کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 229
في نوعين: الأعمال التي يأتي بها العبد، و الآثار المتفرعة على تلك الأعمال: أما الأعمال التي يأتي بها العبد فلها ركنان: أحدهما: إتيانه بالعبادة و إليه الإشارة بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ . و الثاني: علمه بأن لا يمكنه الإتيان بها إلا بإعانة اللّه و إليه الإشارة بقوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و هاهنا ينفتح البحر الواسع في الجبر و القدر، و أما الآثار المتفرعة على تلك الأعمال فهي حصول الهداية و الانكشاف و التجلي، و إليه الإشارة بقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ثم إن أهل العالم ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: الكاملون المحقون المخلصون، و هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته، و معرفة الخير لأجل العمل به، و إليهم الإشارة بقوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . و الطائفة الثانية: الذين أخلوا بالأعمال الصالحة، و هم الفسقة و إليهم الإشارة بقوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ . و الطائفة الثالثة: الذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة، و هم أهل البدع و الكفر، و إليهم الإشارة بقوله: وَ لَا الضَّالِّينَ .
إذا عرفت هذا فنقول: استكمال النفس الإنسانية بالمعارف و العلوم على قسمين: أحدهما: أن يحاول تحصيلها بالفكر و النظر و الاستدلال، و الثاني: أن تصل إليه محصولات المتقدمين فتستكمل نفسه، و قوله:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إشارة إلى القسم الأول، و قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إشارة إلى القسم الثاني، ثم في هذا القسم طلب أن يكون اقتداؤه بأنوار عقول الطائفة المحقة الذين جمعوا بين العقائد الصحيحة و الأعمال الصائبة، و تبرأ من أن يكون اقتداؤه بطائفة الذين أخلوا بالأعمال الصحيحة، و هم المغضوب عليهم، أو بطائفة الذين أخلوا بالعقائد الصحيحة، و هم الضالون، و هذا آخر السورة، و عند الوقوف على ما لخصناه يظهر أن هذه السورة جامعة لجميع المقامات المعتبرة في معرفة الربوبية و معرفة العبودية.
الفصل الرابع قسمة اللّه للصلاة بينه و بين عباده:
قال عليه السلام حكاية عن اللّه تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين، فإذا قال العبد بسم اللّه الرحمن الرحيم يقول اللّه تعالى ذكرني عبدي، و إذا قال الحمد للّه رب العالمين يقول اللّه حمدني عبدي، و إذا قال الرحمن الرحيم يقول اللّه عظمني عبدي، و إذا قال مالك يوم الدين يقول اللّه مجدني عبدي، و في رواية أخرى فوض إلي عبدي، و إذا قال إياك نعبد يقول اللّه عبدني عبدي، و إذا قال و إياك نستعين يقول اللّه تعالى توكل علي عبدي، و في رواية أخرى فإذا قال إياك نعبد و إياك نستعين يقول اللّه تعالى هذا بيني و بين عبدي، و إذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول اللّه هذا لعبدي و لعبدي ما سأل.
فوائد هذا الحديث:
الفائدة الأولى:
قوله تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين
يدل على أن مدار الشرائع على رعاية مصالح الخلق، كما قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] و ذلك لأن أهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية، ثم بمعرفة العبودية، لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد، كما قال:
وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] و قال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان: 2] و قال: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 230
أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] و لما كان الأمر كذلك لا جرم أنزل اللّه هذه السورة على محمد عليه السلام و جعل النصف الأول منها في معرفة الربوبية، و النصف الثاني منها في معرفة العبودية، حتى تكون هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه في الوفاء بذلك العهد.
