کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 239
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] و إذا قلت الرحمن الرحيم فأبصر به عالم الجمال، و هو الرحمة و الفضل و الإحسان، و إذا قلت مالك يوم الدين فأبصر به عالم الجلال و ما يحصل فيه من الأحوال و الأهوال، و إذا قلت إياك نعبد فأبصر به عالم الشريعة، و إذا قلت و إياك نستعين فأبصر به الطريقة، و إذا قلت اهدنا الصراط المستقيم فأبصر به الحقيقة، و إذا قلت صراط الذين أنعمت عليهم فأبصر به درجات أرباب السعادات و أصحاب الكرامات من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، و إذا قلت غير المغضوب عليهم فأبصر به مراتب فساق أهل الآفاق، و إذا قلت و لا الضالين فأبصر به دركات أهل الكفر و الشقاق و الخزي و النفاق على كثرة درجاتها و تباين أطرافها و أكنافها.
ثم إذا انكشفت لك هذه الأحوال العالية و المراتب السامية فلا تظنن أنك بلغت الغور و الغاية، بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء، و لنفسك بالذلة و المسكنة، و قل: اللّه أكبر، ثم أنزل من صفة الكبرياء إلى صفة العظمة، فقل: سبحان ربي العظيم، و إن أردت أن تعرف ذرة من صفة العظمة فاعرف أنا بينا أن العظمة صفة العرش، و لا يبلغ مخلوق بعقله كنه عظمة العرش و إن بقي إلى آخر أيام العالم، ثم اعرف أن عظمة العرش في مقابلة عظمة اللّه كالقطرة في البحر فكيف يمكنك أن تصل إلى كنه عظمة اللّه؟ ثم هاهنا سر عجيب و هو أنه ما جاء سبحان ربي الأعظم و إنما جاء سبحان ربي العظيم، و ما جاء سبحان ربي العالي و إنما جاء سبحان ربي الأعلى، و لهذا التفاوت أسرار عجيبة لا يجوز ذكرها، فإذا ركعت و قلت سبحان ربي العظيم فعد إلى القيام ثانياً، و ادع لمن وقف موقفك و حمد حمدك و قل: سمع اللّه لمن حمده، فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك و هو المراد من
قوله عليه السلام: «لا يزال اللّه في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم».
قال قيل: ما السبب في أنه لم يحصل في هذا المقام التكبير؟.
قلنا: لأن التكبير مأخوذ من الكبرياء و هو مقام الهيبة و الخوف، و هذا المقام مقام الشفاعة، و هما متباينان.
ثم إذا فرغت من هذه الشفاعة فعد إلى التكبير و انحدر به إلى صفة العلو و قل سبحان ربي/ الأعلى، و ذلك لأن السجود أكثر تواضعاً من الركوع، لا جرم الذكر المذكور في السجود هو بناء المبالغة- و هو الأعلى- و الذكر المذكور في الركوع هو لفظ العظيم من غير بناء المبالغة،
روي أن للّه تعالى ملكاً تحت العرش اسمه حزقيل أوحى اللّه إليه: أيها الملك، طر فطار مقدار ثلاثين ألف سنة ثم ثلاثين ثم ثلاثين فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني، فأوحى اللّه إليه لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ الطرف الثاني من العرش، فقال الملك عند ذلك: سبحان ربي الأعلى.
فإن قيل: فما الحكمة في السجدتين؟ قلنا: فيه وجوه: الأول: أن السجدة الأولى للأزل، و الثانية للأبد، و الارتفاع فيما بينهما إشارة إلى وجود الدنيا فيما بين الأزل و الأبد، و ذلك لأنك تعرف بأزليته أنه هو الأول لا أول قبله فتسجد له، و تعرف بأبديته أنه الآخر لا آخر بعده فتسجد له ثانياً. الثاني: قيل: اعلم بالسجدة الأولى فناء الدنيا في الآخرة، و بالسجدة الثانية فناء عالم الآخرة عند ظهور نور جلال اللّه. الثالث: السجدة الأولى فناء الكل في نفسها و السجدة الثانية بقاء الكل بإبقاء اللّه تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ .
