کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

مختصر الميزان فى تفسير القرآن

المجلد الاول

بحث حول الأساليب التفسيرية المختلفة الأسلوب التفسيري الصحيح الميزان في تفسير القرآن مختصر الميزان في تفسير القرآن مميزات هذا الكتاب مقدمة الميزان في تفسير القرآن

سورة البقرة و هي مأتان و ست و ثمانون آية

سورة آل عمران مدنية و هي مائتا آية

سورة النساء مدنية و هي مائة و ست و سبعون آية

المجلد الثانى

سورة المائدة مدنية و هي مائة و عشرون آية

سورة الأعراف مكية و هي مائتا و ستة آية

المجلد الثالث

الجزء الرابع

المجلد الخامس

الجزء السادس

مختصر الميزان فى تفسير القرآن


صفحه قبل

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص: 70

الإشراف على الآخرة، و الإعراض عن ملاذّ الدنيا و زخارفها، و ينهاهم عن التكالب لأجل هذا العرض الأدنى فلما نسوا حظا مما ذكروا به أثبت اللّه سبحانه في قلوبهم مكان السلم و الصلح حربا، و بدل المؤاخاة و الموادة التي ندبوا اليها معادة و مباغضة كما يقول‏ «فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ» .

و هذه العداوة و البغضاء اللتان ذكرهما اللّه تعالى صارتا من الملكات الراسخة المرتكزة بين هؤلاء الامم المسيحية و كالنار الآخرة التي لا مناص لهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها و ذوقوا عذاب الحريق.

و لم يزل منذ رفع عيسى بن مريم عليه السّلام، و اختلف حواريوه و الدعاة السائحون من تلامذتهم فيما بينهم نشب الاختلاف فيما بينهم، و لم يزل ينمو و يكثر حتى تبدل الى الحروب و المقاتلات و الغارات و أنواع الشرد و الطرد و غير ذلك حتى انتهى الى حروب عالمية كبرى تهدد الأرض بالخراب و الإنسانية بالفناء و الانقراض.

كل ذلك من تبدل النعمة نقمة، و إنتاج السعي ضلالا «وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» .

[سورة المائدة (5): الآيات 15 الى 19]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (17) وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى‏ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى‏ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (19)

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص: 71

بيان:

قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أما بيانه كثيرا كانوا يخفون من الكتاب فكبيانه آيات النبوة و بشاراتها كما يشير اليه قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ‏ الآية (الأعراف/ 157)؛ و قوله تعالى:

يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ‏ الآية (البقرة/ 146) و قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ‏ - الى قوله- ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ‏ الآية (الفتح/ 29) و كبيانه صلّى اللّه عليه و آله و سلم حكم الرجل الذي كتموه و كابروا فيه الحق على ما يشير اليه قوله تعالى فيما سيأتي: لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ الآيات (المائدة/ 41)؛ و هذا

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص: 72

الحكم أعني حكم الرجم موجود الآن في الإصحاح الثاني و العشرين من سفر التثنية من التوراة الدائرة بينهم.

و أما عفوه عن كثير فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب، و يشهد بذلك الاختلاف الموجود في الكتابين، كاشتمال التوراة على امور في التوحيد و النبوة لا يصح استنادها اليه تعالى كالتجسم و الحلول في المكان و نحو ذلك، و ما لا يجوز العقل نسبته الى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر و الفجور و الزلات، و كفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس و لا يقوم دين على ساق إلا بمعاد، و كاشتمال ما عندهم من الأناجيل و لا سيما إنجيل يوحنا على عقائد الوثنية.

قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ‏ ظاهر قوله: «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ» كون هذا الجائي قائما به تعالى نحو قيام كقيام البيان أو الكلام بالمبين و المتكلم و هذا يؤيد كون المراد بالنور هو القرآن، و على هذا فيكون قوله: «وَ كِتابٌ مُبِينٌ» معطوفا عليه عطف تفسير، و المراد بالنور و الكتاب المبين جميعا القرآن، و قد سمى اللّه تعالى القرآن نورا في موارد من كلامه كقوله تعالى: وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ‏ (الأعراف/ 157) و قوله:

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا (التغابن/ 8) و قوله: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (النساء/ 174).