الفائدة الثانية: اللّه تعالى سمي الفاتحة باسم الصلاة، و هذا يدل على أحكام: الحكم الأول: أن عند عدم قراءة الفاتحة وجب أن لا تحصل الصلاة، و ذلك يدل على أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، كما يقوله أصحابنا و يتأكد هذا الدليل بدلائل أخرى: أحدها: أنه عليه الصلاة و السلام واظب على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ* و
لقوله عليه الصلاة و السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
و ثانيها: أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك،
لقوله عليه الصلاة و السلام: «عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي»
و ثالثها: أن جميع المسلمين شرقاً و غرباً لا يصلون إلا بقراءة الفاتحة فوجب أن تكون متابعتهم واجبة في ذلك لقوله تعالى: وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى/ وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء: 115] و رابعها:
قوله عليه الصلاة و السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»
خامسها: قوله تعالى:
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] و قوله: فَاقْرَؤُا أمر، و ظاهره الوجوب، فكانت قراءة ما تيسر من القرآن واجبة، و قراءة غير الفاتحة ليست واجبة فوجب أن تكون قراءة الفاتحة واجبة عملًا بظاهر الأمر، و سادسها: أن قراءة الفاتحة أحوط فوجب المصير إليها،
لقوله عليه السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
و سابعها: أن الرسول عليه السلام واظب على قراءتها فوجب أن يكون العدول عنه محرماً لقوله تعالى:
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور: 63] و ثامنها: أنه لا نزاع بين المسلمين أن قراءة الفاتحة في الصلاة أفضل و أكمل من قراءة غيرها، إذا ثبت هذا فنقول: التكليف كان متوجهاً على العبد بإقامة الصلاة، و الأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن هذه العهدة عند الإيتاء بالصلاة مؤداة بقراءة الفاتحة، و قد دللنا على أن هذه الصلاة أفضل من الصلاة المؤداة بقراءة غير الفاتحة و لا يلزم من الخروج عن العهدة بالعمل الكامل الخروج عن العهدة بالعمل الناقص، فعند إقامة الصلاة المشتملة على قراءة غير الفاتحة وجب البقاء في العهدة، و تاسعها:
أن المقصود من الصلاة حصول ذكر القلب، لقوله تعالى: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] و هذه السورة مع كونها مختصرة، جامعة لمقامات الربوبية و العبودية و المقصود من جميع التكاليف حصول هذه المعارف و لهذا السبب جعل اللّه هذه السورة معادلة لكل القرآن في قوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] فوجب أن لا يقوم غيرها مقامها ألبتة. و عاشرها: أن هذا الخبر الذي رويناه يدل على أن عند فقدان الفاتحة لا تحصل الصلاة.
الفائدة الثالثة:
أنه قال: «إذا قال العبد بسم اللّه الرحمن الرحيم يقول اللّه تعالى: «ذكرني عبدي»
و فيه أحكام: أحدها: أنه تعالى قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] فههنا لما أقدم العبد على ذكر اللّه لا جرم ذكره تعالى في ملأ خير من ملائه. و ثانيها: أن هذا يدل على أن مقام الذكر مقام عال شريف في العبودية، لأنه وقع الابتداء به، و مما يدل على كماله أنه تعالى أمر بالذكر فقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب: 41] ثم قال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 231
[الأعراف: 201] فلم يبالغ في تقرير شيء من مقامات العبودية مثل ما بالغ في تقرير مقام الذكر. و ثالثها: إن
قوله: «ذكرني عبدي»
يدل على أن قولنا: «اللّه» اسم علم لذاته المخصوصة، إذ لو كان اسماً مشتقاً لكان مفهومه مفهوماً كلياً، و لو كان كذلك لما صارت ذاته المخصوصة المعينة مذكورة بهذا اللفظ، فظاهر أن لفظي الرحمن الرحيم لفظان كليان،/ فثبت أن
قوله: «ذكرني عبدي»
يدل على أن قولنا اللّه اسم علم، أما
قوله: «و إذا قال الحمد للّه يقول اللّه تعالى حمدني عبدي»
فهذا يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر و يدل عليه أن أول كلام ذكر في أول خلق العالم هو الحمد، بدليل قول الملائكة قبل خلق آدم وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] و آخر كلام يذكر بعد فناء العالم هو الحمد أيضاً، بدليل قوله تعالى في صفة أهل الجنة وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] و العقل أيضاً يدل عليه، لأن الفكر في ذات اللّه غير ممكن،
لقوله عليه الصلاة و السلام: «تفكروا في الخلق و لا تفكروا في الخالق»
و لأن الفكر في الشيء مسبوق بسبق تصوره، و تصور كنه حقيقة الحق غير ممكن، فالفكر فيه غير ممكن فعلى هذا الفكر لا يمكن إلا في أفعاله و مخلوقاته، ثم ثبت بالدليل أن الخير مطلوب بالذات، و الشر بالعرض فكل من تفكر في مخلوقاته و مصنوعاته كان وقوفه على رحمته و فضله و إحسانه أكثر، فلا جرم كان اشتغاله بالحمد و الشكر أكثر، فلهذا قال: الحمد للّه رب العالمين، و عند هذا
يقول: حمدني عبدي،
فشهد الحق سبحانه بوقوف العبد بعقله و فكره على وجود فضله و إحسانه في ترتيب العالم الأعلى و العالم الأسفل، و على أن لسانه صار موافقاً لعقله و مطابقاً له، و إن غرق في بحر الإيمان به و الإقرار بكرمه بقلبه و لسانه و عقله و بيانه، فما أجل هذه الحالة.
