کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 156
ذهب الشباب و أخلق العمر
و عمر الرجل يعمر عمرا و عمرا، فإذا أقسموا به قالوا: لعمرك و عمرك فتحوا العين لا غير. قال الزجاج:
لأن الفتح أخف عليهم و هم يكثرون القسم بلعمري و لعمرك فالتزموا الأخف.
المسألة الثانية: في قوله: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قولان: الأول: أن المراد أن الملائكة قالت للوط عليه السلام: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي في غوايتهم يعمهون، أي يتحيرون فكيف يقبلون قولك، و يلتفتون إلى نصيحتك. و الثاني: أن الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و أنه تعالى أقسم بحياته و ما أقسم بحياة أحد، و ذلك يدل على أنه أكرم الخلق على اللّه تعالى قال النحويون: ارتفع قوله: لَعَمْرُكَ بالابتداء و الخبر محذوف، و المعنى: لعمرك قسمي و حذف الخبر، لأن في الكلام دليلا عليه و باب القسم يحذف منه الفعل نحو: باللّه لأفعلن، و المعنى: أحلف باللّه فيحذف لعلم المخاطب بأنك حالف.
ثم قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل عليه السلام قال أهل المعاني: ليس في الآية دلالة على أن تلك الصيحة صيحة جبريل عليه السلام فإن ثبت ذلك بدليل قوي قيل به، و إلا فليس في الآية دلالة إلا على أنه جاءتهم صيحة عظيمة مهلكة و قوله: مُشْرِقِينَ يقال شرق الشارق يشرق شروقا لكل ما طلع من جانب الشرق، و منه قولهم ما ذكر شارق أي طلع طالع فقوله: مُشْرِقِينَ أي داخلين في الشروق يقال أشرق الرجل إذا دخل في الشروق، و هو بزوغ الشمس.
و اعلم أن الآية تدل على أنه تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب: أحدها: الصيحة الهائلة المنكرة.
و ثانيها: أنه جعل عاليها سافلها. و ثالثها: أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل، و كل هذه الأحوال قد مر تفسيرها في سورة هود.
ثم قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ يقال توسمت في فلان خيرا أي رأيت فيه أثرا منه و تفرسته فيه، و اختلفت عبارات المفسرين في تفسير المتوسمين قيل: المتفرسين، و قيل: الناظرين، و قيل:
المتفكرين، و قيل: المعتبرين، و قيل: المتبصرين. قال الزجاج: حقيقة المتوسمين في اللغة المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا سمة الشيء و صفته و علامته، و المتوسم الناظر في السمة الدالة تقول: توسمت/ في فلان كذا أي عرفت و سم ذلك و سمته فيه.
ثم قال: وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ الضمير في قوله: وَ إِنَّها عائد إلى مدينة قوم لوط، و قد سبق ذكرها في قوله، وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ و قوله: لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي هذه القرى و ما ظهر فيها من آثار قهر اللّه و غضبه لبسبيل مقيم ثابت لم يندرس و لم يخف، و الذين يمرون من الحجاز إلى الشام يشاهدونها.
ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي كل من آمن باللّه و صدق الأنبياء و الرسل عرف أن ذلك إنما كان لأجل أن اللّه تعالى انتقم لأنبيائه من أولئك الجهال، أما الذين لا يؤمنون باللّه فإنهم يحملونه على حوادث العالم و وقائعه، و على حصول القرانات الكوكبية و الاتصالات الفلكية و اللّه أعلم.
