزء الثالث
سورة النساء
القول في تأويل قوله تعالى:[سورة النساء(4): آية 158]
الجزء الرابع
سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الخامس
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة التوبة
الجزء السادس
سورة يونس
سورة هود
سورة يوسف
سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء السابع
سورة الكهف
سورة مريم
سورة طه
سورة الأنبياء
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
سورة العنكبوت
الجزء الثامن
سورة الروم
سورة لقمان
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبأ
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
سورة غافر
سورة فصلت(حم السجدة)
سورة الشورى
سورة الزخرف
سورة الدخان
سورة الجاثية
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
الجزء التاسع
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة الممتحنة
سورة الصف
سورة الجمعة
سورة المنافقون
سورة التغابن
سورة الطلاق
سورة التحريم
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح
سورة الجن
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة المطففين
سورة الانشقاق
سورة الفجر
سورة البلد
محاسن التاويل، ج1، ص: 72
فصار هذا من النمط الأول.
و من أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقّا. كحكايته عن الأنبياء و الأولياء. و منه قصة ذي القرنين، و قصة الخضر مع موسى عليه السلام، و قصة أصحاب الكهف. و أشباه ذلك.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
و لا طّراد هذا الأصل اعتمده النظار. فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع بقوله تعالى: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ... [المدثر: 43- 44] الآية، إذ لو كان قولهم باطلا لردّ عند حكايته.
و استدل على أن أصحاب الكهف سبعة و ثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم و إنهم خمسة سادسهم كلبهم، أعقب ذلك بقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ [الكهف: 22]، أي ليس لهم دليل و لا علم غير اتباع الظن.
و رجم الظنون لا يغني من الحق شيئا، و لما حكى قولهم سبعة و ثامنهم كلبهم لم يتبعه بإبطال، بل قال: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف: 22]، دلّ المساق على صحته دون القولين الأولين. و روي عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم. و رأيت منقولا عن سهل بن عبد الله أنه سئل عن قول إبراهيم عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: 260]، فقيل له: أ كان شاكّا حين سأل ربه أن يريه آية؟ فقال: لا، و إنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان. ألا تراه قال: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى [البقرة: 260]، فلو علم منه شكا لأظهر ذلك، فصح أن الطمانينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان. بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا [الحجرات: 14] فإن الله تعالى رد عليهم بقوله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14].
و من تتبع مجاري الحكايات في القرآن، عرف مداخلها و ما هو منها حق مما هو باطل. فقد قال تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1]، إلى آخرها، فإن هذه الحكاية ممزوجة الحق بالباطل، فظاهرها حق و باطنها كذب، من حيث كان إخبارا عن المعتقد، و هو غير مطابق، فقال تعالى:
محاسن التاويل، ج1، ص: 73
وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون: 1] تصحيحا لظاهر القول. و قال: وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ إبطالا لما قصدوا فيه. و قال تعالى: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 67] الآية، و سبب نزولها ما
خرجه الترمذيّ و صححه عن ابن عباس، قال: مر يهوديّ بالنبي صلى اللّه عليه و سلم، فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: حدثنا يا يهودي! فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه و الأرضين على ذه و الماء على ذه و الجبال على ذه و سائر الخلق على ذه (و أشار الراوي بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام) فأنزل الله وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ*
. و
في رواية أخرى: جاء يهودي إلى النبيّ صلى اللّه عليه و سلم فقال: يا محمد! إن الله يمسك السموات على إصبع، و الأرضين على إصبع، و الجبال على إصبع، و الخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك! فضحك النبي صلى اللّه عليه و سلم حتى بدت نواجذه. قال: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ* .
و
في رواية فضحك النبي صلى اللّه عليه و سلم تعجبا و تصديقا
. و الحديث الأول كأنه مفسر لهذا، و بمعناه يتبين معنى قوله: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ* فإن الآية بينت أن كلام اليهوديّ حق في الجملة، و ذلك قوله: وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ و أشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية و ذلك- و الله أعلم- لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه، و ذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه، فقال: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ* .
