کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد

الجزء الثاني

سورة مريم سورة طه سورة الأنبياء سورة الحج سورة المؤمنون سورة النور سورة الفرقان سورة الشعراء سورة النمل سورة القصص سورة العنكبوت سورة الروم سورة لقمان سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ سورة فاطر سورة يس سورة الصافات سورة ص سورة الزمر سورة المؤمن سورة السجدة سورة الشورى سورة الزخرف سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة القتال سورة الفتح سورة الحجرات سورة ق سورة الذاريات سورة الطور سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة سورة الحديد سورة المجادلة سورة الحشر سورة الممتحنة سورة الصف سورة الجمعة سورة المنافقون سورة التغابن سورة الطلاق سورة التحريم سورة الملك سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن سورة المزمل سورة المدثر سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس سورة التكوير سورة الانفطار سورة التطفيف سورة الانشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى سورة الفجر سورة البلد سورة الشمس سورة و الليل سورة الضحى سورة ألم نشرح سورة التين سورة العلق سورة القدر سورة البينة سورة الزلزلة سورة و العاديات سورة القارعة سورة التكاثر سورة و العصر سورة الهمزة سورة الفيل سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر سورة الكافرون سورة النصر سورة أبي لهب سورة الإخلاص سورة الفلق سورة الناس الفهرس

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد


صفحه قبل

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج‏2، ص: 215

إبراهيم بعد إنجائه من النار إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ‏ .

و قرأ ابن كثير، و أبو عمرو، و الكسائي برفع «مودة» غير منونة، و جر «بينكم»، و نافع و ابن عامر و أبو بكر بنصب «مودة» منونة و نصب «بينكم»، و حمزة و حفص بنصب «مودة» غير منونة، و جر «بينكم». و نقل عن عاصم أنه رفع «مودة» غير منونة، و نصب «بينكم» لإضافته إلى المبني فالرفع خبر «إن» أي إنّ الذين اتخذتموهم أوثانا صلة بينكم، و النصب مفعول له، و خبر «إن» محذوف أي إن الذين اتخذتموه أوثانا معبودة لكم لأجل المودة لا ينفعونكم‏ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا . و المعنى: إن اتخاذكم أصناما مودة بينكم ليس إلا في الحياة الدنيا، و قد أجريتم أحكامه حيث فعلتم لي ما فعلتم لأجل مودتكم له انتصارا مني، أي لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار، و قال: إذا بينت لكم فساد مذهبكم و ما كان لكم جواب فليس هذا إلا تقليدا، فإن بين بعضكم محبة طبيعية فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في الأحوال، و بينكم و بين آبائكم صلة فورثتموهم، و أخذتم مقالتهم، و لزمتم ضلالتهم. ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ‏ فيقول العابد: ما هذا معبودي! و يقول المعبود: ما هؤلاء عبدتي! وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فيقول المعبود لذاك: أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني و يقول العابد:

لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك و يريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن و لا يتباعدون، بل هم مجتمعون في النار كما هم مجتمعون في هذه الدار كما قال تعالى: وَ مَأْواكُمُ النَّارُ أي هي منزلكم فلا ترجعون منه أبدا وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ‏ (25) يخلصونكم من تلك النار، كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها. فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي صدقه لوط في جميع مقالاته فقال لإبراهيم: صدقت يا إبراهيم- و لوط هو ابن أخيه هاران- وَ قالَ‏ إبراهيم:

إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى‏ رَبِّي‏ أي إني خارج من قومي إلى مكان أمرني ربي بالتوجه إليه.