و أما
قوله: «و إذا قال الرحمن الرحيم يقول اللّه عظمني عبدي»
فلقائل أن يقول: إنه لما قال بسم اللّه الرحمن الرحيم فقد ذكر الرحمن الرحيم و هناك لم يقل اللّه عظمني عبدي، و هاهنا لما قال الرحمن الرحيم قال عظمني عبدي فما الفرق؟ و جوابه أن قوله الحمد للّه دل على إقرار العبد بكماله في ذاته، و بكونه مكملًا لغيره، ثم قال بعده: رب العالمين، و هذا يدل على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره واحد ليس له شريك، فلما قال بعده الرحمن الرحيم دل ذلك على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره المنزه عن الشريك و النظير و المثل و الضد و الند في غاية الرحمة و الفضل و الكرم مع عباده و لا شك أن غاية ما يصل العقل و الفهم و الوهم إليه من تصور معنى الكمال و الجلال ليس إلا هذا المقام، فلهذا السبب
قال اللّه تعالى هاهنا: «عظمني عبدي».
و أما
قوله: «و إذا قال مالك يوم الدين يقول اللّه مجدني عبدي»
أي: نزهني و قدسني عما لا ينبغي- فتقريره أنا نرى في دار الدنيا كون الظالمين متسلطين على المظلومين، و كون الأقوياء مستولين على الضعفاء، و نرى العالم الزاهد الكامل في أضيق العيش، و نرى الكافر الفاسق في أعظم أنواع الراحة و الغبطة، و هذا العمل لا يليق برحمة أرحم الراحمين و أحكم الحاكمين، فلو لم يحصل المعاد و البعث و الحشر حتى ينتصف اللّه فيه للمظلومين من الظالمين و يوصل إلى أهل الطاعة الثواب، و إلى أهل الكفر العقاب، لكان هذا الإهمال و الامهال ظلماً من اللّه على/ العباد، أما لما حصل يوم الجزاء و يوم الدين اندفع و هم الظلم، فلهذا السبب قال اللّه تعالى:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] و هذا هو المراد من قوله تعالى:
مجدني عبدي، الذي نزهني عن الظلم و عن شيمه.
و أما
قوله: «و إذا قال العبد إياك نعبد و إياك نستعين قال اللّه هذا بيني و بين عبدي»
فهو إشارة إلى سر مسألة
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 232
الجبر و القدر، فإن قوله إياك نعبد معناه إخبار العبد عن إقدامه على عمل الطاعة و العبادة. ثم جاء بحث الجبر و القدر: و هو أنه مستقل بالإتيان بذلك العمل أو غير مستقل به، و الحق أنه غير مستقل به، و ذلك لأن قدرة العبد إما أن تكون صالحة للفعل و الترك، و إما أن لا تكون كذلك: فإن كان الحق هو الأول امتنع أن تصير تلك القدرة مصدراً للفعل دون الترك إلا لمرجح، و ذلك المرجح إن كان من العبد عاد البحث فيه، و إن لم يكن من العبد فهو من اللّه تعالى فخلق تلك الداعية الخالصة عن المعارض هو الإعانة، و هو المراد من قوله إياك نستعين، و هو المراد من قولنا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا ، أي: لا تخلق في قلوبنا داعية تدعونا إلى العقائد الباطلة و الأعمال الفاسدة، و هب لنا من لدنك رحمة، و هذه الرحمة خلق الداعية التي تدعونا إلى الأعمال الصالحة و العقائد الحقة، فهذا هو المراد من الإعانة و الاستعانة، و كل من لم يقل بهذا القول لم يفهم ألبتة معنى قوله:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و إذا ثبت هذا ظهر صحة
قوله تعالى: هذا بيني و بين عبدي،
أما الذي منه فهو خلق الداعية الجازمة، و أما الذي من العبد فهو أن عند حصول مجموع القدرة و الداعية يصدر الأثر عنه، و هذا كلام دقيق لا بد من التأمل فيه.
