کتابخانه تفاسیر
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 40
وردت السور مصدّرة بذلك ليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بوجه من الإعراب «1» ، و تقدمة من دلائل الإعجاز، و ذلك أنّ النّطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام الأميّون منهم و أهل الكتاب، بخلاف النّطق بأسامي الحروف فإنّه كان مختصا بمن خطّ و قرأ و خالط أهل الكتاب و تعلّم منهم، و كان مستبعدا من الأمي التّكلّم بها استبعاد الخطّ و التّلاوة، فكان حكم النّطق بذلك مع اشتهار أنّه لم يكن ممن اقتبس شيئا من أهله حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن، التي لم تكن قريش و من يضاهيهم في شيء من الإحاطة بها، في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي، و شاهد لصحة نبوته، و اعلم أن المذكور في الفواتح نصف أسامي حروف المعجم، و هي الألف و اللام و الميم و الصاد و الراء و الكاف و الهاء و الياء و العين و الطاء و السين و الحاء و القاف و النون في تسع و عشرين سورة على عدد حروف المعجم، و هي مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، فمن المهموسة نصفها الصاد و الكاف و الهاء و السين و الحاء، و من المجهورة نصفها الألف و اللام و الميم و الراء و العين و الطاء و القاف و الياء و النون، و من الشديدة نصفها الألف و الكاف و الطاء و القاف، و من الرّخوة نصفها اللام و الميم و الراء و الصاد و الهاء و العين و السين و الحاء و الياء و النون، و من المطبقة نصفها الصاد و الطاء، و من المنفتحة نصفها الألف و اللام و الميم و الراء و الكاف و الهاء و العين و السين و الحاء و القاف و الياء و النون، و من المستعلية نصفها القاف و الصاد و الطاء، و من المنخفضة نصفها الألف و اللام و الميم و الراء و الكاف و الهاء و الياء و العين و السين و الحاء و النون، و من حروف القلقلة نصفها القاف و الطاء و غير المذكورة من هذه الأجناس مكثورة بالمذكورة منها و قد علمت أنّ معظم الشيء منزلة كلّه، فكأنّ اللّه تعالى عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما مرّ من التبكيت لهم و إلزام الحجّة إياهم. و إنّما جاءت مفرقة على السّور لأنّ إعادة التنبيه على المتحدّى به مؤلفا منها لا غير أوصل إلى الغرض، و كذا كلّ تكرير ورد في القرآن، فالمطلوب منه تمكين المكرّر في النفوس و تقريره، و لم تجىء على و تيرة واحدة بل اختلفت أعداد حروفها مثل ص و ق و ن و طه و طس و يس و حم و الم و الر و طسم و المص و المر و كهيعص و حم عسق، فوردت على حرف و حرفين و ثلاثة و أربعة و خمسة كعادة افتنانهم في الكلام. و كما أنّ أبنية كلماتهم على حرف و حرفين إلى خمسة أحرف فسلك «2» في الفواتح هذا المسلك، و الم آية حيث وقعت و كذا المص آية، و المر لم
(1) في (ز) الاغراب.
(2) في (ز) سلك.
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 41
[سورة البقرة (2): آية 2]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
تعد آية و كذا آلر «1» لم تعد آية في سورها الخمس، و طسم آية في سورتيها، و طه و يس آيتان، و طس ليست بآية، و حم آية في سورها كلّها، و حم عسق آيتان، و كهيعص آية، و ص و ن و ق ثلاثتها «2» لم تعد آية، و هذا عند الكوفيين و من عداهم لم يعدوا «3» شيئا منها آية، و هذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور، و يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده، و ذلك إذا لم تجعل أسماء للسور و نعق بها كما ينعق بالأصوات، أو جعلت، وحدها أخبار ابتداء محذوف، كقوله: الم* اللَّهُ «4» أي هذه الم، ثم ابتدأ فقال اللّه: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ «5» و لهذه الفواتح، محل من الإعراب فيمن جعلها أسماء للسّور لأنّها عنده كسائر الأسماء الأعلام، و هو الرفع، على الابتداء، أو النصب، أو الجرّ لصحة القسم بها، و كونها بمنزلة اللّه، و اللّه على اللغتين، و من لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل في مذهبه كما لا محلّ للجملة المبتدأة و للمفردات المعدة «6» .