و من المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم على ما ربما أفاده صدر الكلام في الآية، و قد عده اللّه تعالى نورا في قوله: وَ سِراجاً مُنِيراً (الأحزاب/ 46).

قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ‏ الباء في قوله:

«به» للآلة و الضمير عائد الى الكتاب أو الى النور سواء أريد به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أو القرآن فمآل الجميع واحد فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أحد الأسباب الظاهرية في مرحلة الهداية، و كذا القرآن و حقيقة الهداية قائمة به قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (القصص/ 56)، و قال: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ‏

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص: 73

وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (الشورى/ 53) و الآيات كما ترى تنسب الهداية الى القرآن و الى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم في عين أنها ترجعها الى اللّه سبحانه فهو الهادي حقيقة و غيره سبب ظاهري مسخر لإحياء أمر الهداية.

و قد قيد تعالى قوله: «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ» بقوله: «مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ» و يؤول الى اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه، فالمراد بالهداية هو الإيصال الى المطلوب، و هو أن يورده اللّه تعالى سبيلا من سبل السلام أو جميع السبل أو أكثرها واحدا بعد آخر.

و قد أطلق تعالى السلام فهو السلامة و التخلص من كل شقاء يختل به أمر سعادة الحياة في دنيا أو آخرة، فيوافق ما وصف القرآن الإسلام للّه و الإيمان و التقوى بالفلاح و الفوز و الأمن و نحو ذلك، و قد تقدم في الكلام على قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ (الحمد/ 6) في الجزء الأول من الكتاب أن اللّه سبحانه بحسب اختلاف حال السائرين من عباده سبلا كثيرة تتحد الجميع في طريق واحد منسوب اليه تعالى يسميه في كلامه بالصراط المستقيم قال تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ‏ (العنكبوت/ 69)، و قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏ (الأنعام/ 153). فدل على أن له سبلا كثيرة لكن الجميع تتحد في الإيصال الى كرامته تعالى من غير أن تفرق سالكيها و يبين كل سبيل سالكيه عن سالكي غيره من السبل كما هو شأن غير صراطه تعالى من السبل.

فمعنى الآية- و اللّه تعالى-: يهدي اللّه سبحانه و يورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا و الآخرة، و كل ما تتكدر به العيشة السعيدة.

فأمر الهداية الى السلام و السعادة يدور مدار اتباع رضوان اللّه، و قد قال تعالى:

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص: 74

وَ لا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ (الزمر/ 7)، و قال: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى‏ عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ‏ (التوبة/ 96) و يتوقف بالأخرة على اجتناب سبيل الظلم و الانخراط في سلك الظالمين، و قد نفى اللّه سبحانه عنهم هدايته و آيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهية بقوله: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏ (الجمعة/ 5) فالآية أعني قوله: «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ» تجري بوجه مجرى قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ‏ (الأنعام/ 82).

قوله تعالى: وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ‏ في جمع الظلمات و إفراد النور إشارة الى أن طريق الحق لا اختلاف فيه و لا تفرق و إن تعددت بحسب المقامات و المواقف بخلاف طريق الباطل.

و الإخراج من الظلمات الى النور اذا نسب الى غيره تعالى كنبي أو كتاب فمعنى إذنه تعالى فيه إجازته و رضاه كما قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ‏ (إبراهيم/ 1) فقيّد إخراجه إياهم من الظلمات الى النور بإذن ربهم ليخرج بذلك عن الاستقلال في السببية فإن السبب الحقيقي لذلك هو اللّه سبحانه و قال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (إبراهيم/ 5) فلم يقيده بالإذن لاشتمال الأمر على معناه.

و اذا نسب ذلك الى اللّه تعالى فمعنى إخراجهم بإذنه إخراجهم بعلمه و قد جاء الاذن بمعنى العلم يقال: أذن به أي علم به، و من هذا الباب قوله تعالى: وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ‏ (التوبة/ 3) فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى‏ سَواءٍ (الأنبياء/ 109)، و قوله: وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ‏ (الحج/ 27) الى غيرها من الآيات.

و أما قوله‏تعالى: «وَ يَهْدِيهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» فقد أعيد فيه لفظ الهداية لحيلولة قوله:

«وَ يُخْرِجُهُمْ» ، بين قوله: «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ» ، و بين هذه الجملة، و لأن الصراط المستقيم كما تقدم‏

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص: 75

بيانه في سورة الفاتحة طريق مهيمن على الطرق كلها فالهداية اليه أيضا هداية مهيمنة على سائر أقسام الهداية التي تتعلق بالسبل الجزئية.