و أما
قوله: «و إذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول اللّه تعالى هذا لعبدي و لعبدي ما سأل»
و تقريره أنا نرى أهل العالم مختلفين في النفي و الإثبات في جميع المسائل الإلهية، و في جميع مسائل النبوات، و في جميع مسائل المعاد، و الشبهات غالبة، و الظلمات مستولية، و لم يصل إلى كنه الحق إلا القليل القليل من الكثير الكثير، و قد حصلت هذه الحالة مع استواء الكل في العقول و الأفكار و البحث الكثير و التأمل الشديد، فلولا هداية اللّه تعالى و إعانته و أنه يزين الحق في عين عقل الطالب و يقبح الباطل في عينه كما قال: وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ [الحجرات: 7] و إلا لامتنع وصول أحد إلى الحق، فقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إشارة إلى هذه الحالة، و يدل عليه أيضاً أن المبطل لا يرضى بالباطل، و إنما طلب الاعتقاد الحق و الدين المتين و القول الصحيح، فلو كان الأمر باختياره لوجب أن لا يقع أحد في الخطأ، و لما رأينا الأكثرين غرقوا في بحر الضلالات/ علمنا أن الوصول إلى الحق ليس إلا بهداية اللّه تعالى، و مما يقوي ذلك أن كل الملائكة و الأنبياء أطبقوا على ذلك، أما الملائكة فقالوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: 32] و قال آدم عليه السلام: وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف: 23] و قال إبراهيم عليه السلام: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام: 77] و قال يوسف عليه السلام: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] و قال موسى عليه السلام: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: 25]- الآية و قال محمد عليه السلام: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] فهذا هو الكلام في لطائف هذا الخبر و الذي تركناه أكثر مما ذكرناه.
الفائدة الرابعة: من فوائد هذا الخبر أن آيات الفاتحة سبع، و الأعمال المحسوسة أيضاً في الصلاة سبعة، و هي: القيام، و الركوع، و الانتصاب، و السجود الأول، و الانتصاب فيه، و السجود الثاني و القعدة، فصار عدد آيات الفاتحة مساوياً لعدد هذه الأعمال، فصارت هذه الأعمال كالشخص، و الفاتحة لها كالروح، و الكمال إنما يحصل عند اتصال الروح بالجسد، فقوله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بإزاء القيام، ألا ترى أن الباء في بسم
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 233
اللّه لما اتصل باسم اللّه بقي قائماً مرتفعاً، و أيضاً فالتسمية لبداية الأمور،
قال عليه الصلاة و السلام: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر»
و قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: 14، 15] و أيضاً القيام لبداية الأعمال، فحصلت المناسبة بين التسمية و بين القيام من هذه الوجوه، و قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ بإزاء الركوع، و ذلك لأن العبد في مقام التحميد ناظر إلى الحق و إلى الخلق، لأن التحميد عبارة عن الثناء عليه بسبب الإنعام الصادر منه، و العبد في هذا المقام ناظر إلى المنعم و إلى النعمة، فهو حالة متوسطة بين الإعراض و بين الاستغراق، و الركوع حالة متوسطة بين القيام و بين السجود و أيضاً، الحمد يدل على النعم الكثيرة، و النعم الكثيرة مما تثقل ظهره، فينحني ظهره للركوع و قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مناسب للانتصاب لأن العبد لما تضرع إلى اللّه في الركوع فيليق برحمته أن يرده إلى الانتصاب، و لذلك
قال عليه السلام: «إذا قال العبد سمع اللّه لمن حمده نظر اللّه إليه بالرحمة»
و قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ مناسب للسجدة الأولى: لأن قولك مالك يوم الدين يدل على كمال القهر و الجلال و الكبرياء، و ذلك يوجب الخوف الشديد، فيليق به الإتيان بغاية الخضوع و الخشوع، و هو السجدة، و قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مناسب للقعدة بين السجدتين، لأن قوله إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت، و قوله و إياك نستعين استعانة باللّه في أن يوفقه للسجدة الثانية. و أما قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فهو سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية الدالة على نهاية الخضوع.
و أما قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ / إلى آخره فهو مناسب للقعدة، و ذلك لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابل اللّه تواضعه بالإكرام، و هو أن أمره بالقعود بين يديه، و ذلك إنعام عظيم من اللّه على العبد، فهو شديد المناسبة لقوله أنعمت عليهم، و أيضاً
أن محمداً عليه السلام لما أنعم اللّه عليه بأن رفعه إلى قاب قوسين قال عند ذلك: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات للّه، و الصلاة معراج المؤمن،
فلما وصل المؤمن في معراجه إلى غاية الإكرام- و هي أن جلس بين يدي اللّه- وجب أن يقرأ الكلمات التي ذكرها محمد عليه السلام، فهو أيضاً يقرأ التحيات، و يصير هذا كالتنبيه على أن هذا المعراج الذي حصل له شعلة من شمس معراج محمد عليه السلام و قطرة من بحره و هو تحقيق قوله: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء: 69]- الآية.
