کتابخانه تفاسیر
معانى القرآن، ج2، ص: 400
و قوله (عَمَّا قَلِيلٍ «1» لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) من ذلك.
و قوله (فَبِما «2» نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ)* من ذلك؛ لأن دخولها و خروجها لا يغيّر المعنى.
و أمّا قوله (إِلَّا الَّذِينَ «3» آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ) فإنه قد يكون على هذا المعنى.
و يكون أن تجعل (ما) اسما و تجعل (هم) صلة لما؛ و يكون المعنى: و قليل ما تجدنّهم فتوجّه (ما) و الاسم إلى المصدر؛ ألا ترى أنك تقول: قد كنت أراك أعقل ممّا أنت فجعلت (أنت) صلة لما؛ و المعنى. كنت أرى عقلك أكثر ممّا هو، و لو لم ترد المصدر لم تجعل (ما) للناس، لأنّ من هى التي تكون للناس و أشباههم. و العرب تقول: قد كنت أراك أعقل منك و معناهما «4» واحد، و كذلك قولهم: قد كنت أراه غير ما هو المعنى: كنت أراه على غير ما رأيت منه.
و قوله: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ [14] و فى قراءة عبد اللّه (إن كلّهم لمّا كذّب الرسل).
و قوله: ما لَها مِنْ فَواقٍ [15] من راحة و لا إفاقة. و أصله من الإفاقة فى الرّضاع إذا ارتضعت البهمة أمّها ثم تركتها حتى تنزل شيئا من اللبن، فتلك الإفاقة و الفواق بغير همز. و جاء عن النبىّ صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: العيادة قدر فواق ناقة. و قرأها الحسن و أهل المدينة و عاصم بن أبى النجود (فواق) بالفتح و هى لغة جيّدة عالية، و ضمّ «5» حمزة و يحيى و الأعمش و الكسائىّ.
و قوله: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [16] القطّ: الصّحيفة المكتوبة. و إنما قالوا ذلك حين نزل (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ «6» بِيَمِينِهِ)* فاستهزءوا بذلك، و قالوا: عجّل لنا هذا الكتاب قبل يوم الحساب. و القطّ فى كلام العرب. الصكّ و هو الخط و الكتاب.
(1) الآية 40 سورة المؤمنين.
(2) الآية 155 سورة النساء، و الآية 13 سورة المائدة.
(3) الآية 24 سورة ص.
(4) أي معنى قوله: «كنت أراك أعقل مما أنت» و قوله: «كنت أراك أعقل منك».
(5) ا: «الضم».
(6) الآية 19 سورة الحاقة، و الآية 7 سورة الانشقاق.
معانى القرآن، ج2، ص: 401
و قوله: ذَا الْأَيْدِ [17] يريد: ذا القوّة.
و قوله: وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً [19] ذكروا أنه كان إذا سبّح أجابته الجبال بالتسبيح، و اجتمعت إليه الطير فسبّحت. فذلك حشرها و لو كانت: و الطير محشورة بالرفع لمّا لم يظهر الفعل معها كان صوابا.
تكون مثل قوله (خَتَمَ «1» اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) و قال الشاعر:
و رأيتم لمجاشع نعما
و بنى أبيه جامل رغب
و لم يقل: جاملا رغبا و المعنى: و رأيتم لهم جاملا رغبا. فلمّا لم يظهر الفعل جاز رفعه.
و قوله: وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ [20] اجتمعت القراء على تخفيفها و لو قرأ قارئ (و شدّدنا) بالتشديد كان وجها حسنا. و معنى التشديد أنّ محرابه كان يحرسه ثلاثة و ثلاثون ألفا.
و قوله: وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ [20].
قال الفراء: حدّثنى عمرو بن أبى المقدام عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد فى قوله (وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ) قال: الشهود و الأيمان. و قال بعض المفسّرين: فصل الخطاب أمّا بعد.