[سورة الحجر (15): الآيات 78 الى 79]
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 157
اعلم أن هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة. فأولها: قصة آدم و إبليس. و ثانيها:
قصة إبراهيم و لوط. و ثالثها: هذه القصة، و أصحاب الأيكة هم قوم شعيب عليه السلام، كانوا أصحاب غياض فكذبوا شعيبا فأهلكهم اللّه تعالى بعذاب يوم الظلة، و قد ذكر اللّه تعالى قصتهم في سورة الشعراء، و الأيكة الشجر الملتف. يقال: أيكة و أيك كشجرة و شجر. قال ابن عباس: الأيك هو شجر المقل، و قال الكلبي:
الأيكة الغيضة، و قال الزجاج: هؤلاء أهل موضع كان ذا شجر. قال الواحدي: و معنى إن و اللام للتوكيد و إن هاهنا هي المخففة من الثقيلة، و قوله: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ قال المفسرون: اشتد الحر فيهم أياما، ثم اضطرم عليهم المكان نارا فهلكوا عن آخرهم و قوله: وَ إِنَّهُما فيه قولان:
القول الأول: المراد قرى قوم لوط عليه السلام و الأيكة.
و القول الثاني: الضمير للأيكة و مدين لأن شعيبا عليه السلام كان مبعوثا إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما و قوله: لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي بطريق واضح و الإمام اسم ما يؤتم به. قال الفراء و الزجاج: إنما جعل الطريق إماما لأنه يؤم و يتبع. قال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده و قوله: مُبِينٍ يحتمل أنه مبين في نفسه و يحتمل/ أنه مبين لغيره، لأن الطريق يهدي إلى المقصد.
[سورة الحجر (15): الآيات 80 الى 84]
هذه هي القصة الرابعة، و هي قصة صالح. قال المفسرون: الحجر اسم واد كان يسكنه ثمود و قوله:
الْمُرْسَلِينَ المراد منه صالح وحده، و لعل القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل و قوله: وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا يريد الناقة، و كان في الناقة آيات كثيرة كخروجها من الصخرة و عظم خلقها و ظهور نتاجها عند خروجها، و كثرة لبنها و أضاف الإيتاء إليهم و إن كانت الناقة آية لصالح لأنها آيات رسولهم، و قوله: فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يدل على أن النظر و الاستدلال واجب و أن التقليد مذموم و قوله: وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ قد ذكرنا كيفية ذلك النحت في سورة الأعراف و قوله: آمِنِينَ يريد من عذاب اللّه، و قال الفراء: آمِنِينَ أن يقع سقفهم عليهم و قوله: فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي ما دفع عنهم الضر و البلاء ما كانوا يعملون من نحت تلك الجبال و من جمع تلك الأموال. و اللّه أعلم.
[سورة الحجر (15): الآيات 85 الى 86]
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 158
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أهلك الكفار فكأنه قيل: الإهلاك و التعذيب كيف يليق بالرحيم الكريم. فأجاب عنه بأني إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة و الطاعة فإذا تركوها/ و أعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم و تطهير وجه الأرض منهم، و هذا النظم حسن إلا أنه إنما يستقيم على قول المعتزلة، قال الجبائي:
دلت الآية على أنه تعالى ما خلق السموات و الأرض و ما بينهما إلا حقا و بكون الحق لا يكون الباطل، لأن كل ما فعل باطلا و أريد بفعله كون الباطل لا يكون حقا و لا يكون مخلوقا بالحق، و فيه بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلقه اللّه تعالى بين السموات و الأرض من الكفر و المعاصي باطل.
و اعلم أن أصحابنا قالوا: هذه الآية تدل على أنه سبحانه هو الخالق لجميع أعمال العباد، لأنها تدل على أنه سبحانه هو الخالق للسموات و الأرض و لكل ما بينهما. و لا شك أن أفعال العباد بينهما فوجب أن يكون خالقها هو اللّه سبحانه، و في الآية وجه آخر في النظم و هو أن المقصود من ذكر هذه القصص تصبير اللّه تعالى محمدا عليه الصلاة و السلام على سفاهة قومه فإنه إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياء اللّه تعالى بمثل هذه المعاملات الفاسدة سهل تحمل تلك السفاهات على محمد صلّى اللّه عليه و سلم، ثم إنه تعالى لما بين أنه أنزل العذاب على الأمم السالفة فعند هذا قال لمحمد صلّى اللّه عليه و سلم: وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ و إن اللّه لينتقم لك فيها من عدائك و يجازيك و إياهم على حسناتك و سيئاتهم، فإنه ما خلق السموات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و العدل و الإنصاف فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك، ثم إنه تعالى لما صبره على أذى قومه رغبه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم فقال:
فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي فأعرض عنهم، و احتمل ما تلقى منهم إعراضا جميلا بحلم و إغضاء، و قيل: هو منسوخ بآية السيف و هو بعيد، لأن المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن و العفو و الصفح، فكيف يصير منسوخا.
ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ و معناه أنه خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم و تفاوت أحوالهم مع علمه بكونهم كذلك، و إذا كان كذلك فإنما خلقهم مع هذا التفاوت، و مع العلم بذلك التفاوت. أما على قول أهل السنة فلمحض المشيئة و الإرادة. و أما على قول المعتزلة فلأجل المصلحة و الحكمة، و اللّه أعلم.
[سورة الحجر (15): الآيات 87 الى 88]
[في قوله تعالى وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ] اعلم أنه تعالى لما صبره على أذى قومه و أمره بأن يصفح الصفح الجميل أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص اللّه تعالى محمدا صلّى اللّه عليه و سلم بها، لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم اللّه عليه سهل عليه الصفح و التجاوز، و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله: آتَيْناكَ سَبْعاً يحتمل أن يكون سبعا من الآيات و أن يكون سبعا من السور و أن يكون سبعا من الفوائد. و ليس في اللفظ ما يدل على التعيين. و أما المثاني: فهو صيغة جمع. واحده مثناة، و المثناة كل شيء يثنى، أي يجعل اثنين من قولك: ثنيت الشيء إذا عطفته أو ضممت إليه آخر، و منه يقال: لركبتي الدابة و مرفقيها مثاني، لأنها تثنى بالفخذ و العضد، و مثاني الوادي معاطفه.
إذا عرفت هذا فنقول: سبعا من المثاني مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى و لا شك أن هذا
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 159
القدر مجمل و لا سبيل إلى تعيينه إلا بدليل منفصل و للناس فيه أقوال: الأول: و هو قول أكثر المفسرين: إنه فاتحة الكتاب و هو قول عمر و علي و ابن مسعود و أبي هريرة و الحسن و أبي العالية و مجاهد و الضحاك و سعيد بن جبير و قتادة، و
روي أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قرأ الفاتحة و قال: هي السبع المثاني رواه أبو هريرة،
و السبب في وقوع هذا الاسم على الفاتحة أنها سبع آيات، و أما السبب في تسميتها بالمثاني فوجوه: الأول: أنها تثنى في كل صلاة بمعنى أنها تقرأ في كل ركعة. و الثاني: قال الزجاج: سميت مثاني لأنها يثنى بعدها ما يقرأ معها. الثالث:
سميت آيات الفاتحة مثاني، لأنها قسمت قسمين اثنين، و الدليل عليه ما
روي أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «يقول اللّه تعالى قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين»
و الحديث مشهور. الرابع: سميت مثاني لأنها قسمان ثناء و دعاء، و أيضا النصف الأول منها حق الربوبية و هو الثناء، و النصف الثاني حق العبودية و هو الدعاء. الخامس: سميت الفاتحة بالمثاني، لأنها نزلت مرتين مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن و مرة بالمدينة. السادس: سميت بالمثاني، لأن كلماتها مثناة مثل: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ...* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 3، 5- 7] و في قراءة عمر: (غير المغضوب عليهم و غير الضالين). السابع:
قال الزجاج: سميت الفاتحة بالمثاني لاشتمالها على الثناء على اللّه تعالى و هو حمد اللّه و توحيده و ملكه.