و قال تعالى: وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة: 61] أي يسمع الحق و الباطل، فرد الله عليهم فيما هو باطل و أحق الحق، فقال: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة: 61] الآية، و لما قصدوا الأذيّة بذلك الكلام قال تعالى:
وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 61]. و قال تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس: 47] فهذا منهم امتناع عن الإنفاق بحجة، قصدهم فيها الاستهزاء، فرد عليهم بقوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس: 47] لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر. و جواب «أنفقوا» أن يقال: «نعم أو لا» و هو الامتثال أو العصيان. فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض، انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا. إذ حاصلهم أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة، لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق، فكأنهم قالوا: كيف يشاء الطلب منا، و لو شاء أن يطعمهم لأطعمهم، و هذا عين الضلال في نفس الحجة. و قال تعالى: وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء: 78] إلى قوله: وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً
محاسن التاويل، ج1، ص: 74
وَ عِلْماً فقوله: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ [الأنبياء: 79] تقرير لإصابته عليه السلام- في ذلك، الحكم-، و إيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام، لكن لما كان المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله الوسع، قال: وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً [الأنبياء: 79] و هذا من البيان الخفيّ فيما نحن فيه.
قال الحسن: و الله! لو لا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين لرأيت أن القضاة قد هلكوا. فإنه أثنى على هذا بعلمه، و عذر هذا باجتهاده. و النمط هنا يتسع، و يكفي منه ما ذكر، و بالله التوفيق.
ثم اعلم أن قصص القرآن الكريم لا يراد بها سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص، و إنما هي عبرة للناس. كما قال تعالى في سورة هود، بعد ما ذكر موجزا من سيرة الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم: وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ...
[هود: 120] إلخ، و لذلك لا تذكر الوقائع و الحوادث بالترتيب، و لا تستقصى فيذكر منها الطمّ و الرمّ، و يؤتى فيها بالجرّة و أذن الجرة، كما في بعض الكتب، التي تسميها الملل الأخرى مقدسة. و للعبرة وجوه كثيرة. و في تلك القصص فوائد عظيمة، و أفضل الفوائد و أهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشريّ، و تأثير أعمال الخير و الشر في الحياة الإنسانية. و قد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع من كتابه كقوله: وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [الحجر: 13]. و قوله: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ [غافر: 85]. يذكر أمثال هذا بعد بيان أحوال الأمم في غمط الحق و الإعراض عنه، و الغرور بما أوتوا، و نحو ذلك.
فالآية الأولى جاءت في سياق الكلام عن المعرضين عن الحق لا يلوون عليه و لا ينظرون في أدلته لانهماكهم في ترفهم و سرفهم، و جمودهم على عاداتهم و تقاليدهم.
و الآية الثانية: جاءت في سياق محاجّة الكافرين و التذكير بما كان من شأنهم مع الأنبياء. و بعد الأمر في السير في الأرض و النظر في عاقبة الأمم القوية ذات القوة و الآثار في الأرض، و كيف هلكوا بعد ما دعوا إلى الحق و التهذيب فلم يستجيبوا، لما صرفهم من الغرور بما كانوا فيه، و لم ينفعهم إيمانهم عند ما نزل بهم بأس الله و حلّ بهم عذاب التفريط و الاسترسال في الكفر و آثاره السوءى. و ليس المراد، بنفي كون قصص القرآن تاريخا، أنّ التاريخ شيء باطل ضارّ ينزه القرآن عنه. كلا. إن قصصه شذور من التاريخ تعلم الناس كيف ينتفعون بالتاريخ.
فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من التاريخ الطبيعيّ م
محاسن التاويل، ج1، ص: 75
أحوال الحيوان و النبات و الجماد، و مثل ما فيه من الكلام في الفلك، يراد بذلك كله التوجيه إلى العبرة و الاستدلال على قدرة الصانع و حكمته؛ لا تفصيل مسائل العلوم الطبيعية و الفلكية التي مكن اللّه البشر من الوقوف عليها بالبحث و النظر و التجربة، و هداهم إلى ذلك بالفطرة و بالوحي معا.
10- قاعدة الترغيب و الترهيب في التنزيل الكريم
. قال الشاطبيّ: إذا ورد في القرآن الترغيب، قارنه الترهيب في لواحقه أو سوابقه أو قرائنه. و بالعكس. و كذلك الترجية مع التخويف و ما يرجع إلى هذا المعنى، مثله.