روي أنه هاجر من كوثي سواد الكوفة مع لوط و سارة ابنة عمه إلى حران، ثم منها إلى الشام، فنزل فلسطين، و نزل لوط سذوم. و كان عمر إبراهيم إذ ذاك خمسا و سبعين سنة. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏ (26) فيمنع أعدائي عن إيذائي و لا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. وَ وَهَبْنا لَهُ‏ بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة إِسْحاقَ‏ من عجوز عاقر، وَ يَعْقُوبَ‏ نافلة، وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ‏ أي ذرية إبراهيم‏ النُّبُوَّةَ فكل الأنبياء بعده من ذريته، وَ الْكِتابَ‏ ، فلم ينزل بعده كتاب إلا على أولاده، وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ‏ على هجرته‏ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏ (27). فإن اللّه بدل جميع أحواله في الدنيا بأضدادها فبدل وحدته في النار بكثرة ذريته حتى ملأت الدنيا، و بدل أقاربه الضالين المضلين بأقارب مهتدين هادين، و بدل ذلته و خموله بالجاه، و كثرة المال حتى قيل: إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب، و كانت الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، فصار معروفا بشيخ المرسلين،

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج‏2، ص: 216

و كان في الآخرة باقيا على ما ينبغي، وَ لُوطاً أي و أرسلنا لوطا إلى قومه‏ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي اللواطة، ما سَبَقَكُمْ بِها أي بتلك الفاحشة مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ‏ (28) كلهم من الإنس و الجن، أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ‏ أي أدبار الرجال، وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ‏ أي سبيل الولد بالإعراض عن الحرث و إتيان ما ليس بحرث- و يقال: و تقطعون على من مر بكم من الغرباء- وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ! أي و تعملون في مجلسكم الجامع لأصحابكم المنكر: كالجماع، و الضراط، و حل الإزار، و الحذف بالبندق، و مضغ العلك و الفرقعة.

قيل: إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم و عند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان يأخذ ما معه و يلوطه، و يغرمه ثلاثة دراهم قاض بذلك. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏ (29) في قولك:

بمجي‏ء عذاب اللّه علينا إن لم نؤمن، أي إن لوطا كان مداوما على إرشاد قومه فقالوا أولا استهزاء: ائتنا بعذاب اللّه. ثم لمّا كثر منه ذلك و لم يسكت عن فعلهم قالوا: أخرجوا آل لوط من قريتكم. ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة من اللّه‏ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ‏ (30) أي بإنزال العذاب على هؤلاء المفسدين- و هم الذين ابتدعوا الفاحشة و أصروها، و استعجلوا العذاب بطريق الاستهزاء-

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى‏ أي لما جاء جبريل و من معه من الملائكة إلى إبراهيم بالبشارة بالولد و النافلة قالُوا لإبراهيم: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ - أي قرية سذوم- إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ‏ (31) بإصرارهم على أنواع المعاصي. قالَ‏ إبراهيم: إِنَّ فِيها أي في تلك القرى‏ لُوطاً فكيف تهلكونها؟

قالُوا أي الرسل من الملائكة: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها أي من لوط و غيره‏ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ‏ ابنتيه زاعورا و رينا إِلَّا امْرَأَتَهُ‏ المنافقة واعلة «1» كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ‏ (32) أي من المنغمسين في العذاب بسبب أن للدال على الشر نصيبا كفاعله، و هي كانت تدل القوم على أضياف لوط وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي‏ءَ بِهِمْ‏ أي جاءه ما أحزنه بمجيئهم على صورة البشر بأحسن صورة خلق اللّه فخاف عليهم من قومه، وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي ضاق بتدبير أمرهم طاقته، و عجز عن مدافعة قومه، وَ قالُوا للوط: لا تَخَفْ‏ علينا وَ لا تَحْزَنْ‏ لأجلنا فإنا ملائكة، إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ‏ مما يصيبهم من العذاب. و نصب «أهلك» معطوف على محل الكاف‏ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ‏ (33) أي من الباقين في الهلاك و من الرائحين الماضي ذكرهم، إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى‏ أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ هي سذوم‏ رِجْزاً أي عذابا مزعجا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ‏ (34) أي بسبب فسقهم المستمر.

(1) رواه ابن كثير في البداية و النهاية (2: 133).