و اعلم أن آيات الفاتحة و هي سبع صارت كالروح لهذه الأعمال السبعة، و هذه الأعمال السبعة صارت كالروح للمراتب السبعة المذكورة في خلقة الإنسان، و هي قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] إلى قوله: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] و عند هذا ينكشف أن مراتب الأجساد كثيرة، و مراتب الأرواح كثيرة، و روح الأرواح و نور الأنوار هو اللّه تعالى، كما قال سبحانه و تعالى:
وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42].
الفصل الخامس في أن الصلاة معراج العارفين
الصلاة معراج العارفين:
اعلم أنه كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم معراجان: أحدهما: من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، و الآخر من
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 234
الأقصى إلى أعالي ملكوت اللّه تعالى، فهذا ما يتعلق بالظاهر، و أما ما يتعلق بعالم الأرواح فله معراجان:
أحدهما: من عالم الشهادة إلى عالم الغيب. و الثاني: من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب، و هما بمنزلة قاب قوسين متلاصقين، فتخطاهما محمد عليه السلام و هو المراد من قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النجم: 9] و قوله: أَوْ أَدْنى إشارة إلى فنائه في نفسه، أما الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فاعلم أن كل ما يتعلق بالجسم و الجسمانيات فهو من عالم الشهادة، لأنك تشاهد هذه الأشياء ببصرك، فانتقال الروح من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح هو السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، و أما عالم الأرواح فعالم لا نهاية له، و ذلك لأن آخر مراتب الأرواح هو الأرواح البشرية، ثم تترقى في معارج الكمالات/ و مصاعد السعادات حتى تصل إلى الأرواح المتعلقة بسماء الدنيا ثم تصير أعلى و هي أرواح السماء الثانية و هكذا حتى تصل إلى الأرواح الذين هم سكان درجات الكرسي، و هي أيضاً متفاوتة في الاستعلاء، ثم تصير أعلى و هم الملائكة المشار إليهم بقوله تعالى: وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر: 75] ثم تصير أعلى و أعظم و هم المشار إليهم بقوله تعالى: وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة: 17] و في عدد الثمانية أسرار لا يجوز ذكرها هاهنا ثم تترقى فتنتهي إلى الأرواح المقدسة عن التعلقات بالأجسام، و هم الذين طعامهم ذكر اللّه، و شرابهم محبة اللّه، و أنسهم بالثناء على اللّه، و لذتهم في خدمة اللّه، و إليهم الإشارة بقوله: وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأنبياء: 19] و بقوله:
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20] ثم لهم أيضاً درجات متفاوتة، و مراتب متباعدة، و العقول البشرية قاصرة عن الإحاطة بأحوالها، و الوقوف على شرح صفاتها، و لا يزال هذا الترقي و التصاعد حاصلًا كما قال تعالى: وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: 76] إلى أن ينتهي الأمر إلى نور الأنوار، و مسبب الأسباب، و مبدأ الكل، و ينبوع الرحمة، و مبدأ الخير، و هو اللّه تعالى، فثبت أن عالم الأرواح هو عالم الغيب، و حضرة جلال الربوبية هي غيب الغيب، و لذلك
قال عليه الصلاة و السلام: «إن للّه سبعين حجاباً من النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك البصر»
و تقدير عدد تلك الحجب بالسبعين مما لا يعرف إلا بنور النبوة.