و منه ذكر أهل الجنة يقارنه ذكر أهل النار و بالعكس. لأن في ذكر أهل الجنة بأعمالهم ترجية. و في ذكر أهل النار بأعمالهم تخويفا. فهو راجع إلى الترجية و التخويف.
و يدل على هذه الجملة عرض الآيات على النظر. فأنت ترى أن الله جعل الحمد فاتحة كتابه و قد وقع فيه اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 6] إلى آخرها. فجيء بذكر الفريقين. ثم بدئت سورة البقرة بذكرهما أيضا. فقيل: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ . ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة: 6] ثم ذكر بأثرهم المنافقون. و هم صنف من الكفار. فلما تم ذلك أعقب بالأمر بالتقوى ثم بالتخويف بالنار، و بعده بالترجية. فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ [البقرة: 24] إلى قوله: وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا الآية ثم قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 26] الآية. ثم ذكر في قصة آدم مثل هذا. و لما ذكّر بنو إسرائيل بنعم الله عليهم ثم اعتدائهم و كفرهم، قيل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا* [البقرة: 62] إلى قوله: هُمْ فِيها خالِدُونَ . ثم ذكر تفاصيل ذلك الاعتداء إلى أن ختم بقوله:
وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102]. و هذا تخويف. ثم قال: وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ [البقرة: 103] الآية و هو ترجية. ثم شرع في ذكر ما كان من شأن المخالفين في تحويل القبلة ثم قال: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة: 112] الآية. ثم ذكر من شأنهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [البقرة: 121]. ثم ذكر قصة إبراهيم علية السلام و بنيه. و ذكر في أثنائها التخويف و الترجية. و ختمها بمثل ذلك، و لا يطول عليك زمان إنجاز الوعد في هذا الاقتران، فقد يكون بينهما أشياء معترضة في أثناء المقصود، و الرجوع بعد إلى ما تقرر. و قال تعالى في سورة
محاسن التاويل، ج1، ص: 76
الأنعام، و هي في المكيات نظير سورة البقرة في المدنيات: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ إلى قوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1].
و ذكر البراهين التامة ثم أعقبها بكفرهم و تخويفهم بسببه، إلى أن قال: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام: 12] فأقسم بكتب الرحمة على إنفاذ الوعيد على من خالف. و ذلك يعطي التخويف تصريحا، و الترجية ضمنا. ثم قال: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* [الأنعام: 15] فهذا تخويف، و قال: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ [الأنعام: 16] الآية. و هذا ترجية، و كذا قوله: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ* [الأنعام: 17] الآية. ثم مضى في ذكر التخويف حتى قال: وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأنعام: 32]. ثم قال: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام: 36] و نظيره قوله: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: 39] الآية. ثم ذكر ما يليق بالموطن إلى أن قال: وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ [الأنعام: 48] الآية.
و اجر في النظر على هذا الترتيب يلح لك وجه الأصل المنبه عليه. و لو لا الإطالة لبسط في ذلك كثير.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
و قد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن و مقتضيات الأحوال. فيرد التخويف و يتسع مجاله. لكنه لا يخلو من الترجية. كما في سورة الأنعام. فإنها جاءت مقررة للخلق و منكرة على من كفر بالله و اخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه، و صدّ عن سبيله، و أنكر ما لا ينكر، و لدّ فيه و خاصم. و هذا المعنى يقتضي تأكيد التخويف من إطالة التأنيب و التعنيف. فكثرت مقدماته و لواحقه. و لم يخل، مع ذلك، من طرف الترجية. لأنهم بذلك مدعوون إلى الحق. و قد تقدم الدعاء. و إنما هو مزيد تكرار، إعذارا و إنذارا. و مواطن الاغترار يطلب فيها التخويف أكثر من طلب الترجية.
لأن درء المفاسد آكد. و ترد الترجية أيضا و يتسع مجالها. و ذلك في مواطن القنوط و مظنته. كما في قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] الآية. فإن ناسا من أهل الشرك
محاسن التاويل، ج1، ص: 77
كانوا قد قتلوا و أكثروا و زنوا و أكثروا. فأتوا محمدا صلى اللّه عليه و سلم فقالوا: إن الذي تقول و تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا: أنّ لما عملنا كفارة. فنزلت. فهذا موطن خوف يخاف منه القنوط. فجيء فيه بالترجية غالبة. و مثل ذلك الآية الأخرى: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114]. و انظر في سببها في الترمذيّ و النسائي و غيرهما.