و لا ينافي تنكير قوله: «صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» كون المراد به هو الصراط المستقيم الوحيد الذي نسبه اللّه تعالى في كلامه الى نفسه- إلا في سورة الفاتحة- لأن قرينة المقام تدل على ذلك، و إنما التنكير لتعظيم شأنه و تفخيم أمره.

قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ‏ هؤلاء إحدى الطوائف الثلاثة التي تقدم نقل أقوالهم في سورة آل عمران، و هي القائلة باتحاد اللّه سبحانه بالمسيح فهو إله بشر بعينه، و يمكن تطبيق الجملة أعني قولهم: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» على القول بالبنوة و على القول بثالث ثلاثة أيضا غير أن ظاهر الجملة هو حصول العينية بالاتحاد.

قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً الآية؛ هذا برهان على إبطال قولهم: من جهة مناقضة بعضه بعضا لأنهم لما وضعوا أن المسيح مع كونه إلها بشر كما وصفوه بأنه ابن مريم جوزوا له ما يجوز على أي بشر مفروض من سكان هذه الارض، و هم جميعا كسائر أجزاء السماوات و الارض و ما بينهما مملوكون للّه تعالى مسخرون تحت ملكه و سلطانه، فله تعالى أن يتصرف فيهم بما أراد، و أن يحكم لهم أو عليهم كيفما شاء، فله أن يهلك المسيح كماله أن يهلك أمه و من في الأرض على حد سواء من غير مزية للمسيح على غيره، و كيف يجوز الهلاك على اللّه سبحانه؟! فوضعهم أن المسيح بشر يبطل وضعهم أنه هو اللّه سبحانه للمناقضة.

فقوله: «فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» كناية عن نفي المانع مطلقا فملك شي‏ء من اللّه هو السلطنة عليه تعالى في بعض ما يرجع اليه، و لازمها انقطاع سلطنته عن ذلك الشي‏ء، و هو أن يكون سبب من الأسباب يستقل في التأثير في شي‏ء بحيث يمانع تأثيره تعالى أو يغلب عليه فيه، و لا

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص: 76

ملك إلا للّه وحده لا شريك له إلا ما ملك غيره تمليكا لا يبطل ملكه و سلطانه.

و قوله: «إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» إنما قيد المسيح بقوله: «ابْنُ مَرْيَمَ» للدلالة على كونه بشرا تاما واقعا تحت التأثير الربوبي كسائر البشر، و لذلك بعينه عطف عليه «امه» لكونه مسانخة له من دون ريب، و عطف عليه‏ «مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» لكون الحكم في الجميع على حد سواء.

و من هنا يظهر أن في هذا التقييد و العطف تلويحا الى برهان الإمكان، و محصلة أن المسيح يماثل غيره من أفراد البشر كامه و سائر من في الأرض فيجوز عليه ما يجوز عليهم لأن حكم الامثال فيما يجوز فيما لا يجوز واحد، و يجوز على غيره أن يقع تحت حكم الهلاك فيجوز عليه ذلك و لا مانع هناك يمنع، و لو كان هو اللّه سبحانه لما جاز عليه ذلك.

و قوله: «وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما» في مقام التعليل للجملة السابقة، و التصريح بقوله: «وَ ما بَيْنَهُما» مع أن القرآن كثيرا ما يعبر عن عالم الخلقة بالسماوات و الارض فقط إنما هو ليكون الكلام أقرب من التصريح، و أسلم من ورود التوهمات و الشبهات فليس لمتوهم أن يتوهم أنه إنما ذكر السماوات و الارض و لم يذكر ما بينهما، و مورد الكلام مما بينهما.

و تقديم الخبر أعني قوله «و للّه» للدلالة على الحصر، و بذلك يتم البيان، و المعنى: كيف يمكن أن يمنع مانع من إرادته تعالى إهلاك المسيح و غيره و وقوع ما أراده من ذلك، و الملك و السلطنة المطلقة في السماوات و الأرض و ما بينهما للّه تعالى لا ملك لأحد سواه؟ فلا مانع من نفوذ حكمه و مضي أمره.

صفحه بعد