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج‏2، ص: 217

و قرأ ابن عامر بفتح النون و تشديد الزاي‏ وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي القرية آيَةً بَيِّنَةً أي علامة ظاهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏ (35) و هي آثار ديارهم الخربة و ظهور الماء الأسود على وجه الأرض، و هي بين القدس و الكرك، وَ إِلى‏ مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أي و أرسلنا إلى مدين نبيهم شعيبا. فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي اعملوا لليوم الآخر و إنما قال شعيب بلفظ الرجاء، لأن عبادة اللّه يرجى منها الخير في الدارين، وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏ (36) أي لا تعملوا المعاصي في الأرض. و يمكن أن يقال نصب «مفسدين» على المصدر كما يقال: قم قائما، أي قياما فَكَذَّبُوهُ‏ فيما أخبرهم به، لأن شعيبا كأنه قال: اللّه واحدا فاعبدوه، و الحشر كائن فارجوه، و الفساد محرم فلا تقربوه. و هذه الأشياء فيها إخبارات. فالتكذيب راجع إلى الإخبارات الضمنية. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي التي ترجف الأرض و الأفئدة إذ قيل: إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته و رجفت قلوبهم منها، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ‏ (37) أي فصاروا في مجمعهم ميتين لا يتحركون، وَ عاداً وَ ثَمُودَ أي و أهلكنا قوم هود و قوم صالح. وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ‏ أي و قد ظهر لكم يا أهل مكة إهلاكنا إياهم من جهة منازلهم الكائنة في الحجر و اليمن إذا نظرتم إليها عند مروركم عليها. وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ‏ أي عبادتهم غير اللّه‏ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ‏ أي عن عبادة اللّه، وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ‏ (38) أي عاقلين، ألبّاء، صحيحي النظر. وَ قارُونَ‏ أي و أهلكناه- و هو ابن عم موسى- وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ‏ - وزير فرعون- وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى‏ بِالْبَيِّناتِ‏ ، أي بالحجج الظاهرات، فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ‏ عن الإيمان بالآيات، و عن عبادة اللّه‏ وَ ما كانُوا سابِقِينَ‏ (39) أي فارين من عذاب اللّه، فَكُلًّا أي كل واحد من المذكورين‏ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ‏ ، أي عاقبناه بسبب ذنبه، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً أي حجارة محمّاة يقع على واحد منهم و ينفذ من الجانب الآخر- و هم قوم لوط و عاد- وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ؛ هو هواء متموج، فإن الصوت سببه وصول الهواء المتموج إلى الصماخ- و هم قوم شعيب و صالح- وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ‏ أي غمرناه في التراب- و هو قارون و من معه- وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا بالماء- و هم قوم نوح و فرعون و قومه- فحصل العذاب بالعناصر الأربعة: النار و الريح و التراب و الماء. و الإنسان مركب منها و بسببها بقاؤه فإذا أراد اللّه هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سببا لعدمه و ما به بقاؤه سببا لفنائه، وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ‏ بالهلاك‏ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏ (40)، بالإشراك، أي و ما كان اللّه يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته،

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ‏ فإن أدنى مراتب البيت أن لا يصير سبب افتراق، فبيت العنكبوت: يصير سبب‏

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج‏2، ص: 218

انزعاج العنكبوت، فإنه إذا داوم في زاوية لا يخرج منها، فإذا نسج على نفسه بيتا يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه، و يمسحه بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت، فكذلك العابد ينبغي أن يستحق الثواب بسبب العبادة أو لا يستحق العذاب به، و الكافر يستحق العذاب بسبب عبادته، و أن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين و لا أثر بل يصير هباء منثورا، فكذلك أعمالهم للأوثان. و هذا إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضا فإن من عبد اللّه رياء فقد اتخذ وليا غير اللّه فمثله مثل العنكبوت تتخذ نسجها بيتا فلا يقيها من حر و لا برد، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ‏ (41) شيئا من الأشياء لجزموا أن مثلهم كمثل العنكبوت و أن أضعف ما يعتمد به في الدين دينهم. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ أي إن اللّه يعلم الذين يعبدونهم من غير اللّه من شي‏ء: صنم، أو إنسي، أو جني، وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏ (42) أي و هو قادر على إهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة.