و لما كان جانب الإخلال من العباد أغلب، كان جانب التخويف أغلب. و ذلك في مظانه الخاصة، لا على الإطلاق. فإنه إذا لم يكن هنالك مظنة هذا و لا هذا أتى الأمر معتدلا. فإن قيل: هذا لا يطرد. فقد ينفرد أحد الأمرين فلا يؤتى معه بالآخر، فيأتي التخويف من غير ترجية، و بالعكس. أ لا ترى قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1]، إلى آخرها، فإنها كلها تخويف. و قوله: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6- 7]، إلى آخر السورة. و قوله: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الفيل: 1]، إلى آخر السورة.
و من الآيات قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إلى قوله: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً [الأحزاب: 57- 58]. و في الطرف الآخر قوله تعالى: وَ الضُّحى وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى [الضحى: 1- 2]، إلى آخرها. و قوله تعالى: أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1]، إلى آخرها.
و من الآيات قوله تعالى: وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى [النور: 22] الآية.
و روى أبو عبيد عن ابن عباس أنه التقى هو و عبد الله بن عمرو. فقال ابن عباس: أي آية أرجى في كتاب الله؟ فقال عبد الله: قوله: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] الآية. فقال ابن عباس:
لكن قول الله: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260].
قال ابن عباس: فرضي منه بقوله: بلى.
قال: فهذا لما يعترض في الصدور مما يوسوس به الشيطان.
و عن ابن مسعود قال: في القرآن آيتان ما قرأهما عبد مسلم عند ذنب إلا غفر الله له. و فسّر ذلك أبيّ بن كعب بقوله تعالى: وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران: 135]، إلى آخر الآية. و قوله: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 110].
محاسن التاويل، ج1، ص: 78
و عن ابن مسعود: إن في النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا و ما فيها. و لقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها: قوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: 31] الآية. و قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: 40] الآية. و قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ* [النساء: 48] الآية. و قوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ [النساء: 64] الآية. و قوله: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 110].
و أشياء من هذا القبيل كثيرة إذا تتبعت وجدت. فالقاعدة لا تطرد و إنما الذي يقال: إن كل موطن له ما يناسبه، و لكل مقام مقال، و هو الذي يطرد في علم البيان.
أما هذا التخصيص فلا. فالجواب: أن ما اعترض به غير صادّ عن سبيل ما تقدم. و عنه جوابان: إجماليّ و تفصيليّ. فالإجماليّ: أن يقال: إن الأمر العام و القانون الشائع هو ما تقدم فلا تنقضه الأفراد الجزئية الأقلية. لأن الكلية إذا كانت أكثرية في الوضعيات انعقدت كلية، و اعتمدت في الحكم بها. و عليها شاءت الأمور الهادية الجارية في الوجود. و لا شك أن ما اعترض به من ذلك قليل. يدل عليه الاستقراء.
فليس بقادح فيما تأصّل. و أما التفصيليّ، فإن قوله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قضية عين في رجل معيّن من الكفار، بسبب أمر معيّن من همزه النبيّ عليه السلام و عيبه إياه. فهو إخبار عن جزائه على ذلك العمل القبيح. لا أنه أجري مجرى التخويف.
فليس مما نحن فيه. و هذا الوجه جار في قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى .
و قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ [التوبة: 61] الآيتين، جار على ما ذكر. و كذلك سورة و الضحى [الضحى: 1- 11].
و قوله: أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1]، غير ما نحن فيه. بل هو أمر من الله للنبيّ عليه السلام بالشكر لأجل ما أعطاه من المنح.
و قوله أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور: 22]، قضية عين لأبي بكر الصديق، نفس بها من كربه فيما أصابه بسبب الإفك المتقوّل على بنته عائشة. فجاء هذا الكلام كالتأنيس له و الحضّ على إتمام مكارم الأخلاق، و إدامتها، بالإنفاق على قريبه المتصف بالمسكنة و الهجرة. و لم يكن ذلك واجبا على أبي بكر. و لكن أحبّ الله له معالي الأخلاق.