[القصص: 88] الرابع: السجدة الأولى تدل على انقياد عالم الشهادة لقدرة اللّه، و السجدة الثانية تدل على انقياد
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 240
عالم الأرواح للّه تعالى، كما قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ . [الأعراف: 54] و الخامس: السجدة الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته و صفاته، و السجدة الثانية سجدة العجز و الخوف مما لم يصل إليه من أداء حقوق جلاله و كبريائه.
و اعلم أن الناس يفهمون من العظمة كبر الجثة، و يفهمون من العلو علو الجهة، و يفهمون من الكبر طول المدة، و جل الحق سبحانه عن هذه الأوهام، فهو عظيم لا بالجثة، عال لا بالجهة، كبير لا بالمدة، و كيف يقال ذلك و هو فرد أحد، فكيف يكون عظيماً بالجثة و هو منزه عن الحجمية، و كيف يكون عالياً بالجهة و هو منزه عن الجهة؟ و كيف يكون كبيراً بالمدة و المدة متغيرة من ساعة إلى ساعة فهي محدثة فمحدثها موجود قبلها فكيف يكون كبيراً بالمدة؟ فهو تعالى عالٍ على المكان لا بالمكان، و سابق على الزمان لا بالزمان، فكبرياؤه كبرياء عظمة، و عظمته عظمة علو، و علوه علو جلال، فهو أجل من أن يشابه المحسوسات، و يناسب المخيلات، و هو أكبر مما يتوهمه المتوهمون، و أعظم مما يصفه الواصفون، و أعلى مما يمجده الممجدون، فإذا صور لك حسك مثالًا: فقل اللّه أكبر، و إذا عين خيالك صورة فقل: سبحانك اللّه و بحمدك، و إذا زلق رجل طلبك في مهواة التعطيل فقل: وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض، و إذا جال روحك في ميادين العزة و الجلال ثم ترقى إلى الصفات/ العلى و الأسماء الحسنى و طالع من مرقومات القلم على سطح اللوح نقشاً و سكن عند سماع تسبيحات المقربين و تنزيهات الملائكة الروحانيين إلى صورة فاقرأ عند كل هذه الأحوال: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الصافات: 180- 182].
الفصل السابع في لطائف قوله الحمد للّه، و فوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة
لطائف الحمد للّه:
أما لطائف قوله الحمد للّه فأربع نكت: النكتة الأولى:
روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أن إبراهيم الخليل عليه السلام سأل ربه و قال: يا رب، ما جزاء من حمدك فقال: الحمد للّه؟ فقال تعالى: الحمد للّه فاتحة الشكر و خاتمته،
قال أهل التحقيق: لما كانت هذه الكلمة فاتحة الشكر جعلها اللّه فاتحة كلامه، و لما كانت خاتمته جعلها اللّه خاتمة كلام أهل الجنة فقال: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10].
روي عن علي عليه السلام، أنه قال: خلق اللّه العقل من نور مكنون مخزون من سابق علمه، فجعل العلم نفسه، و الفهم روحه، و الزهد رأسه، و الحياء عينه، و الحكمة لسانه، و الخير سمعه، و الرأفة قلبه، و الرحمة همه، و الصبر بطنه، ثم قيل له تكلم، فقال: الحمد للّه الذي ليس له ند و لا ضد و لا مثل و لا عدل، الذي ذل كل شيء لعزته فقال الرب:
و عزتي و جلالي ما خلقت خلقاً أعز علي منك
و أيضاً
نقل أن آدم عليه السلام لما عطس فقال: الحمد للّه،
فكان أول كلامه ذلك، إذا عرفت هذا فنقول: أول مراتب المخلوقات هو العقل، و آخر مراتبها آدم، و قد نقلنا أول كلام العقل هو قوله: الحمد للّه و أول كلام آدم هو قوله: الحمد، فثبت أن أول كلام لفاتحة المحدثات هو هذه
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 241
الكلمة، و أول كلام لخاتمة المحدثات هو هذه الكلمة، فلا جرم جعلها اللّه فاتحة كتابه فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و أيضاً ثبت أن أول كلمات اللّه قوله: الحمد للّه، و آخر أنبياء اللّه محمد رسول اللّه، و بين الأول و الآخر مناسبة، فلا جرم جعل قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ أول آية من كتاب محمد رسوله، و لما كان كذلك وضع لمحمد عليه السلام من كلمة الحمد اسمان: أحمد و محمد، و عند هذا
قال عليه السلام: «أنا في السماء أحمد، و في الأرض محمد»
فأهل السماء في تحميد اللّه، و رسول اللّه أحمدهم و اللّه تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال تعالى: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: 19] و رسول اللّه محمدهم.