و اعلم أنا إذا حملنا قوله: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي على سورة الفاتحة فههنا أحكام:
الحكم الأول:
نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال: كان ابن مسعود يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب رأى أنها ليست من القرآن. و أقول: لعل حجته فيه أن السبع المثاني لما ثبت أنه هو الفاتحة. ثم/ إنه تعالى عطف السبع المثاني على القرآن، و المعطوف مغاير للمعطوف عليه وجب أن يكون السبع المثاني غير القرآن، إلا أن هذا يشكل بقوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ [الأحزاب: 7] و كذلك قوله: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ [البقرة: 98] و للخصم أن يجيب: بأنه لا يبعد أن يذكر الكل، ثم يعطف عليه ذكر بعض أجزائه و أقسامه لكونه أشرف الأقسام. أما إذا ذكر شيء ثم عطف عليه شيء آخر كان المذكور أولا مغايرا للمذكور ثانيا، و هاهنا ذكر السبع المثاني، ثم عطف عليه القرآن العظيم، فوجب حصول المغايرة.
و الجواب الصحيح: أن بعض الشيء مغاير لمجموعه، فلم لا يكفي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف، و اللّه أعلم.
الحكم الثاني:
أنه لما كان المراد بقوله: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي هو الفاتحة، دل على أن هذه السورة أفضل سور القرآن من وجهين: أحدهما: أن إفرادها بالذكر مع كونها جزءا من أجزاء القرآن، لا بد و أن يكون لاختصاصها بمزيد الشرف و الفضيلة. و الثاني: أنه تعالى لما أنزلها مرتين دل ذلك على زيادة فضلها و شرفها.
و إذا ثبت هذا فنقول: لما رأينا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم واظب على قراءتها في جميع الصلوات طول عمره، و ما أقام سورة أخرى مقامها في شيء من الصلوات دل ذلك على أنه يجب على المكلف أن يقرأها في صلاته و أن لا يقيم سائر آيات القرآن مقامها و أن يحترز عن هذا الإبدال فإن فيه خطرا عظيما و اللّه أعلم.
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 160
القول الثاني: في تفسير قوله: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي إنها السبع الطوال و هذا قول ابن عمر و سعيد بن جبير في بعض الروايات و مجاهد و هي: البقرة، و آل عمران، و النساء، و المائدة، و الأنعام، و الأعراف، و الأنفال، و التوبة معا. قالوا: و سميت هذه السور مثاني، لأن الفرائض و الحدود و الأمثال و العبر ثنيت فيها و أنكر الربيع هذا القول. و قال هذه الآية مكية و أكثر هذه السور السبعة مدنية. و ما نزل شيء منها في مكة، فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها.
و أجاب قوم عن هذا الإشكال: بأن اللّه تعالى أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا. ثم أنزله على نبيه منها نجوما، فلما أنزله إلى السماء الدنيا، و حكم بإنزاله عليه، فهو من جملة ما آتاه، و إن لم ينزل عليه بعد.
و لقائل أن يقول: إنه تعالى قال: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي و هذا الكلام إنما يصدق/ إذا وصل ذلك الشيء إلى محمد صلّى اللّه عليه و سلم. فأما الذي أنزله إلى السماء الدنيا و هو لم يصل بعد إلى محمد عليه السلام، فهذا الكلام لا يصدق فيه. و أما قوله بأنه لما حكم اللّه تعالى بإنزاله على محمد صلّى اللّه عليه و سلم كان ذلك جاريا مجرى ما نزل عليه فهذا أيضا ضعيف، لأن إقامة ما لم ينزل عليه مقام النازل عليه مخالف للظاهر.
و القول الثالث: في تفسير السبع المثاني إنها هي السور التي هي دون الطوال و المئين و فوق المفصل، و اختار هذا القول قوم و احتجوا عليه بما
روى ثوبان أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «إن اللّه أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، و أعطاني المئين مكان الإنجيل، و أعطاني المثاني مكان الزبور، و فضلني ربي بالمفصل»
قال الواحدي: و القول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطوال مثاني. و أقول إن صح هذا التفسير عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فلا غبار عليه و إن لم يصح فهذا القول مشكل، لأنا بينا أن المسمى بالسبع المثاني يجب أن يكون أفضل من سائر السور، و أجمعوا على أن هذه السور التي سموها بالمثاني ليست أفضل من غيرها، فيمتنع حمل السبع المثاني على تلك السور.