و قرأ عاصم و أبو عمرو «يدعون» بالتحتية. و الباقون بالفوقية. وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ‏ أي نبينها لهم تقريبا لما بعد من أفهامهم، وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ‏ (43) أي و ما يفهم صحتها و فائدتها إلا المتدبرون في الأشياء على ما ينبغي‏ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ‏ أي متقنا مراعيا للمصالح‏ إِنَّ فِي ذلِكَ‏ أي في خلقهما لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ‏ (44) أي لدلالة للمؤمنين على شؤونه تعالى، و اختص المؤمنون بالذكر، لأنهم المنتفعون بتلك الآية اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ‏ تقربا إلى اللّه تعالى بقراءته و تذكيرا للناس و حملا لهم على العمل بما فيه من الأحكام، و محاسن الآداب، و مكارم الأخلاق. وَ أَقِمِ الصَّلاةَ أي دوام على إقامتها إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ، أي تنهى عن التعطيل و الإشراك، فالتعطيل هو إنكار وجود اللّه و الإشراك إثبات ألوهية لغير اللّه. فالعبد أول ما يشرع في الصلاة يقول: اللّه أكبر.

فبقوله: اللّه، ينفي التعطيل. و بقوله: أكبر، ينفي التشريك. لأن الشرك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك فإذا قال: بِسْمِ اللَّهِ‏ [الفاتحة: 1]، نفى التعطيل، و إذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ [الفاتحة: 1]، لأن الحرمن من يعطي الوجود بالخلق، و الرحيم من يعطي البقاء بالرزق، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ‏ [الفاتحة: 2] أثبت خلاف التعطيل، و إذا قال: رب العالمين أثبت خلاف الإشراك، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] نفى التعطيل و الإشراك، و كذا إذا قال:

وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ [الفاتحة: 5] و إذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ [الفاتحة: 6] نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد، و المعطل لا مقصد له. و إذا قال: الْمُسْتَقِيمَ‏ [الفاتحة: 6] نفى التعطيل لأن طالب المستقيم هو الأقرب، و المشرك يعبد الأصنام، و يظنون أنهم يشفعون لهم و عبادة اللّه من غير واسطة أقرب و على هذا إلى آخر الصلاة، فإذا قال فيها: أشهد أن لا إله إلا اللّه فقد نفى الإشراك، و التعطيل. و معنى نهي الصلاة عن الفحشاء و المنكر أنها سبب للانتهاء عنهما، لأنها مناجاة اللّه‏

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج‏2، ص: 219

تعالى فلا بد أن تكون مع إقبال تام على طاعته و إعراض كلي عن معاصيه. وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي ذكر اللّه إياكم بالمغفرة و الثواب أكبر من ذكركم إياه بالصلاة. و قيل: ذكركم اللّه بسائر أنواعه أفضل من الطاعات التي ليس فيها ذكر اللّه. و قيل: المراد بالذكر نفس الصلاة أي و للصلاة أكبر من سائر الطاعات‏ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ‏ (45) من الذكر و من سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة، وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ‏ أي و لا تخاصموا اليهود و النصارى إلا بالأحسن أي بعدم استخفاف آرائهم، و بعدم نسبة آبائهم إلى الضلال لأنهم جاءوا بكل حسن غير الاعتراف بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فإنهم آمنوا بإنزال بالكتب و إرسال الرسل، و بالحشر، ففي مقابلة إحسانهم يجادلون بالأحسن إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد للّه و بالقول بثالث ثلاثة، فتجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم و تبيين جهالتهم كالمشرك الذي جاء بالمنكر من غيرهم. فاللائق أن يجادل بالأخشن و يبالغ في تهجين مذهبه و توهين شبهه.

وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن‏ وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ‏ من التوراة و الإنجيل.

روي‏ أنه كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، و يفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب و لا تكذبوهم و قولوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ‏ الآية»

«1» و

في رواية: «و قولوا: آمنا باللّه و بكتبه و برسله. فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم و إن قالوا حقا لم تكذبوهم»

«2» . وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ لا شريك له في الألوهية، وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏ (46) أي مطيعون لا لغيره‏ وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ‏ أي كما أنزلنا سائر الكتب على من تقدمك أنزلنا عليك القرآن‏ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ‏ و هم الأنبياء يُؤْمِنُونَ بِهِ‏ أي بالقرآن، وَ مِنْ هؤُلاءِ أي من أهل الكتاب- كعبد اللّه بن سلام و أصحابه- مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ‏ أي بالقرآن‏ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا أي بالقرآن الذي ظهرت دلالته على المعاني، و على كونه من عند اللّه تعالى‏ إِلَّا الْكافِرُونَ‏ (47)- ككعب بن الأشرف و أصحابه، و أبي جهل و أصحابه- وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ‏ أي و ما كنت يا أشرف الخلق تقرأ كتابا قبل إنزالنا القرآن إليك، و لا تكتب الكتاب بيدك. و الأصح أنه صلّى اللّه عليه و سلّم كان لا يحسن الخط و الشعر، و لكن كان يميز بين جيد الشعر و رديئه، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ‏ (48) أي لو كنت قارئا أو كاتبا لشك اليهود و النصارى، لأن في كتابهم أنك أمي لا تقرأ و لا تكتب. بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ‏ أي بل القرآن آيات واضحات ثابتة في قلوب الذين أعطوا العلم بالقرآن،

(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (5: 151)، و السيوطي في جمع الجوامع (10307).

(2) رواه ابن حبان في المجروحين (1: 33)، و ابن عدي في الكامل في الضعفاء (3:

1133).

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج‏2، ص: 220

فليس مما يشك فيه لكونه محفوظا من غير أن يلتقط من كتاب بحيث لا يقدر على تحريفه بخلاف غيره من الكتب، فإنه لا يقرأ إلا في المصاحف. و المعنى: إن المؤمنين يقرءون القرآن بالحفظ عن قلب تلقيا منك، و بعضهم من بعض و أنت تلقيته عن جبريل عن اللوح المحفوظ، فلم تأخذه من كتاب بطريق تلقيه منه. وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ‏ (49) أي المتجاوزون للحدود في الشر من اليهود و النصارى، و المشركين. وَ قالُوا أي الظالمون: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ‏ أي هلا أنزل على محمد آيات، مثل ناقة صالح، و عصا موسى، و مائدة عيسى عليهم السلام.

و قرأ نافع و أبو عمر، و ابن عامر، و حفص «آيات» بالجمع. و الباقون بالإفراد قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ‏ ينزلها أو لا ينزلها فلا تتعلق بي‏ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ‏ (50) أي لست إلا رسولا مخوفا لأهل المعصية بالنار بلغة تعلمونها، و ليس لي عليه تعالى حكم بشي‏ء

أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ‏ الدال على نبوتك‏ يُتْلى‏ عَلَيْهِمْ‏ في كل زمان و مكان، فهو معجزة ظاهرة باقية أتم من كل معجزة، و قد وصل إلى المشرق و المغرب، و سمعه كل أحد بخلاف قلب العصا ثعبانا فإنه لم يبق لنا منه أثر، و لم يره من لم يكن في ذلك المكان‏ إِنَّ فِي ذلِكَ‏ أي الكتاب، لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى‏ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏ (51) أي فإن الكتاب رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق، فإن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من اللّه فلو لم يظهر الكتاب لبقي الخلق في ورطة تكذيب الصادق، أو تصديق الكاذب، لأنه لو لم تكن هذه المعجزة لزم أن لا يتميز النبي عن المتنبي و بهذا الكتاب يتذكر كل من يكون من المؤمنين ما بقي الزمان‏ قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً بأني رسلوه.