2- ذلِكَ الْكِتابُ أي ذلك الكتاب الذي وعد به على لسان موسى و عيسى عليهما الصلاة و السّلام «7» ، أو ذلك إشارة إلى الم، و إنّما ذكّر اسم الإشارة، و المشار إليه مؤنث و هو السورة، لأنّ الكتاب إن كان خبره كان ذلك في معناه «8» و مسماه مسماه، فجاز إجراء حكمه عليه بالتّذكير و التّأنيث، و إن كان صفته فالإشارة به إلى الكتاب صريحا لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له، تقول: هند «9» ذلك الإنسان، أو ذلك الشخص فعل كذا، و وجه تأليف ذلك الكتاب مع الم: إن جعلت الم اسما للسّورة أن يكون الم مبتدأ، و ذلك مبتدأ ثانيا، و الكتاب خبره، و الجملة خبر للمبتدأ الأول، و معناه أن ذلك هو الكتاب الكامل كأنّ ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، كما تقول: هو الرجل أي الكامل في الرجولية، أي «10» الجامع لما
(1) في (ظ) الم و هذا خطأ من الناسخ.
(2) في (ز) ثلاثها.
(3) في (ز) يعد.
(4) آل عمران، 3/ 1- 2.
(5) آل عمران، 3/ 2، و لفظ الجلالة ليس في (ز).
(6) في (ظ) و (ز) المعددة.
(7) في (ظ) عليهم السلام، و في (ز) عليهما السلام.
(8) في (ظ) في معنى الكتاب.
(9) في (ظ) هذا.
(10) ليست في (ظ) و (ز).
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 42
يكون في الرّجال من مرضيات الخصال، و أن يكون الم خبر مبتدأ محذوف أي هذه الم جملة، و ذلك الكتاب جملة أخرى، و إن جعلت الم بمنزلة الصوت، كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب، أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل لا رَيْبَ لا شك، و هو مصدر رابني إذا حصل فيه «1» الريبة، و حقيقة الريبة قلق النّفس و اضطرابها، و منه قوله عليه السّلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الشك ريبة و إن الصدق طمأنينة) «2» أي فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس و لا تستقر، و كونه صحيحا صادقا مما تطمئن له و تسكن، و منه ريب الزمان، و هو ما يقلق النفوس و يشخص بالقلوب من نوائبه، و إنما نفى الريب على سبيل الاستغراق، و قد ارتاب فيه كثير لأنّ المنفي كونه متعلقا للريب و مظنة له، لأنه من وضوح الدلالة و سطوع البرهان، بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه، لا أن أحدا لا يرتاب، و إنما لم يقل لا فيه ريب كما قال: لا فِيها غَوْلٌ «3» لأنّ المراد في إيلاء الرّيب صرف «4» النفي نفي الريب عنه و إثبات أنه حق لا باطل كما يزعم الكفار، و لو أولى الظرف لبعد عن المراد «5» هو أن كتابا آخر فيه ريب، لا فيه كما «6» في قوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ ، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، و الوقف على فيه هو المشهور، و عن نافع «7» و عاصم أنهما وقفا على ريب، و لا بد للواقف من أن ينوي خبرا و التقدير لا ريب فيه فِيهِ هُدىً فيه بإشباع كلّ هاء مكي «8» و وافقه حفص «9» في فِيهِ مُهاناً «10» و هو الأصل كقولك مررت به و من عنده و في داره، و كما لا يقال في داره و من عنده وجب أن لا يقال فيه، و قال سيبويه: ما قاله مؤد إلى الجمع بين ثلاثة أحرف سواكن الياء قبل الهاء و الهاء، إذ الهاء المتحركة في كلامهم بمنزلة الساكنة،
(1) في (ظ) و (ز) فيك.
(2) أخرجه الترمذي في آخر الطب، و الحاكم في الأحكام و في البيوع، و الطبراني و البزار.