فقد ظهر بما ذكرنا أن المعراج على قسمين: أولهما: المعراج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، و الثاني:
المعراج من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب، و هذه كلمات برهانية يقينية حقيقية.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى المقصود فنقول: إن محمداً عليه السلام لما وصل إلى المعراج و أراد أن يرجع قال: يا رب العزة إن المسافر إذا أراد أن يعود إلى وطنه احتاج إلى محمولات يتحف بها أصحابه و أحبابه، فقيل له: إن تحفة أمتك الصلاة، و ذلك لأنها جامعة بين المعراج الجسماني، و بين المعراج الروحاني: أما الجسماني فبالأفعال، و أما الروحاني فبالأذكار، فإذا أردت أيها العبد الشروع في هذا المعراج فتطهر أولًا، لأن المقام مقام القدس، فليكن ثوبك طاهراً، و بدنك طاهراً لأنك بالوادي المقدس طوى، و أيضاً فعندك ملك و شيطان، فانظر أيهما تصاحب: و دين و دنيا، فانظر أيهما تصاحب: و عقل و هوى، فانظر أيهما تصاحب: و خير و شر، و صدق و كذب، و حق و باطل، و حلم و طيش، و قناعة و حرص، و كذا القول في كل الأخلاق المتضادة و الصفات المتنافية، فانظر أنك تصاحب أي الطرفين و توافق أي الجانبين/ فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة،
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 235
ألا ترى أن الصديق اختار صحبة محمد عليه السلام فلزمه في الدنيا، و في القبر، و في القيامة، و في الجنة و أن كلباً صحب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا، و في الآخرة، و لهذا السر قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] ثم إذا تطهرت فارفع يديك، و ذلك الرفع إشارة إلى توديع عالم الدنيا و عالم الآخرة فاقطع نظرك عنهما بالكلية، و وجه قلبك و روحك و سرك و عقلك و فهمك و ذكرك و فكرك إلى اللّه، ثم قل: اللّه أكبر، و المعنى أنه أكبر من كل الموجودات، و أعلى و أعظم و أعز من كل المعلومات، بل هو أكبر من أن يقاس إليه شيء أو يقال أنه أكبر، ثم قل: سبحانك اللهم و بحمدك، و في هذا المقام تجلى لك نور سبحات الجلال، ثم ترقيت من التسبيح إلى التحميد ثم قل: تبارك اسمك، و في هذا المقام انكشف لك نور الأزل و الأبد، لأن قوله تبارك إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء و الإعدام، و ذلك يتعلق بمطالعة حقيقة الأزل في العدم، و مطالعة حقيقة الأبد في البقاء، ثم قل: و تعالى جدك، و هو إشارة إلى إنه أعلم و أعظم من أن تكون صفات جلاله و نعوت كماله محصورة في القدر المذكور، ثم قل: و لا إله غيرك، و هو إشارة إلى أن كل صفات الجلال و سمات الكمال له لا لغيره، فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو، و المقدس الذي لا مقدس إلا هو، و في الحقيقة لا هو إلا هو و لا إله إلا هو، و العقل هاهنا ينقطع، و اللسان يعتقل، و الفهم يتبلد، و الخيال يتحير، و العقل يصير كالزمن، ثم عد إلى نفسك و حالك و قل: وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض، فقولك:
«سبحانك اللهم و بحمدك» معراج الملائكة المقربين، و هو المذكور في قوله: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] و هو أيضاً معراج محمد عليه السلام، لأن معراجه مفتتح بقوله: «سبحانك اللهم و بحمدك» و أما قولك: «وجهت وجهي» فهو معراج إبراهيم الخليل عليه السلام، و قولك: «إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي للّه» فهو معراج محمد الحبيب عليه السلام، فإذا قرأت هذين الذكرين فقد جمعت بين معراج أكابر الملائكة المقربين و بين معراج عظماء الأنبياء و المرسلين، ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، لتدفع ضرر العجب من نفسك.
و اعلم أن للجنة ثمانية أبواب، ففي هذا المقام انفتح لك باب من أبواب الجنة، و هو باب المعرفة، و الباب الثاني: هو باب الذكر و هو قولك بسم اللّه الرحمن الرحيم، و الباب الثالث: باب الشكر، و هو قولك الحمد للّه رب العالمين و الباب الرابع: باب الرجاء، و هو قولك الرحمن الرحيم، و الباب الخامس: باب الخوف، و هو قولك مالك يوم الدين، و الباب السادس: باب/ الإخلاص المتولد من معرفة العبودية و معرفة الربوبية، و هو قولك إياك نعبد و إياك نستعين و الباب السابع: باب الدعاء و التضرع كما قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل: 62] و قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] و هو هاهنا قولك اهدنا الصراط المستقيم، و الباب الثامن: باب الاقتداء بالأرواح الطيبة الطاهرة و الاهتداء بأنوارهم، و هو قولك صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين، و بهذا الطريق إذا قرأت هذه السورة. و وقفت على أسرارها انفتحت لك ثمانية أبواب الجنة، و هو المراد من قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] فجنات المعارف الربانية انفتحت أبوابها بهذه المقاليد الروحانية، فهذا هو الإشارة إلى ما حصل في الصلاة من المعراج الروحاني.