و قوله: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [21] إذ دخلوا [22] قد يجاء بإذ مرّتين، (و قد) «2» يكون معناهما كالواحد؛ كقولك: ضربتك إذ دخلت علىّ إذ اجترأت، فيكون الدخول هو الاجتراء. و يكون أن تجعل أحدهما «3» على مذهب لمّا، فكأنّه قال: إذ تسوّروا المحراب لمّا دخلوا. و إن شئت جعلت لمّا فى الأوّل. فإذا كانت لمّا أوّلا و آخرا فهى بعد صاحبتها؛ كما تقول: أعطيته لمّا سألنى. فالسؤال قبل الإعطاء فى تقدّمه و تأخّره.
و قوله: (خَصْمانِ) رفعته بإضمار (نحن خصمان) و العرب تضمر للمتكلّم و المكلّم المخاطب ما يرفع
(1) الآية 7 سورة البقرة.
(2) ش، ب: «فقد».
(3) ا: «إحداهما» و كلاهما جائز باعتبار اللفظ أو الكلمة.
معانى القرآن، ج2، ص: 402
فعله. و لا يكادون يفعلون ذلك بغير المخاطب أو المتكلّم. من ذلك أن تقول للرّجل: أذاهب، أو أن يقول المتكلم: واصلكم إن شاء اللّه و محسن إليكم. و ذلك أن المتكلّم و المكلّم حاضران، فتعرف معنى أسمائهما إذا تركت. و أكثره فى الاستفهام؛ يقولون: أ جادّ، أ منطلق. و قد يكون فى غير الاستفهام.
فقوله (خَصْمانِ) من ذلك. و قال الشاعر:
و قولا إذا جاوزتما أرض عامر
و جاوزتما الحيّين نهدا و خثعما
نزيعان من جرم بن زبّان إنهم
أبوا أن يميروا فى الهزاهز محجما
و قال الآخر:
تقول ابنة الكعبىّ يوم لقيتها
أ منطلق فى الجيش أم متثاقل
و قد جاء فى الآثار للراجع من سفر: تائبون آئبون، لربنا حامدون. و قال: من أمثال العرب:
محسنة فهيلى.
قال الفراء: جاء ضيف إلى امرأة و معه جراب دقيق، فأقبلت تأخذ من جرابه لنفسها، فلمّا أقبل أخذت من جرابها إلى جرابه. فقال: ما تصنعين؟ قالت: أزيدك من دقيقى. قال: محسنة فهيلى. أي ألقى. و جاء فى الآثار: من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا «1» بين عينيه:
يائس من رحمة اللّه. و كلّ هذا بضمير ما أنباتك به.
و لو جاء فى الكتاب: خصمين بغى بعضنا لكان صوابا بضمير أتيناك خصمين، جئناك خصمين فلا تخفنا. و مثله قول الشاعر:
و قالت ألا يا اسمع نعظك بخطّة
فقلت سميعا فانطقى و أصيبى
163 ا أي سميعا أسمع منك، أو سميعا و عظت. و الرفع فيه جائز على الوجوه الاول.
(1) فى ش، ب بعده: «و مكتوب» و كتب هذا فى ا فوقه. و معنى هذا أنهما روايتان.
معانى القرآن، ج2، ص: 403
و قوله (وَ لا تُشْطِطْ) يقول: و لا تجر: و قد يقول بعض العرب: شططت علىّ فى السّوم، و أكثر الكلام أشططت. فلو قرأ قارئ (و لا تشطط) كأنه يذهب به إلى معنى التباعد و (تشطط) أيضا. العرب تقول: شطّت الدار فهى تشطّ و تشطّ.
و قوله (وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) إلى قصد الصراط. و هذا ممّا تدخل فيه (إلى) و تخرج منه.
قال اللّه (اهْدِنَا «1» الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) و قال (وَ هَدَيْناهُ «2» النَّجْدَيْنِ) و قال (إِنَّا هَدَيْناهُ «3» السَّبِيلَ) و لم يقل (إلى) فحذفت إلى من كل هذا. ثم قال فى موضع آخر (أَ فَمَنْ «4» يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) و قال (يهدى إلى الحقّ «5» و إلى طريق مستقيم) و يقال هديتك للحق و إليه قال اللّه (الَّذِي «6» هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) و كأن قوله (اهْدِنَا الصِّراطَ) أعلمنا الصراط، و كأن قوله (اهدنا إلى الصّراط) أرشدنا إليه و اللّه أعلم بذلك.