(3) الصافات، 37/ 47.
(4) في (ظ) و (ز) حرف.
(5) في (ز) يقصد إلى ما يبعد عن المراد.
(6) في (ظ) كباقي قوله، و في (ز) كما قصد في قوله.
(7) نافع: هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، أحد القراء السبعة المشهورين، أصله من أصبهان لم يذكر تاريخ مولده مات عام 169 ه (غاية النهاية 2/ 330).
(8) مكي: هو مكي بن أبي طالب حموش بن مختار الأندلسي القيسي، أبو محمد، مقرئ عالم بالتفسير و العربية ولد عام 355 ه و مات عام 437 ه (الأعلام 7/ 286).
(9) حفص: هو حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي، أبو عمر، قارئ أهل الكوفة ولد عام 90 ه و توفي عام 180 ه و كان أعلم أصحاب عاصم بقراءته (غاية النهاية 1/ 254).
(10) الفرقان، 25/ 69.
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 43
لأن الهاء خفية و الخفي قريب من الساكن و الياء بعدها، و الهدى مصدر على فعل كالبكى، و هو الدلالة «1» الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلالة في مقابلته في قوله:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «2» و إنّما قيل هدى لِلْمُتَّقِينَ و المتقون مهتدون لأنّه كقولك للعزيز المكرّم: أعزك اللّه و أكرمك، تريد طلب الزيادة إلى «3» ما هو ثابت فيه و استدامته، كقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «4» و لأنّه سمّاهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين، كقوله عليه السّلام: (من قتل قتيلا فله سلبه) «5» و قول ابن عباس رضي اللّه عنهما: إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنّه يمرض المريض «6» ، فسمّى المشارف للقتل و المرض قتيلا و مريضا و لم يقل: هدى للضالين، لأنّهم فريقان: فريق علم بقاؤهم على الضّلالة، و فريق علم أن مصيرهم إلى الهدى، و هو هدى لهؤلاء فحسب، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال، فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا، فقيل هدى للمتقين مع أنّ فيه تصديرا للسورة التي هي أولى الزّهراوين و سنام القرآن بذكر أولياء اللّه، و المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم: وقاه فاتقى، ففاؤها واو و لامها ياء، و إذا بنيت من ذلك افتعل قلبت الواو تاء و أدغمتها في التاء الأخرى فقلت اتقى، و الوقاية فرط الصيانة، و في الشريعة من يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك، و محل هدى الرفع لأنّه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع لا ريب فيه لذلك أو النصب على الحال من الهاء في فيه، و الذي هو أرسخ عرفا في البلاغة أن يقال إنّ قوله الم جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و ذلك الكتاب جملة ثانية، و لا ريب فيه ثالثة، و هدى للمتقين رابعة، و قد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف عطف، و ذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها و هلم جرا إلى الثالثة و الرابعة، بيان ذلك أنّه نبه أولا على «7» أنّه الكلام المتحدّى به، ثم أشير إليه بأنّه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، فكان تقريرا لجهة التحدي، ثم نفى عنه أن تنشبه «8» طرف من الريب، فكان شهادة و تسجيلا بكماله، لأنّه لا كمال أكمل مما للحقّ و اليقين
(1) في (ظ) الدالة.
(2) البقرة، 2/ 16.
(3) في (ز) على.
(4) الفاتحة، 1/ 6.
(5) متفق عليه من حديث أبي قتادة.
(6) موقوف عزاه الطيبي لأبي داود وحده مرفوعا، و الحديث بتمامه عند ابن ماجه و أحمد و إسحاق في مسنديهما، و فيه أبو إسرائيل المكي و هو صدوق سيء الحفظ.
(7) ليست في (ظ).
(8) في (ظ) و (ز) يتشبث به، و تنشبه: تعلق به.
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 44
[سورة البقرة (2): آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
و لا نقص أنقص مما للباطل و الشبهة، و قيل لعالم: فيم لذتك، قال: في حجة تتبختر اتضاحا و في شبهة تتضاءل افتضاحا، ثم أخبر عنه بأنّه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشكّ حوله، و حقا لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، و نظمت هذا النظم الرشيق من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف و الرمز إلى المطلوب بألطف وجه.