و النكتة الثانية: أن الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالنعمة و الرحمة، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة و الرحمة أول الأفعال و الأحكام، فلهذا السبب
قال: سبقت رحمتي غضبي.
النكتة الثالثة: أن الرسول اسمه أحمد، و معناه أنه أحمد الحامدين أي: أكثرهم حمداً، فوجب أن تكون نعم اللّه عليه أكثر لما بينا أن كثرة الحمد بحسب كثرة النعمة و الرحمة، و إذا كان كذلك لزم أن تكون رحمة اللّه في حق محمد عليه السلام أكثر منها في حق جميع العالمين، فلهذا السبب قال: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107]. النكتة الرابعة: أن المرسل له اسمان مشتقان من الرحمة، و هما الرحمن الرحيم، و هما يفيدان المبالغة، و الرسول له أيضاً اسمان مشتقان من الرحمة، و هما محمد و أحمد، لأنا بينا أن حصول الحمد مشروط بحصول الرحمة، فقولنا محمد و أحمد جار مجرى قولنا مرحوم و أرحم. و جاء
في بعض الروايات أن من أسماء الرسول:
الحمد، و الحامد، و المحمود،
فهذه خمسة أسماء للرسول دالة على الرحمة، إذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى قال: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: 49] فقوله: نبىء إشارة إلى محمد صلى اللّه عليه و سلم، و هو مذكور قبل العباد، و الياء في قوله: عبادي ضمير عائد إلى اللّه تعالى و الياء في قوله: أني عائد إليه، و قوله: أنا عائد إليه، و قول: الغفور الرحيم، صفتان للّه فهي خمسة ألفاظ دالة على اللّه الكريم الرحيم، فالعبد يمشي يوم القيامة و قدامه الرسول عليه الصلاة و السلام مع خمسة أسماء تدل على الرحمة، و خلفه خمسة ألفاظ من أسماء اللّه تدل على الرحمة، و رحمة الرسول كثيرة كما قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ و رحمة اللّه غير متناهية كما قال تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] فكيف يعقل أن يضيع المذنب مع هذه البحار الزاخرة العشرة المملوءة من الرحمة؟.
و أما فوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة فأشياء: النكتة الأولى: أن سورة الفاتحة فيها عشرة أشياء، منها خمسة من صفات الربوبية، و هي: اللّه، و الرب، و الرحمن، و الرحيم، و المالك، و خمسة أشياء من صفات العبد و هي: العبودية، و الاستعانة، و طلب الهداية، و طلب الاستقامة، و طلب النعمة كما قال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فانطبقت تلك الأسماء الخمسة على هذه الأحوال الخمسة، فكأنه قيل: إياك نعبد لأنك أنت اللّه، و إياك نستعين لأنك أنت الرب، اهدنا الصراط المستقيم لأنك أنت الرحمن، و ارزقنا الاستقامة لأنك أنت الرحيم، و أفض علينا سجال نعمك و كرمك لأنك مالك يوم الدين. النكتة الثانية: الإنسان مركب من خمسة أشياء: بدنه، و نفسه الشيطانية، و نفسه الشهوانية، و نفسه الغضبية، و جوهره الملكي العقلي، فتجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب الخمسة فتجلى اسم اللّه
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 242
للروح الملكية العقلية الفلكية القدسية فخضع و أطاع كما قال: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] و تجلى النفس الشيطانية بالبر و الإحسان- و هو اسم الرب- فترك العصيان و انقاد لطاعة الديان، و تجلى للنفس الغضبية السبعية باسم الرحمن و هذا الاسم مركب من القهر و اللطف كما قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 26] فترك الخصومة و تجلى للنفس الشهوانية البهيمية باسم الرحيم و هو أنه أطلق المباحات و الطيبات كما قال: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: 5] فلان و ترك العصيان، و تجلى للأجساد و الأبدان بقهر قوله:
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فإن البدن غليظ كثيف، فلا بد من قهر شديد، و هو القهر الحاصل من خوف يوم القيامة، فلما تجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب انغلقت أبواب النيران، و انفتحت أبواب الجنان. ثم هذه المراتب ابتدأت بالرجوع كما جاءت فأطاعت الأبدان و قالت: إِيَّاكَ نَعْبُدُ و أطاعت النفوس الشهوانية فقالت:
وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ على ترك اللذات و الأعراض عن الشهوات، و أطاعت النفوس الغضبية فقالت: اهْدِنَا و أرشدنا و على دينك فثبتنا، و أطاعت النفس الشيطانية و طلبت من اللّه الاستقامة و الصون عن الانحراف فقالت:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و تواضعت الأرواح القدسية الملكية فطلبت من اللّه أن يوصلها بالأرواح القدسية العالية المطهرة المعظمة فقالت: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ . النكتة الثالثة:
قال عليه السلام بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللّه و أن محمداً رسول اللّه، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و صوم رمضان، و حج البيت،
فشهادة أن لا إله إلا اللّه حاصلة من تجلي نور اسم اللّه، و إقام الصلاة من تجلي اسم الرب، لأن الرب مشتق من التربية و العبد يربي إيمانه بمدد الصلاة، و إيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن، لأن الرحمن مبالغة في الرحمة، و إيتاء الزكاة لأجل الرحمة على الفقراء، و وجوب صوم رمضان من تجلي اسم الرحيم، لأن الصائم إذا جاع تذكر جوع الفقراء فيعطيهم ما يحتاجون إليه، و أيضاً إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات فعند الموت يسهل عليه مفارقتها، و وجوب الحج من تجلي اسم مالك يوم الدين، لأن عند الحج يجب هجرة الوطن و مفارقة الأهل و الولد، و ذلك يشبه سفر يوم القيامة، و أيضاً الحاج يصير حافياً حاسراً عارياً و هو يشبه حال أهل القيامة و بالجملة فالنسبة بين الحج و بين أحوال القيامة، كثيرة جداً. النكتة الرابعة: أنواع القبلة خمسة: بيت المقدس، و الكعبة، و البيت المعمور، و العرش و حضرة جلال اللّه: فوزع هذه الأسماء الخمسة على الأنواع الخمسة من القبلة. النكتة الخامسة: الحواس خمس: أدب البصر بقوله: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] و السمع بقوله: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 18] و الذوق بقوله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً [المؤمنون: 51] و الشم بقوله: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ [يوسف: 94] و اللمس بقوله: وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* [المعارج: 29، المؤمنون: 5] فاستعن بأنوار هذه الأسماء الخمسة على دفع مضار هذه الأعداء الخمسة. النكتة السادسة: اعلم أن الشطر الأول: من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة فتفيض الأنوار على الأسرار، و الشطر الثاني: منها مشتمل على الصفات الخمسة لعبد فتصعد منها أسرار إلى مصاعد تلك الأنوار، و بسبب هاتين الحالتين يحصل للعبد معراج في صلاته: فالأول: هو النزول، و الثاني: هو الصعود، و الحد
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 243
المشترك بين القسمين هو الحد الفاصل بين قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ و بين قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ و تقرير هذا الكلام أن حاجة العبد إما في طلب الدنيا و هو قسمان: إما دفع الضرر، أو جلب النفع، و إما في طلب الآخرة، و هو أيضاً قسمان: دفع الضرر و هو الهرب من النار، و طلب الخير و هو طلب الجنة، فالمجموع أربعة، و القسم الخامس- و هو الأشرف- طلب خدمة اللّه و طاعته و عبوديته لما هو هو لا لأجل رغبة و لا لأجل رهبة، فإن شاهدت نور اسم اللّه لم تطلب من