و قوله: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً [23] و فى قراءة عبد اللّه (كان له) و ربّما أدخلت العرب (كان) على الخبر الدائم الذي لا ينقطع. و منه قول اللّه فى غير موضع (وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً) (وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)* فهذا دائم. و المعنى البيّن أن تدخل (كان) على كل خبر قد كان ثم انقطع؛ كما تقول للرجل: قد كنت موسرا، فمعنى هذا: فأنت الآن معدم.
و فى قراءة عبد اللّه (نعجة أنثى) و العرب تؤكّد التأنيث بأنثاه، و التذكير بمثل ذلك، فيكون كالفضل «7» فى الكلام فهذا من ذلك. و منه قولك للرجل: هذا و اللّه رجل ذكر. و إنما يدخل هذا
(1) الآية 6 سورة الفاتحة
(2) الآية 10 سورة البلد.
(3) الآية 3 سورة الإنسان.
(4) الآية 35 سورة يونس.
(5) الآية 30 سورة الأحقاف.
(6) الآية 43 سورة الأعراف.
(7) أي كالزيادة.
معانى القرآن، ج2، ص: 404
فى المؤنّث الذي تأنيثه «1» فى نفسه؛ مثل المرأة و الرجل و الجمل و الناقة. فإذا عدوت ذلك لم يجز.
فخطأ أن تقول: هذه دار أنثى، و ملحفة أنثى؛ لأنّ تأنيثها فى اسمها لا فى معناها. فابن على هذا.
و قوله (وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي غلبنى. و لو قرئت (و عازّنى) يريد: غالبنى كان وجها.
و قوله: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ [24] المعنى فيه: بسؤاله نعجتك، فإذا ألقيت الهاء من السؤال أضفت الفعل إلى النعجة. و مثله قوله (لا يَسْأَمُ «2» الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) و معناه من دعائه بالخير: فلمّا ألقى الهاء أضاف الفعل إلى الخير و ألقى من الخير الباء، كقول الشاعر:
و لست مسلّما ما دمت حيّا
على زيد بتسليم الأمير «3»
إنما معناه: بتسليمى على الأمير. و لا يصلح أن تذكر الفاعل بعد المفعول به فيما ألقيت منه الصفة. فمن قال: عجبت من سؤال نعجتك صاحبك لم يجز له أن يقول: عجبت من دعاء الخير الناس، لأنك إذا أظهرت الآخر مرفوعا فإنما رفعه بنيّة أن فعل أو أن يفعل، فلا بدّ من ظهور الباء و ما أشبهها من الصّفات. فالقول فى ذلك أن تقول عجبت من دعاء بالخير زيد، و عجبت من تسليم على الأمير زيد. و جاز فى النعجة لأنّ الفعل يقع عليها بلا صفة؛ فتقول: سألتك نعجة، و لا تقول: سالتك بنعجة. فابن على هذا.
و قوله (وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي علم. و كلّ ظنّ أدخلته على خبر فجائز أن تجعله علما؛ إلّا إنه علم 163 ب مالا يعاين.
و قوله: الصَّافِناتُ الْجِيادُ [31] يعنى الخيل، كان غنمها سليمان بن داود من جيش قاتله فظفر به. فلمّا صلّى الظهر دعا بها، فلم يزل يعرضها حتّى غابت الشمس و لم يصلّ العصر. و كان عندهم مهيبا. لا يبتدأ بشىء حتى يأمر به، فلم يذكر العصر. و لم يكن ذلك عن تجبّر منه،
(1) يريد ما يعرف بالمؤنث الحقيقي:
(2) الآية 49 سورة فصلت:
(3) ا: «فلست»
معانى القرآن، ج2، ص: 405
فلمّا ذكرها قال (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) يقول: آثرت حبّ الخيل، و الخير فى كلام العرب:
الخيل. و الصّافنات- فيما ذكر الكلبي بإسناده- القائمة على ثلاث قوائم و قد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رجل. و هى فى قراءة عبد اللّه (صوافن «1» فإذا وجبت) يريد:
معقولة على ثلاث. و قد رأيت العرب تجعل الصّافن القائم على ثلاث، أو على غير ثلاث. و أشعارهم تدلّ على أنها القيام خاصّة و اللّه أعلم بصوابه: و فى قراءة عبد اللّه (إنّى أحببت) بغير (قال) و مثله ممّا حذفت فى قراءتنا منه القول و أثبت فى قراءة عبد اللّه (و إذ «2» يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل و يقولان) و ليس فى قراءتنا ذلك. و كلّ صواب.