و في الثانية ما في التعريف من الفخامة. و في الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف.
و في الرابعة الحذف، و وضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو هاد، كأن نفسه هديه «1» ، و إيراده منكّرا ففيه إشعار بأنّه هدى لا يكتنه كنهه، و الإيجاز في ذكر المتقين كما مر.
3- الَّذِينَ في موضع رفع أو نصب على المدح، أي هم الذين يؤمنون، أو أعني الذين يؤمنون، أو هو مبتدأ و خبره أولئك على هدى، أو جر على أنّه صفة للمتقين، و هي صفة واردة بيانا و كشفا للمتقين، كقولك زيد الفقيه المحقق لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من الإيمان الذي هو أساس الحسنات، و الصلاة و الصدقة فهما أمّا «2» العبادات البدنية و المالية، و العباد «3» على غيرهما، ألا ترى أن النبي عليه السّلام (سمّى الصلاة عماد الدين) «4» (و جعل الفاصل بين الإسلام و الكفر ترك الصلاة) «5» (و سمّى الزكاة قنطرة الإسلام) «6» فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات، و لذلك اختصر الكلام بأن استغنى عن عدّ الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين، أو صفة مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها، كقولك: زيد الفقيه المتكلم الطبيب، و يكون المراد بالمتقين الذين يجتنبون السيئات.
يُؤْمِنُونَ يصدقون و هو إفعال من الأمن، و قولهم: آمنه أي صدقه، و حقيقته
(1) في (ز) هداية.
(2) سقطت من (ز).
(3) في (ظ) و في العباد على غيرها، و في (ز) و هما العيار على غيرها.
(4) أخرجه البيهقي في الشّعب من طريق عكرمة عن عمر رضي اللّه عنه.
(5) رواه مسلم عن جابر رضي اللّه عنه بلفظ: (بين الرجل و بين الكفر تركه الصلاة).
(6) رواه إسحاق في مسنده من حديث أبي الدرداء رضي اللّه عنه.
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 45
[سورة البقرة (2): آية 4]
أمنه التكذيب، و المخالفة و تعديته بالباء لتضمنه معنى أقرّ و اعترف بِالْغَيْبِ بما غاب عنهم ممّا أنبأهم به النّبيّ صلى اللّه عليه و سلم «1» من أمر البعث و النشور و الحساب و غير ذلك، فهو بمعنى الغائب تسمية بالمصدر من قولك غاب الشّيء غيبا، هذا إن جعلته صلة للإيمان، و إن جعلته حالا كان بمعنى الغيبة و الخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به و حقيقته ملتبسين بالغيب «2» ، و الإيمان الصحيح أن يقرّ باللّسان و يصدّق بالجنان، و العمل ليس بداخل في الإيمان وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يؤدونها، فعبر عن الأداء بالإقامة، لأنّ القيام بعض أركانها، كما عبر عنه بالقنوت و هو القيام «3» ، و بالركوع و السجود و التسبيح لوجودها فيها، أو أريد بإقامة الصلاة تعديل أركانها من أقام العود إذا قوّمه، أو الدوام عليها و المحافظة من قامت السّوق إذا نفقت، لأنه إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، و إذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه، و الصلاة فعلة من صلى، كالزكاة من زكى، و كتابتها بالواو على لفظ المفخم، و حقيقة صلى حرك الصلوين «4» لأنّ المصلي يفعل ذلك في ركوعه و سجوده، و قيل للداعي مصل تشبيها «5» في تخشعه بالراكع و الساجد وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ أعطيناهم و ما بمعنى الذي يُنْفِقُونَ يتصدقون، أدخل من التبعيضية صيانة لهم عن التبذير المنهي عنه، و قدم المفعول دلالة على كونه أهم، و المراد به الزكاة لاقترانه بالصلاة التي هي أختها، أو هي و غيرها من النّفقات في سبل الخير لمجيئه مطلقا، و أنفق الشيء و أنفده أخوان كنفق الشيء و نفد و كلّ ما جاء ممّا فاؤه نون و عينه فاء فدال على معنى الخروج و الذّهاب، و دلت الآية على أنّ الأعمال ليست من الإيمان حيث عطف الصّلاة و الزّكاة على الإيمان و العطف يقتضي المغايرة.
4- وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام «6» و أضرابه من الذين آمنوا بكل وحي أنزل من عند اللّه، و أيقنوا بالآخرة إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أنّه لا يدخل الجنّة إلا من كان هودا أو نصارى، و أنّ النّار لن «7» تمسّهم إلا
(1) في (ز) عليه السلام.
(2) في (ز) متلبسين بالغيبة.
(3) سقطت الواو من (ظ).
(4) زاد في (ز) أي الأليتين.
(5) زاد في (ز) له.
(6) عبد اللّه بن سلام بن الحارث الإسرائيلي، أبو يوسف، روى عنه ابناه يوسف و محمد، شهد مع عمر رضي اللّه عنه فتح بيت المقدس، توفي عام 43 ه (الأعلام 4/ 90).
(7) في (ظ) لم تمسهم، و هو خطأ من الناسخ.
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 46
[سورة البقرة (2): آية 5]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
أياما معدودات، ثم إن عطفتهم على الذين «1» يؤمنون بالغيب دخلوا في جملة المتقين، و إن عطفتهم على المتقين لم يدخلوا، فكأنّه قيل هدى للمتقين و هدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك، أو المراد به وصف الأولين، و وسّط العاطف كما يوسّط بين الصّفات في قولك: هو الشجاع و الجواد، و قوله «2» :
إلى الملك القرم و ابن الهمام
و ليث الكتيبة في المزدحم «3»
و المعنى أنّهم الجامعون بين تلك الصفات و هذه. بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني القرآن، و المراد جميع القرآن لا القدر الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم، لأنّ الإيمان بالجميع واجب، و إنما عبر عنه بلفظ الماضي و إن كان بعضه مترقّبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد، و لأنّه إذا كان بعضه نازلا و بعضه منتظر النزول جعل كأنّ كله قد نزل: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني سائر الكتب المنزّلة على النبيين عليهم الصلاة و السلام «4» وَ بِالْآخِرَةِ و هي تأنيث الآخر الذي هو ضدّ الأوّل، و هي صفة و الموصوف محذوف و هو الدّار بدليل قوله: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ «5» و هي من الصفات الغالبة و كذلك الدّنيا، و عن نافع أنّه خفّفها بأن حذف الهمزة و ألقى حركتها على اللام هُمْ يُوقِنُونَ الإيقان إتقان العلم بانتفاء الشّكّ و الشّبهة عنه.
5- أُولئِكَ عَلى هُدىً الجملة في موضع «6» الرفع إن كان الذين يؤمنون بالغيب مبتدأ و إلّا فلا محل لها، و يجوز أن يجري الموصول الأوّل على المتقين و أن يرتفع الثاني على الابتداء و أولئك خبره، و يجعل اختصاصهم بالهدى و الفلاح تعريضا بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوّة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «7» و هم ظانّون أنّهم على الهدى و طامعون أنّهم ينالون الفلاح عند اللّه، و معنى الاستعلاء في على هدى مثل لتمكّنهم من الهدى و استقرارهم عليه و تمسّكهم به بحيث شبّهت حالهم بحال من اعتلى الشيء و ركبه،
(1) في (أ) زاد لا، و هو خطأ من الناسخ.
(2) القائل هو شريح بن أوفى العبسي قاتل محمد بن طلحة يوم الجمل.
(3) في (ظ) إلى الملك الهزبر، القرم: الفحل المكرم، و الهمام: من أسماء الملوك لعظم همتهم، و الكتيبة: الجيش، و المزدحم: المعركة لأنها موضع المزاحمة و المدافعة.
(4) سقطت من (ز).
(5) القصص، 28/ 83.
(6) ليس في (أ) موضع.