اللّه شيئاً سوى اللّه، و إن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة، و إن طالعت منه نور الرحمن طلبت منه خيرات هذه الدنيا، و إن طالعت نور الرحيم طلبت منه أن يعصمك عن مضار الآخرة، و إن طالعت نور مالك يوم الدين طلبت منه أن يصونك عن آفات هذه الدنيا و قبائح الأعمال فيها لئلا تقع في عذاب الآخرة. النكتة السابعة: يمكن أيضاً تنزيل هذه الأسماء الخمسة على المراتب الخمس المذكورة في الذكر المشهور و هو قوله سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر، و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم- أما قولنا سبحان اللّه فهو فاتحة سورة واحدة و هي: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] و أما قولنا الحمد للّه فهو فاتحة خمس سور، و أما قولنا لا إله إلا اللّه فهو فاتحة سورة واحدة و هي قوله: الم، اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 1، 2] و أما قولنا اللّه أكبر فهو مذكور في القرآن لا بالتصريح في موضعين مضافاً إلى الذكر تارة و إلى الرضوان/ أخرى فقال: وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] و قال: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] و أما قولنا: لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم فهو غير مذكور في القرآن صريحاً، لأنه من كنوز الجنة، و الكنز يكون مخفياً و لا يكون ظاهراً، فالأسماء الخمسة المذكورة في سورة الفاتحة مباد لهذه الأذكار الخمسة، فقولنا: اللّه مبدأ لقولنا سبحان اللّه، و قولنا: رب مبدأ لقولنا الحمد للّه، و قولنا الرحمن مبدأ لقولنا لا إله إلا اللّه، فإن قولنا: لا إله إلا اللّه إنما يليق بمن يحصل له كمال القدرة و كمال الرحمة، و ذلك هو الرحمن، و قولنا: الرحمن مبدأ لقولنا اللّه أكبر و معناه أنه أكبر من أن لا يرحم عباده الضعفاء، و قولنا: مالك يوم الدين مبدأ لقولنا لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم، لأن الملك و المالك هو الذي لا يقدر عبيده على أن يعملوا شيئاً على خلاف إرادته، و اللّه أعلم.
الفصل الثامن في السبب المقتضي لاشتمال بسم اللّه الرحمن الرحيم على الأسماء الثلاثة
السبب في اشتمال البسملة على الأسماء الثلاثة:
و فيه وجوه: الأول: لا شك أنه تعالى يتجلى لعقول الخلق، إلا أن لذلك التجلي ثلاث مراتب: فإنه في أول الأمر يتجلى بأفعاله و آياته، و في وسط الأمر يتجلى بصفاته، و في آخر الأمر يتجلى بذاته، قيل إنه تعالى يتجلى لعامة عباده بأفعاله و آياته، قال: وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الشورى: 32] و قال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ [آل عمران: 190] ثم يتجلى لأوليائه بصفاته، قال:
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 244
وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران: 191] و يتجلى لأكابر الأنبياء و رؤساء الملائكة بذاته قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام: 91] إذا عرفت هذا فنقول: اسم اللّه عز و جل أقوى الأسماء في تجلي ذاته، لأنه أظهر الأسماء في اللفظ، و أبعدها معنى عن العقول، فهو ظاهر باطن، يعسر إنكاره. و لا تدرك أسراره، قال الحسين بن منصور الحلاج:-
اسم مع الخلق قد تاهوا به و لها
ليعلموا منه معنى من معانيه
و اللّه ما وصلوا منه إلى سبب
حتى يكون الذي أبداه مبديه
و قال أيضاً:-
يا سر سر يدق حتى
يخفي على وهم كل حي
فظاهراً باطناً تجلى
لكل شيء بكل شيء
و أما اسمه الرحمن فهو يفيد تجلي الحق بصفاته العالية، و لذلك قال: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] و أما اسمه الرحيم فهو يفيد تجلي الحق بأفعاله و آياته و لهذا السبب قال: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً [غافر: 7].
الفصل التاسع في سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة
سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة:
السبب فيه أن مراتب أحوال الخلق خمسة: أولها: الخلق، و ثانيها: التربية في مصالح الدنيا، و ثالثها:
التربية في تعريف المبدأ، و رابعها: التربية في تعريف المعاد، و خامسها: نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى دار المعاد، فاسم اللّه منبع الخلق و الإيجاد و التكوين و الإبداع و اسم الرب يدل على التربية بوجوه الفضل و الإحسان، و اسم الرحمن يدل على التربية في معرفة المبدأ، و اسم الرحيم في معرفة المعاد حتى يحترز عما لا ينبغي و يقدم على ما ينبغي، و اسم الملك يدل على أنه ينقلهم من دار الدنيا إلى دار الجزاء، ثم عند وصول العبد إلى هذه المقامات انتقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ كأنه يقول: إنك إذا انتفعت بهذه الأسماء الخمسة في هذه المراتب الخمس و انتقلت إلى دار الجزاء صرت بحيث ترى اللّه، فحينئذ تكلم معه على سبيل المشاهدة لا على سبيل المغايبة، ثم قل: إياك نعبد و إياك نستعين، كأنه قال: إياك نعبد لأنك اللّه الخالق، و إياك نستعين لأنك الرب الرازق، إياك نعبد لأنك الرحمن، و إياك نستعين لأنك الرحيم، إياك نعبد لأنك الملك، و إياك نستعين لأنك المالك.
و اعلم أن قوله مالك يوم الدين دل على أن العبد منتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة، و من دار الشرور إلى دار السرور، فقال: لا بد لذلك اليوم من زاد و استعداد، و ذلك هو العبادة، فلا جرم قال: إياك نعبد، ثم قال العبد: الذي اكتسبته بقوتي و قدرتي قليل لا يكفيني في ذلك اليوم الطويل فاستعان بربه فقال، ما معنى قليل، فأعطني من خزائن رحمتك ما يكفيني في ذلك اليوم الطويل فقال: و إياك نستعين، ثم لما حصل الزاد ليوم
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 245
المعاد قال: هذا سفر طويل شاق و الطرق كثيرة و الخلق قد تاهوا في هذه البادية فلا طريق إلا أن أطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق فقال: اهدنا الصراط المستقيم، ثم أنه لا بد لسالك الطريق من رفيق و من بدرقة و دليل فقال: صراط الذين أنعمت عليهم، و الذين أنعم اللّه/ عليهم هم النبيون و الصديقون و الشهداء و الصالحون، فالأنبياء هم الأدلاء، و الصديقون هم البدرقة، و الشهداء و الصالحون هم الرفقاء، ثم قال: غير المغضوب عليهم و لا الضالين، و ذلك لأن الحجب عن اللّه قسمان: الحجب النارية- و هي عالم الدنيا- ثم الحجب النورية- و هي عالم الأرواح- فاعتصم باللّه سبحانه و تعالى من هذين الأمرين، و هو أن لا يبقى مشغول السر لا بالحجب النارية و لا بالحجب النورية.
الفصل العاشر في هذه السورة كلمتان مضافتان إلى اسم اللّه، و اسمان مضافان إلى غير اللّه:
أما الكلمتان المضافتان إلى اسم اللّه فهما قوله: بسم اللّه، و قوله: الحمد للّه فقوله بسم اللّه لبداية الأمور، و قوله الحمد للّه لخواتيم الأمور، فبسم اللّه ذكر، و الحمد للّه شكر، فلما قال بسم اللّه استحق الرحمة، و لما قال الحمد للّه استحق رحمة أخرى، فبقوله بسم اللّه استحق الرحمة من اسم الرحمن، و بقوله الحمد للّه استحق الرحمة من اسم الرحيم، فلهذا المعنى قيل: يا رحمن الدنيا و رحيم الآخرة. و أما قوله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين فالربوبية لبداية حالهم بدليل قوله: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] و صفة الرحمن لوسط حالهم، و صفة الملك لنهاية حالهم بدليل قوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16].
و اللّه أعلم بالصواب، و هو الهادي إلى الرشاد.