و القول الرابع: أن السبع المثاني هو القرآن كله، و هو منقول عن ابن عباس في بعض الروايات، و قول طاوس قالوا: و دليل هذا القول قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] فوصف كل القرآن بكونه مثاني ثم اختلف القائلون بهذا القول في أنه ما المراد بالسبع، و ما المراد بالمثاني؟ أما السبع فذكر فيه وجوها:
أحدها: أن القرآن سبعة أسباع. و ثانيها: أن القرآن مشتمل على سبعة أنواع من العلوم. التوحيد، و النبوة، و المعاد، و القضاء، و القدر، و أحوال العالم، و القصص، و التكاليف. و ثالثها: أنه مشتمل على الأمر و النهي، و الخبر و الاستخبار، و النداء، و القسم، و الأمثال. و أما وصف كل القرآن بالمثاني، فلأنه كرر فيه دلائل التوحيد و النبوة و التكاليف، و هذا القول ضعيف أيضا، لأنه لو كان المراد بالسبع المثاني القرآن، لكان قوله: وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عطفا للشيء على نفسه، و ذلك غير جائز.
و أجيب عنه بأنه إنما حسن إدخال حرف العطف فيه لاختلاف اللفظين كقول الشاعر:
إلى الملك القرم و ابن الهمام
و ليث الكتيبة في المزدحم
و اعلم أن هذا و إن كان جائزا لأجل وروده في هذا البيت، إلا أنهم أجمعوا على أن الأصل خلافه.
و القول الخامس: يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة، لأنها سبع آيات، و يكون المراد بالمثاني كل
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 161
القرآن و يكون التقدير: و لقد آتيناك سبع آيات هي الفاتحة و هي من جملة المثاني الذي هو/ القرآن و هذا القول عين الأول و التفاوت ليس إلا بقليل و اللّه أعلم.
المسألة الثانية: لفظة «من» في قوله: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال الزجاج فيها وجهان: أحدهما: أن تكون للتبعيض من القرآن أي و لقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثني بها على اللّه تعالى و آتيناك القرآن العظيم قال و يجوز أن تكون من صلة، و المعنى: آتيناك سبعا هي المثاني كما قال: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] المعنى: اجتنبوا الأوثان، لا أن بعضها رجس و اللّه أعلم.
أما قوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ فاعلم أنه تعالى لما عرف رسوله عظم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين، و هو أنه آتاه سبعا من المثاني و القرآن العظيم، نهاه عن الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليها رغبة فيها و في مد العين أقوال:
القول الأول: كأنه قيل له إنك أوتيت القرآن العظيم فلا تشغل سرك و خاطرك بالالتفات إلى الدنيا و منه
الحديث: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»
و قال أبو بكر: من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما و عظم صغيرا، و قيل: وافت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود بني قريظة و النضير، فيها أنواع البز و الطيب و الجواهر و سائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها و لأنفقناها في سبيل اللّه تعالى فقال اللّه تعالى لهم: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع.
القول الثاني: قال ابن عباس: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تتمن ما فضلنا به أحدا من متاع الدنيا، و قرر الواحدي هذا المعنى فقال: إنما يكون مادا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر و نحوه، و إدامة النظر إلى الشيء تدل على استحسانه و تمنيه، و كان صلّى اللّه عليه و سلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا، و
روي أنه نظر إلى نعم بني المصطلق، و قد عبست في أبوالها و أبعارها فتقنع في ثوبه و قرأ هذه الآية
و
قوله عبست في أبوالها و أبعارها
هو أن تجف أبوالها و أبعارها على أفخاذها إذا تركت من العمل أيام الربيع فتكثر شحومها و لحومها و هي أحسن ما تكون.