و قوله: فَطَفِقَ [33] يريد أقبل يمسح: يضرب سوقها و أعناقها. فالمسح القطع.
و قوله: عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [34] يريد: صنما. و يقال: شيطان.
و قوله: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [35] فيريد سخرة الريح و الشياطين.
و قوله: رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [36] و الرخاء: الريح الليّنة التي لا تعصف. و قوله (حَيْثُ أَصابَ) :
حيث أراد.
و قوله: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ [39]. يقول فمنّ به أي أعط، أو أمسك، ذاك إليك. و فى قراءة عبد اللّه: (هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب) مقدّم و مؤخّر.
و قوله: بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ [41]. اجتمعت القراء على ضمّ النون من (نصب) و تخفيفها «3» .
و ذكروا أن أبا جعفر «4» المدنىّ قرأ (بنصب و عذاب) ينصب النون و الصاد. و كلاهما فى التفسير واحد.
(1) الآية 36 سورة الحج و قراءة الجمهور: «صواف فإذا وجبت»
(2) الآية 127 سورة البقرة
(3) يريد تخفيف الصاد أي تسكينها.
(4) فى الإتحاف أن هذه قراءة يعقوب و الحسن. و أما قراءة أبى جعفر فضم النون و الصاد معا.
معانى القرآن، ج2، ص: 406
و ذكروا أنه المرض و ما أصابه من العناء فيه. و النّصب و النّصب بمنزلة الحزن و الحزن، و العدم و العدم، و الرّشد و الرشد، و الصّلب و الصّلب: إذا خفّف ضمّ أوله و لم يثقّل لأنهم جعلوهما على سمتين «1» : إذا فتحوا «2» أوّله ثقّلوا، و إذا ضمّوا أوله خفّفوا، قال: و أنشدنى.
بعض العرب:
لئن بعثت أم الحميدين مائرا
لقد غنيت فى غير بؤس و لا جحد «3»
و العرب تقول: جحد عيشهم جحدا إذا ضاق و اشتدّ، فلمّا قال: جحد و ضمّ أوله خفّف. فابن على ما رأيت من هاتين اللغتين.
و قوله: ضِغْثاً [44] و الضّغث: ما جمعته من شىء؛ مثل حزمة الرطبة «4» ، و ما قام على ساق و استطال ثم جمعته فهو ضغث.
و قوله: وَ اذْكُرْ عِبادَنا [45]. قرأت القراء (عبادنا) يريدون: إبراهيم و ولده و قرأ «5» ابن عباس:
(و اذكر عبدنا إبراهيم) و قال: إنما ذكر إبراهيم. ثم ذكرت ذريّته من بعده. و مثله:
(قالوا «6» نعبد إلهك و إله أبيك) على هذا المذهب فى قراءة ابن عباس. و العامّة (آبائِكَ) و كلّ صواب.
و قوله (أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ) يريد: أولى القوّة و البصر فى أمر اللّه. و هى فى قراءة عبد اللّه: (أولى الأيد) بغير ياء، فقد يكون له وجهان. إن أراد: الأيدى و حذف الياء
(1) السمت: الطريق و المذهب.
(2) فى الأصول: «و إذا فتحوا» و المناسب ما أثبت.
(3) ورد هذا البيت فى اللسان عن الفراء فى اللسان (جحد) من غير عزو.
(4) الرطبة: ما تأكله الدابة ما دام رطبا.
(5) و هى قراءة ابن كثير.