روي أن كعب بن الأشرف و غيره، قالوا: يا محمد من يشهد لك أنك رسول اللّه. فنزلت هذه الآية. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ من الأمور التي منها شأني و شأنكم‏ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ‏ ، و هو ما سوى اللّه، وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ‏ (52) لأنهم ضيعوا الأدلة السمعية الموجبة للإيمان. وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ‏ على طريقة الاستهزاء بقولهم: متى هذا الوعد؟ و نحو ذلك. نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث حين قال: فأمطر علينا حجارة من السماء إن كنت من الصادقين. وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى‏ لوقت عذابهم‏ لَجاءَهُمُ الْعَذابُ‏ وقت استعجالهم‏ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فإتيان العذاب بغتة حكمة، لأنه لو كان وقته معلوما عندهم لكان كل أحد يعتمد على علمه بوقته فيفجر معتمدا على التوبة قبل الموت، وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ‏ (53) بإتيانه، و يظنون أنه لا يأتيهم أصلا. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ‏ (54)، أي يستعجلونك بالعذاب في الدنيا، و الحال أن العذاب سيحيط بهم يوم يأتيهم، يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ‏ أي يوم يلحقهم العذاب من جميع جهاتهم، فنار جهنم تنزل من فوق‏

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج‏2، ص: 221

و لا تنطفئ بالدوس عليها بوضع القدم‏ وَ يَقُولُ‏ - قرأ نافع و الكوفيون بالياء- أي اللّه تعالى أو بعض ملائكته بأمره، و الباقون بالنون: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏ (55) أي ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا. قال تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ‏ (56) أي إن تعذرت العبادة عليكم في بعض الأرض فهاجروا و لا تتركوا عبادتي بحال.

و قرأ بفتح الياء ابن عامر و الباقون بتسكينها، كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ‏ (57) أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت، فراجعة إلى حكمنا و جزائنا بحسب أعمالها لما أمر اللّه تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان و مفارقة الأخوان فقال لهم: إن ما تكرهون لا بد من وقوعه، فإن كل نفس ذائقة مشاق الموت، و الموت مفرق الأحباب، فالأولى أن يكون ذلك في سبيل اللّه، فيجازيكم عليه، فلا تخافوا من بعد الوطن، أو المعنى: إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي و ليس بموت كما

قال صلّى اللّه عليه و سلّم: «المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار»

. و قرأ أبو بكر بالياء التحتية وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ أي الطاعات‏ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أي لننزلنهم بيوتا عالية من الجنة.

و قرأ حمزة و الكسائي «لنثوينهم» بالمثلثة، أي لنقيمنهم في علال من الجنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي ففي موضع الأنهار بساتين كبار، و زروع، و رياض، و أزهار فيشرفون عليها من تلك العلالي. خالِدِينَ فِيها أي في الغرف‏ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ‏ (58) أي نعم أجر العاملين الأعمال الصالحة، هذا الأجر الَّذِينَ صَبَرُوا على شدائد المهاجرة، و على أمر اللّه و المرازي‏ وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏ (59) أي الذين لم يتوكلوا فيما يأتون و يذرون إلا على اللّه تعالى‏ وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي و كثيرا من الدواب لا تطيق حمل رزقها لضعفها، و لا تدخر شيئا لساعة أخرى.

روي أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لما أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة قالوا: كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت هذه الآية اللَّهُ يَرْزُقُها أي الدابة على ضعفها، و هي لا تدخر وَ إِيَّاكُمْ‏ مع قوتكم، لأن رزق الكل بأسباب هو تعالى وحده المسبب لها فلا تخافوا الفقر بالمهاجرة وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏ (60) فيسمع قولكم هذا، و يعلم ضمائركم و حاجتكم، و يسمع إذا طلبتم الرزق، و يعلم مقدار حاجتكم إذا سكتم،

صفحه بعد