و القول الثالث: قال بعضهم: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تحسدن أحدا على ما أوتي من الدنيا قال القاضي: هذا بعيد، لأن الحسد من كل أحد قبيح، لأنه إرادة لزوال نعم الغير عنه، و ذلك يجري مجرى الاعتراض على اللّه تعالى و الاستقباح لحكمه و قضائه، و ذلك من كل أحد قبيح، فكيف يحسن تخصيص الرسول صلّى اللّه عليه و سلم به؟
أما قوله تعالى: أَزْواجاً مِنْهُمْ قال ابن قتيبة أي أصنافا من الكفار، و الزوج في اللغة الصنف/ ثم قال:
وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إن لم يؤمنوا فيقوى بمكانهم الإسلام و ينتعش بهم المؤمنون. و الحاصل أن قوله: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ نهي له عن الالتفات إلى أموالهم و قوله: وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ نهي له عن الالتفات إليهم و أن يحصل لهم في قلبه قدر و وزن.
ثم قال: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ الخفض: معناه في اللغة نقيض الرفع، و منه قوله تعالى في صفة القيامة: خافِضَةٌ رافِعَةٌ [الواقعة: 3] أي أنها تخفض أهل المعاصي، و ترفع أهل الطاعات، فالخفض معناه
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 162
الوضع، و جناح الإنسان يده. قال الليث: يدا الإنسان جناحاه، و منه قوله: وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [القصص: 32] و خفض الجناح كناية عن اللين و الرفق و التواضع، و المقصود أنه تعالى لما نهاه عن الالتفات إلى أولئك الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين، و نظيره قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة: 54] و قال في صفة أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29].
[سورة الحجر (15): الآيات 89 الى 91]
[في قوله تعالى وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ] اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالزهد في الدنيا، و خفض الجناح للمؤمنين، أمره بأن يقول للقوم: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ فيدخل تحت كونه نذيرا، كونه مبلغا لجميع التكاليف، لأن كل ما كان واجبا ترتب على تركه عقاب و كل ما كان حراما ترتب على فعله عقاب فكان الأخبار بحصول هذا العقاب داخلا تحت لفظ النذير، و يدخل تحته أيضا كونه شارحا لمراتب الثواب و العقاب و الجنة و النار، ثم أردفه بكونه مبينا، و معناه كونه آتيا في كل ذلك بالبيانات الشافية و البينات الوافية، ثم قال بعده: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ و فيه بحثان.
البحث الأول: اختلفوا في أن المقتسمين من هم؟ و فيه أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس: هم الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و يقرب عددهم من أربعين. و قال مقاتل بن سليمان: كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا عقبات مكة و طرقها يقولون لمن يسلكها لا تغتروا بالخارج منا، و المدعي للنبوة فإنه مجنون، و كانوا ينفرون الناس عنه بأنه ساحر أو كاهن/ أو شاعر، فأنزل اللّه تعالى بهم خزيا فماتوا شر ميتة، و المعنى: أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين.
و القول الثاني: و هو قول ابن عباس رضي اللّه عنهما في بعض الروايات أن المقتسمين هم اليهود و النصارى، و اختلفوا في أن اللّه تعالى لم سماهم مقتسمين؟ فقيل لأنهم جعلوا القرآن عضين آمنوا بما وافق التوراة و كفروا بالباقي. و قال عكرمة: لأنهم اقتسموا القرآن استهزاء به، فقال بعضهم: سورة كذا لي. و قال بعضهم: سورة كذا لي. و قال مقاتل بن حبان: اقتسموا القرآن فقال بعضهم سحر. و قال بعضهم شعر، و قال بعضهم كذب، و قال بعضهم: أساطير الأولين.
و القول الثالث: في تفسير المقتسمين. قال ابن زيد: هم قوم صالح تقاسموا لنبيتنه و أهله، فرمتهم الملائكة بالحجارة حتى قتلوهم، فعلى هذا الاقتسام من القسم لا من القسمة، و هو اختيار ابن قتيبة.
البحث الثاني: أن قوله: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ يقتضي تشبيه شيء بذلك فما ذلك الشيء؟
و الجواب عنه من وجهين: