کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 59
يأكل منه و هو لا يعلم ما يفعله و لا يقدر على دفعه إن كان يعلمه فينفر طبعه منه كما ينفر إذا قال له إنه يوجب العذاب و يورث العقاب.
ثم قال تعالى: وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ .
يعني حقيقتها و كون الأمر كذلك لا يعلمه إلا من حصل له العلم ببطلان ما سوى اللّه و فساد عبادة ما عداه، و فيه معنى حكمي و هو أن العلم الحدسي يعلمه العاقل و العلم الفكري الدقيق يعقله العالم، و ذلك لأن العاقل إذا عرض عليه أمر ظاهر أدركه كما هو بكنهه لكون المدرك ظاهرا و كون المدرك عاقلا، و لا يحتاج إلى كونه عالما بأشياء قبله، و أما الدقيق فيحتاج إلى علم سابق فلا بد من عالم، ثم إنه قد يكون دقيقا في غاية الدقة فيدركه و لا يدركه بتمامه و يعقله إذا كان عالما. إذا علم هذا فقوله: وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ يعني هو ضرب للناس أمثالا و حقيقتها و ما فيها من الفوائد بأسرها فلا يدركها إلا العلماء.
ثم إنه تعالى لما أمر الخلق بالإيمان و أظهر الحق بالبرهان و لم يأت الكفار بما أمرهم به و قص عليهم قصصا فيها عبر، و أنذرهم على كفرهم بإهلاك من غبر، و بين ضعف دليلهم بالتمثيل، و لم يهتدوا بذلك إلى سواء السبيل، و حصل يأس الناس عنهم سلَّى المؤمنين بقوله:
[سورة العنكبوت (29): آية 44]
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
يعني إن لم يؤمنوا هم لا يورث كفرهم شكا في صحة دينكم، و لا يؤثر شكهم في قوة يقينكم، فإن خلق اللّه السموات و الأرض بالحق للمؤمنين بيان ظاهر، و برهان باهر، و إن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر، و في الآية مسألة يتبين بها تفسير الآية، و هي أن اللّه تعالى كيف خص الآية في خلق السموات و الأرض بالمؤمنين مع أن في خلقهما آية لكل عاقل كما قال اللّه تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ* [لقمان: 25] و قال اللّه تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ* إلى أن قال لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* [البقرة: 164] فنقول خلق السموات و الأرض آية لكل عاقل و خلقهما بالحق آية للمؤمنين فحسب، و بيانه من حيث النقل و العقل، أما النقل فقوله تعالى: ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان: 39] أخرج أكثر الناس عن العلم يكون خلقهما بالحق مع أنه أثبت علم الكل بأنه خلقهما حيث قال: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ* و أما العقل فهو أن العاقل أول ما ينظر إلى خلق السموات و الأرض و يعلم أن لهما خالقا و هو اللّه ثم من يهديه اللّه لا يقطع النظر عنهما عند مجرد ذلك، بل يقول إنه خلقهما متقنا محكما و هو المراد بقوله بِالْحَقِ ، لأن ما لا يكون على وجه الإحكام يفسد و يبطل فيكون باطلا، و إذا علم أنه خلقهما متقنا يقول إنه قادر كامل حيث خلق و عالم علمه شامل حيث أتقن/ فيقول لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض و لا في السموات و لا يعجز عن جمعها كما جمع أجزاء الكائنات و المبدعات، فيجوز بعث من في القبور و بعثة الرسول، و يعلم وحدانية اللّه لأنه لو كان أكثر من واحد لفسدتا و لبطلتا و هما بالحق موجودان فيحصل له الإيمان بتمامه، من خلق ما خلقه على أحسن نظامه، ثم إن اللّه تعالى لما سلى المؤمنين بهذه الآية سلى رسوله: بقوله تعالى:
[سورة العنكبوت (29): آية 45]
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 60
[في قوله تعالى اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ] يعني إن كنت تأسف على كفرهم فاتل ما أوحي إليك لتعلم أن نوحا و لوطا و غيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة و بالغوا في إقامة الدلالة و لم ينقذوا قومهم من الضلالة و الجهالة و لهذا قال: اتْلُ و ما قال عليهم، لأن التلاوة ما كانت بعد اليأس منهم إلا لتسلية قلب محمد عليه الصلاة و السلام و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أن الرسول إذا كان معه كتاب و قرأ كتابه مرة و لم يسمع لم يبق له فائدة في قراءته لنفسه فنقول الكتاب المنزل مع النبي المرسل ليس كذلك، فإن الكتب المسيرة مع الرسل على قسمين قسم يكون فيه سلام و كلام، مع واحد يحصل بقراءته مرة تمام المرام، و قسم يكون فيه قانون كلي تحتاج إليه الرعية في جميع الأوقات كما إذا كتب الملك كتابا فيه إنا رفعنا عنكم البدعة الفلانية و وضعنا فيكم السنة الفلانية و بعثنا إليكم هذا الكتاب فيه جميع ذلك فليكن ذلك كمنوال ينسج عليه وال بعد وال، فمثل هذا الكتاب لا يقرأ و يترك بل يعلق من مكان عال، و كثيرا ما تكتب نسخته على لوح و يثبت فوق المحاريب، و يكون نصب الأعين، فكذلك كتاب اللّه مع رسوله مع محمد قانون كلي فيه شفاء للعالمين فوجب تلاوته مرة بعد مرة ليبلغ إلى حد التواتر و ينقله قرن إلى قرن و يأخذه قوم من قوم و يثبت في الصدور على مرور الدهور الوجه الثاني: هو أن الكتب على ثلاثة أقسام كتاب لا تكره قراءته إلا للغير كالقصص فإن من قرأ حكاية مرة لا يقرؤها مرة أخرى إلا لغيره، ثم إذا سمعه ذلك الغير لا يقرؤها إلا لآخر لم يسمعه و لو قرأه عليه لسئموه، و كتاب لا يكرر عليه إلا للنفس كالنحو و الفقه و غيرهما و كتاب يتلى مرة بعد مرة للنفس و للغير كالمواعظ الحسنة فإنها تكرر للغير و كلما سمعها يلتذ بها و يرق لها قلبه و يستعيدها و كلما تدخل السمع يخرج الوسواس مع الدمع و تكرر أيضا لنفس المتكلم فإن كثيرا ما يلتذ المتكلم بكلمة طيبة و كلما يعيدها يكون أطيب و ألذ و أثبت في القلب و أنفذ/ حتى يكاد يبكي من رقته دما و لو أورثه البكاء عمى، إذا علم هذا فالقرآن من القبيل الثالث مع أن فيه القصص و الفقه و النحو فكان في تلاوته في كل زمان فائدة.
المسألة الثانية: لم خصص بالأمر هذين الشيئين تلاوة الكتاب و إقامة الصلاة؟ فنقول لوجهين أحدهما:
أن اللّه لما أراد تسلية قلب محمد عليه السلام قال له الرسول واسطة بين طرفين من اللّه إلى الخلق، فإذا لم يتصل به الطرف الواحد و لم يقبلوه فالطرف الآخر متصل، ألا ترى أن الرسول إذا لم تقبل رسالته توجه نحو مرسله، فإذا تلوت كتابك و لم يقبلوك فوجه وجهك إلي و أقم الصلاة لوجهي الوجه الثاني: هو أن العبادات المختصة بالعبد ثلاثة: و هي الاعتقاد الحق و لسانية و هي الذكر الحسن و بدنية خارجية و هي العمل الصالح، لكن الاعتقاد لا يتكرر فإن من اعتقد شيئا لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمرا و النبي عليه السلام كان ذلك.
حاصلا له عن عيان أكمل مما يحصل عن بيان، فلم يؤمر به لعدم إمكان تكراره، لكن الذكر ممكن التكرار، و العبادة البدنية كذلك فأمره بهما فقال: أتل الكتاب و أقم الصلاة.
المسألة الثالثة: كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء و المنكر؟ نقول قال بعض المفسرين المراد من الصلاة القرآن و هو ينهى أي فيه النهي عنهما و هو بعيد لأن إرادة القرآن من الصلاة في هذا الموضع الذي قال قبله اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ بعيد من الفهم، و قال بعضهم أراد به نفس الصلاة و هي تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة، لأنه لا يمكنه الاشتغال بشيء منهما، فنقول هذا كذلك لكن ليس المراد هذا و إلا لا يكون مدحا كاملا للصلاة،
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 61
لأن غيرها من الأشغال كثيرا ما يكون كذلك كالنوم في وقته و غيره فنقول: المراد أن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر مطلقا و على هذا قال بعض المفسرين الصلاة هي التي تكون مع الحضور و هي تنهى، حتى
نقل عنه صلى اللّه عليه و آله و سلم «من لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يزدد بها إلا بعدا»
و نحن نقول الصلاة الصحيحة شرعا تنهى عن الأمرين مطلقا و هي التي أتى بها المكلف للّه حتى لو قصد بها الرياء لا تصح صلاته شرعا و تجب عليه الإعادة، و هذا ظاهر فإن من نوى بوضوئه الصلاة و التبرد قيل لا يصح فكيف من نوى بصلاته اللّه و غيره إذا ثبت هذا فنقول الصلاة تنهى من وجوه الأول: هو أن من كان يخدم ملكا عظيم الشأن كثير الإحسان و يكون عنده بمنزلة، و يرى عبدا من عباده قد طرده طردا لا يتصور قبوله، وفاته الخبر بحيث لا يرجى حصوله، يستحيل من ذلك المقرب عرفا أن يترك خدمة الملك و يدخل في طاعة ذلك المطرود فكذلك العبد إذا صلى للّه صار عبدا له، و حصل له منزلة المصلي يناجي ربه، فيستحيل منه أن يترك عبادة اللّه و يدخل تحت طاعة الشيطان المطرود، لكن مرتكب الفحشاء و المنكر تحت طاعة الشيطان فالصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر الثاني: هو أن من يباشر القاذورات كالزبال و الكناس يكون له لباس نظيف إذا لبسه لا يباشر معه القاذورات و كلما كان ثوبه أرفع يكون امتناعه و هو لابسه عن القاذورات أكثر فإذا لبس واحد منهم ثوب ديباج/ مذهب يستحيل منه مباشرة تلك الأشياء عرفا، فكذلك العبد إذا صلى لبس لباس التقوى لأنه واقف بين يدي اللّه واضع يمينه على شماله؛ على هيئة من يقف بمرأى ملك ذي هيبة، و لباس التقوى خير لباس يكون نسبته إلى القلب أعلى من نسبة الديباج المذهب إلى الجسم، فإذن من لبس هذا اللباس يستحيل منه مباشرة قاذورات الفحشاء و المنكر. ثم إن الصلوات متكررة واحدة بعد واحدة فيدوم هذا اللبس فيدوم الامتناع الثالث: من يكون أمير نفسه يجلس حيث يريد فإذا دخل في خدمة ملك و أعطاه منصبا له مقام خاص لا يجلس صاحب ذلك المنصب إلا في ذلك الموضع، فلو أراد أن يجلس في صف النعال لا يترك فكذلك العبد إذا صلى دخل في طاعة اللّه و لم يبق بحكم نفسه و صار له مقام معين، إذ صار من أصحاب اليمين، فلو أراد أن يقف في غير موضعه و هو موقف أصحاب الشمال لا يترك، لكن مرتكب الفحشاء و المنكر من أصحاب الشمال و هذا الوجه إشارة إلى عصمة اللّه يعني من صلى عصمه اللّه عن الفحشاء و المنكر الرابع: و هو موافق لما وردت به الأخبار و هو أن من يكون بعيدا عن الملك كالسوقي و المنادي و المتعيش لا يبالي بما فعل من الأفعال يأكل في دكان الهراس و الرواس و يجلس مع أحباش الناس، فإذا صارت له قربة يسيرة من الملك كما إذا صار واحدا من الجندارية و القواد و السواس عند الملك لا تمنعه تلك القربة من تعاطي ما كان يفعله، فإذا زادت قربته و ارتفعت منزلته حتى صار أميرا حينئذ تمنعه هذه المنزلة عن الأكل في ذلك المكان و الجلوس مع أولئك الخلان، كذلك العبد إذا صلى و سجد صار له قربة ما لقوله تعالى: وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ [العلق: 19] فإذا كان ذلك القدر من القربة يمنعه من المعاصي و المناهي، فبتكرر الصلاة و السجود تزداد مكانته، حتى يرى على نفسه من آثار الكرامة ما يستقذر معه من نفسه الصغائر فضلا عن الكبائر، و في الآية وجه آخر معقول يؤكده المنقول و هو أن المراد من قوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ هو أنها تنهى عن التعطيل و الإشراك، و التعطيل هو إنكار وجود اللّه، و الإشراك إثبات ألوهية لغير اللّه.
فنقول التعطيل عقيدة فحشاء لأن الفاحش هو القبيح الظاهر القبح، لكن وجود اللّه أظهر من الشمس و ما من شيء إلا و فيه آية على اللّه ظاهرة و إنكار الظاهر ظاهر الإنكار، فالقول بأن لا إله قبيح و الإشراك منكر، و ذلك لأن اللّه تعالى لما أطلق اسم المنكر على من نسب نفسا إلى غير الوالد مع جواز أن يكون له ولد حيث قال: إِنْ
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 62
أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ [المجادلة: 2] فالمشرك الذي يقول الملائكة بنات اللّه و ينسب إلى من لم يلد، و لا يجوز أن يكون له ولد، ولدا كيف لا يكون قوله منكرا؟ فالصلاة تنهى عن هذه الفحشاء، و هذا المنكر و ذلك لأن العبد أول ما يشرع في الصلاة يقول اللّه أكبر، فبقوله اللّه ينفي التعطيل و بقوله أكبر ينفي التشريك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك، فإذا قال بِسْمِ اللَّهِ نفى التعطيل، و إذا قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نفى الإشراك، لأن الرحمن من يعطي الوجود بالخلق بالرحمة، و الرحيم من/ يعطي البقاء بالرزق بالرحمة، فإذا قال الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، أثبت بقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ خلاف التعطيل و بقوله:
رَبِّ الْعالَمِينَ خلاف الإشراك، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ بتقديم إياك نفى التعطيل و الإشراك و كذا بقوله:
وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد و المعطل لا مقصد له، و بقوله: الْمُسْتَقِيمَ نفى الإشراك لأن المستقيم هو الأقرب و المشرك يعبد الأصنام حتى يعبد صورة صورها إله العالمين، و يظنون أنهم يشفعون لهم و عبادة اللّه من غير واسطة أقرب، و على هذا إلى آخر الصلاة يقول فيها أشهد أن لا إله إلا اللّه فينفي الإشراك و التعطيل، و هاهنا لطيفة و هي أن الصلاة أولها لفظة اللّه و آخرها لفظة اللّه في قوله: أشهد أن لا إله إلا اللّه ليعلم المصلي أنه من أول الصلاة إلى آخرها مع اللّه، فإن قال قائل فقد بقي من الصلاة قوله و أشهد أن محمدا رسول اللّه و الصلاة على الرسول و التسليم، فنقول هذه الأشياء في آخرها دخلت لمعنى خارج عن ذات الصلاة، و ذلك لأن الصلاة ذكر اللّه لا غير، لكن العبد إذا وصل بالصلاة إلى اللّه و حصل مع اللّه لا يقع في قلبه أنه استقل و استبد و استغنى عن الرسول، كمن تقرب من السلطان فيغتر بذلك و لا يلتفت إلى النواب و الحجاب، فقال أنت في هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم و غير مستغن عنه فقل مع ذكرى محمد رسول اللّه، ثم إذا علمت أن هذا كله ببركة هدايته فاذكر إحسانه بالصلاة عليه، ثم إذا رجعت من معراجك و انتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم و بلغهم سلامي كما هو ترتيب المسافرين، و اعلم أن هيئة الصلاة هيئة فيها هيبة فإن أولها وقوف بين يدي اللّه كوقوف المملوك بين يدي السلطان، ثم إن آخرها جثو بين يدي اللّه كما يجثو بين يدي السلطان من أكرمه بالإجلاس، كأن العبد لما وقف و أثنى على اللّه أكرمه اللّه و أجلسه فجثا، و في هذا الجثو لطيفة و هي أن من جثا في الدنيا بين يدي ربه هذا الجثو لا يكون له جثو في الآخرة، و لا يكون من الذين قال اللّه في حقهم وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مريم: 72].
ثم قال تعالى: وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ .
لما ذكر أمرين و هما تلاوة الكتاب و إقامة الصلاة بين ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم، فقال: وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ و أنتم إذا ذكرتم آباءكم بما فيهم من الصفات الحسنة تنبشوا لذلك و تذكروهم بملء أفواهكم و قلوبكم، لكن ذكر اللّه أكبر، فينبغي أن يكون على أبلغ وجوه التعظيم، و أما الصلاة فكذلك لأن اللّه يعلم ما تصنعون، و هذا أحسن صنعكم فينبغي أن يكون على وجه التعظيم، و في قوله: وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مع حذف بيان ما هو أكبر منه لطيفة و هي أن اللّه لم يقل أكبر من ذكر فلان لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة، إذا لا يقال الجبل أكبر من خردلة، و إنما يقال هذا الجبل أكبر من ذلك الجبل فأسقط المنسوب كأنه قال و لذكر/ اللّه له الكبر لا لغيره، و هذا كما يقال في الصلاة اللّه أكبر أي له الكبر لا لغيره. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29): الآيات 46 الى 47]
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 63
لما بين اللّه طريقة إرشاد المشركين و نفع من انتفع و حصل اليأس ممن امتنع بين طريقة إرشاد أهل الكتاب فقال: وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال بعض المفسرين المراد منه لا تجادلوهم بالسيف، و إن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا و حاربوا، أي إذا ظلموا زائدا على كفرهم، و فيه معنى ألطف منه و هو أن المشرك جاء بالمنكر على ما بيناه فكان اللائق أن يجادل بالأخشن و يبالغ في تهجين مذهبه و توهين شبهه، و لهذا قال تعالى في حقهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ* [البقرة: 18] و قال: لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها [الأعراف: 179] إلى غير ذلك. و أما أهل الكتاب فجاءوا بكل حسن إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام فوحدوا و آمنوا بإنزال الكتب و إرسال الرسل و الحشر، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن و لا تستخف آراؤهم و لا ينسب الضلال آباؤهم، بخلاف المشرك، ثم على هذا فقوله: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا تبيين له حسن آخر، و هو أن يكون المراد إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد للّه و القول بثالث ثلاثة فإنهم ضاهوهم في القول المنكر فهم الظالمون، لأن الشرك ظلم عظيم، فيجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم و تبيين جهالتهم، ثم إنه تعالى بين ذلك الأحسن فقدم محاسنهم بقوله: وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فيلزمنا اتباع ما قاله لكنه بين رسالتي في كتبكم فهو دليل مضيء، ثم بعد ذلك ذكر دليلا قياسيا فقال:
وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك و هذا قياس، ثم قال: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ لوجود النص و من هؤلاء كذلك، و اختلف المفسرون فقال بعضهم: المراد بالذين آتيناهم الكتاب من آمن بنبينا من أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام و غيره و بقوله: وَ مِنْ هؤُلاءِ أي من أهل مكة و قال بعضهم: المراد بالذين/ آتيناهم الكتاب هم الذين سبقوا محمدا صلى اللّه عليه و آله و سلم زمانا من أهل الكتاب، و من هؤلاء الذين هم في زمان محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم من أهل الكتاب و هذا أقرب، فإن قوله: هؤُلاءِ صرفه إلى أهل الكتاب أولى، لأن الكلام فيهم و لا ذكر للمشركين هاهنا، إذ كان هذا الكلام بعد الفراغ من ذكرهم و الإعراض عنهم لإصرارهم على الكفر، و هاهنا وجه آخر أولى و أقرب إلى العقل و النقل، و أقرب إلى الأحسن من الجدال المأمور به، و هو أن نقول المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الأنبياء و بقوله: وَ مِنْ هؤُلاءِ أي من أهل الكتاب و هو أقرب، لأن الذين آتاهم الكتاب في الحقيقة هم الأنبياء، فإن اللّه ما آتى الكتاب إلا للأنبياء، كما قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الأنعام: 89] و قال: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً* [النساء: 163] و قال: آتانِيَ الْكِتابَ [مريم:
30] و إذا حملنا الكلام على هذا لا يدخله التخصيص، لأن كل الأنبياء آمنوا بكل الأنبياء، و إذا قلنا بما قالوا به يكون المراد من الذين آتيناهم الكتاب عبد اللّه بن سلام و اثنين أو ثلاثة معه أو عددا قليلا، و يكون المراد بقوله:
وَ مِنْ هؤُلاءِ غير المذكورين، و على ما ذكرنا يكون مخرج الكلام كأنه قسم القوم قسمين أحدهما المشركين و تكلم فيهم و فرغ منهم و الثاني أهل الكتاب و هو بعد في بيان أمرهم، و الوقت وقت جريان ذكرهم، فإذا قال هؤلاء يكون منصرفا إلى أهل الكتاب الذين هم في وصفهم، و إذا قال أولئك يكون منصرفا إلى المشركين الذين سبق ذكرهم و تحقق أمرهم، و على هذا التفسير يكون الجدال على أحسن الوجوه، و ذلك لأن الخلاف في
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 64
الأنبياء و الأئمة قريب من الخلاف في فضيلة الرؤساء و الملوك، فإذا اختلف حزبان في فضيلة ملكين أو رئيسين، و أدى الاختلاف إلى الاقتتال يكون أقوى كلام يصلح بينهم أن يقال لهم هذان الملكان متوافقان متصادقان، فلا معنى لنزاعكم فكذلك هاهنا قال النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم نحن آمنا بالأنبياء و هم آمنوا بي فلا معنى لتعصبكم لهم و كذلك أكابركم و علماؤكم آمنوا، ثم قال تعالى: وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ تنفيرا لهم عما هم عليه، يعني أنكم آمنتم بكل شيء، و امتزتم عن المشركين بكل فضيلة، إلا هذه المسألة الواحدة، و بإنكارها تلحقون بهم و تبطلون مزاياكم، فإن الجاحد بآية يكون كافرا.
[سورة العنكبوت (29): الآيات 48 الى 49]
ثم قال تعالى: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ هذه درجة أخرى بعد ما تقدم على الترتيب، و ذلك لأن المجادل إذا ذكر مسألة مختلفا فيها كقول القائل: الزكاة تجب في مال الصغير، فإذا قيل له لم؟ فيقول كما تجب النفقة في ماله، و لا يذكر أولا الجامع بينهما، فإن قنع الطالب بمجرد التشبيه و أدرك من نفسه الجامع فذاك، و إن لم يدرك أو لم يقنع يبدي الجامع، فيقول كلاهما مال فضل عن الحاجة فيجب فكذلك هاهنا ذكر أولا التمثيل بقوله: وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [العنكبوت: 47] ثم ذكر الجامع و هو المعجزة، فقال ما علم كون تلك الكتب منزلة إلا بالمعجزة، و هذا القرآن ممن لم يكتب و لم يقرأ عين المعجزة، فيعرف كونه منزلا، و قوله تعالى: إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ فيه معنى لطيف، و هو أن النبي إذا كان قارئا كاتبا ما كان يوجب كون هذا الكلام كلامه، فإن جميع كتبة الأرض و قرائها لا يقدرون عليه، لكن على ذلك التقدير يكون للمبطل وجه ارتياب، و على ما هو عليه لا وجه لارتيابه فهو أدخل في الإبطال و هذا كقوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] أي من مثل محمد عليه السلام و كقوله: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 1، 2].
ثم قال تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قوله فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إشارة إلى أنه ليس من مخترعات الآدميين، لأن من يكون له كلام مخترع يقول هذا من قلبي و خاطري، و إذا حفظه من غيره يقول إنه في قلبي و صدري، فإذا قال: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ لا يكون من صدر أحد منهم، و الجاهل يستحيل منه ذلك ظهور له من الصدور و يلتحقون عنده هذه الأمة بالمشركين، فظهوره من اللّه.
ثم قال تعالى: وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ قال هاهنا الظَّالِمُونَ و من قبل قال الْكافِرُونَ [العنكبوت: 47] مع أن الكافر ظالم و لا تنافي بين الكلامين و فيه فائدة، و هي أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد فتكونوا كافرين، فلفظ الكافر هناك كان بليغا يمنعهم من ذلك لاستنكافهم عن الكفر، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم إن جحدتم هذه الآية لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلتحقون في أول الأمر بالمشركين حكما، و تلتحقون عند هذه الآية بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين، أي مشركين، كما بينا أن الشرك ظلم عظيم، فهذا اللفظ هاهنا أبلغ و ذلك اللفظ هناك أبلغ. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29): آية 50]
مفاتيح الغيب، ج25، ص: 65
لما فرغ من ذكر دليل من جانب النبي عليه السلام ذكر شبهتهم و هي بذكر الفرق بين المقيس عليه و المقيس، فقالوا إنك تقول إنه أنزل إليك كتاب كما أنزل إلى موسى و عيسى، و ليس كذلك لأن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند اللّه و أنت ما أوتيت شيئا منها، ثم إن اللّه تعالى أرشد نبيه إلى أجوبة هذه الشبهة منها قوله: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ و وجهه أن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم ادعى الرسالة و ليس من شرط الرسالة الآية المعجزة، لأن الرسول يرسل أولا و يدعو إلى اللّه، ثم إن توقف الخلق في قبوله أو طلبوا منه دليلا، فالله إن رحمهم بين رسالته و إن لم يرحمهم لا يبين، فقال أنا الساعة رسول و أما الآية فالله إن أراد ينزلها و إن لم يرد لا ينزلها و هذا لأن ما هو من ضرورات الشيء إذا خلق اللّه الشيء لا بد من أن يخلقها كالمكان من ضرورات الإنسان فلا يخلق اللّه إنسانا إلا و يكون قد خلق مكانا أو يخلقه معه، لكن الرسالة و المعجزة ليستا كذلك فالله إذا خلق رسولا و جعله رسولا ليس من ضروراته أن تعلم له معجزة، و لهذا علم وجود رسل كشيث و إدريس و شعيب و لم تعلم لهم معجزة فإن قيل علم رسالتهم، نقول من ثبتت رسالته بلا معجزة فنبينا كذلك لا حاجة له إلى معجزة لأن رسالته علمت بقول موسى و عيسى فتبين بطلان قولهم لم لم ينزل عليه آية؟ و هذا لأنهم طلبوا سبق الآية و ليست شرطا حتى تسبقها، بلى إن كان لهم سؤال فطريقه أن يقولوا يا أيها المدعي نحن لا نكذبك و لا نصدقك لكنا نريد أن يبين اللّه لنا آية تخلصنا من تصديق المتنبي و تكذيب النبي و نعلم بها كونك نبيا و نؤمن بك، فبعد ذلك ما كان يبعد من رحمة اللّه أن ينزل آية.
ثم قوله: وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ معناه أن الآية عند اللّه ينزلها أو لا ينزلها لا تتعلق بي ما أنا إلا نذير و ليس لي عليه حكم بشيء ثم إنه بعد بيان فساد شبهتهم من وجه بين فسادها من وجه آخر، و قال هب أن إنزال الآية شرط لكنه وجد و هو في نفس الكتاب.
[سورة العنكبوت (29): الآيات 51 الى 52]