کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 538
دالتان على كمال الرحمة، فالتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين لا بد و أن يكون دالا على أعظم وجوه النعمة، و الأمر في نفسه كذلك، لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى و الزمنى و المحتاجين، و القرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية و على كل ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان أعظم النعم عند اللّه تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليهم و ثالثها: كونه كتابا و قد بينا أن هذا الاسم مشتق من الجمع و إنما سمي كتابا لأنه جمع فيه علوم الأولين و الآخرين و رابعها: قوله فُصِّلَتْ آياتُهُ و المراد أنه فرقت آياته و جعلت تفاصيل في معان مختلفة فبعضها في وصف ذات اللّه تعالى و شرح صفات التنزيه و التقديس و شرح كمال علمه و قدرته و رحمته و حكمته و عجائب أحوال خلقه السموات و الأرض و الكواكب و تعاقب الليل و النهار و عجائب أحوال النبات و الحيوان و الإنسان، و بعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلوب و نحو الجوارح، و بعضها في الوعد و الوعيد و الثواب و العقاب درجات أهل الجنة و درجات أهل النار، و بعضها في المواعظ و النصائح و بعضها في تهذيب الأخلاق و رياضة النفس، و بعضها في قصص الأولين و تواريخ الماضين، و بالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة و المباحث المتباينة مثل ما في القرآن و خامسها: قوله قُرْآناً و الوجه في تسميته قرآنا قد سبق و قوله تعالى: قُرْآناً نصب على الاختصاص و المدح أي أريد بهذا الكتاب المفصل قرآنا من صفته كيت و كيت، و قيل هو نصب على الحال و سادسها: قوله عَرَبِيًّا و المعنى أن هذا القرآن إنما نزل بلغة العرب و تأكد هذا بقوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] و سابعها: قوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و المعنى إنا جعلناه عربيا لأجل أنا أنزلناه على قوم عرب فجعلناه بلغة العرب ليفهموا منه المراد، فإن قيل قوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ متعلق بما ذا؟ قلنا يجوز أن يتعلق بقوله تَنْزِيلٌ أو بقوله فُصِّلَتْ أي تنزيل من اللّه لأجلهم أو فصلت آياته لأجلهم، و الأجود أن يكون صفة مثل ما قبله و ما بعده، أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب، لئلا يفرق بين الصلات و الصفات و ثامنها و تاسعها: قوله بَشِيراً وَ نَذِيراً يعني بشيرا للمطيعين بالثواب و نذيرا للمجرمين/ بالعقاب، و الحق أن القرآن بشارة و نذارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملا في هذه الصفة، كما يقال شعر شاعر و كلام قائل.
الصفة العاشرة: كونهم معرضين عنه لا يسمعون و لا يلتفتون إليه، فهذه هي الصفات العشرة التي وصف اللّه القرآن بها، و يتفرع عليها مسائل:
المسألة الأولى: القائلون بخلق القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول: أنه وصف القرآن بكونه تنزيلا و منزلا و المنزل و التنزيل مشعر بالتصيير من حال، فوجب أن يكون مخلوقا الثاني: أن التنزيل مصدر و المصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين الثالث: المراد بالكتاب إما الكتاب و هو المصدر الذي هو المفعول المطلق أو المكتوب الذي هو المفعول الرابع: أن قوله فُصِّلَتْ يدل على أن متصرفا يتصرف فيه بالتفصيل و التمييز، و ذلك لا يليق بالقديم الخامس: أنه إنما سمي قرآنا لأنه قرن بعض أجزائه بالبعض و ذلك يدل على كونه مفعول فاعل و مجعول جاعل السادس: وصفه بكونه عربيا، و إنما صحت هذه النسبة لأجل أن هذه الألفاظ إنما دخلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب و اصطلاحاتهم، و ما جعل بجعل جاعل و فعل فاعل فلا بدّ و أن يكون محدثا و مخلوقا الجواب: أن كل هذه الوجوه التي ذكرتموها عائدة إلى اللغات و إلى الحروف و الكلمات، و هي عندنا محدثة مخلوقة، إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر سوى هذه الألفاظ و اللّه أعلم.
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 539
المسألة الثانية: ذهب أكثر المتكلمين إلى أنه يجب على المكلف تنزيل ألفاظ القرآن على المعاني التي هي موضوعة لها بحسب اللغة العربية، فأما حملها على معان أخر لا بهذا الطريق فهذا باطل قطعا، و ذلك مثل الوجوه التي يذكرها أهل الباطن، مثل أنهم تارة يحملون الحروف على حساب الجمل و تارة يحملون كل حرف على شيء آخر، و للصوفية طرق كثيرة في الباب و يسمونها علم المكاشفة و الذي يدل على فساد تلك الوجوه بأسرها قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا و إنما سماه عربيا لكونه دالا على هذه المعاني المخصوصة بوضع العرب و باصطلاحاتهم، و ذلك يدل على أن دلالة هذه الألفاظ لم تحصل إلا على تلك المعاني المخصوصة، و أن ما سواه فهو باطل.
المسألة الثالثة: ذهب قوم إلى أنه حصل في القرآن من سائر اللغات كقوله إِسْتَبْرَقٍ* [الكهف: 31] و سِجِّيلٍ* [هود: 82] فإنهما فارسيان، و قوله كَمِشْكاةٍ [النور: 35] فإنها من لغة الحبشة و قوله بِالْقِسْطاسِ* [الإسراء: 35] فإنه من لغة الروم و الذي يدل على فساد هذا المذهب قوله قُرْآناً عَرَبِيًّا ، و قوله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4].
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة لفظ الإيمان و الكفر و الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج ألفاظ شرعية لا لغوية، و المعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مسمياتها اللغوية الأصلية إلى مسميات أخرى، و عندنا أن هذا باطل، و ليس للشرع تصرف في هذه الألفاظ عن مسمياتها إلا/ من وجه واحد، و هو أنه خصص هذه الأسماء بنوع واحد من أنواع مسمياتها مثلا، الإيمان عبارة عن التصديق فخصصه الشرع بنوع معين من التصديق، و الصلاة عبارة عن الدعاء فخصصه الشرع بنوع معين من الدعاء، كذا القول في البواقي و دليلنا على صحة مذهبنا قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا ، و قوله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ .
المسألة الخامسة: إنما وصف اللّه القرآن بكونه عَرَبِيًّا في معرض المدح و التعظيم و هذا المطلوب لا يتم إلا إذا ثبت أن لغة العرب أفضل اللغات.
و اعلم أن هذا المقصود إنما يتم إذا ضبطنا أقسام فضائل اللغات بضابط معلوم، ثم بينا أن تلك الأقسام حاصلة فيه لا في غيره، فنقول لا شك أن الكلام مركب من الكلمات المفردة، و هي مركبة من الحروف، فالكلمة لها مادة و هي الحروف، و لها صورة و هي تلك الهيئة المعينة الحاصلة عند التركيب. فهذه الفضيلة إنما تحصل إما بحسب مادتها أو بحسب صورتها، أما التي بحسب مادتها فهي آحاد الحروف، و اعلم أن الحروف على قسمين بعضها بينة المخارج ظاهرة المقاطع و بعضها خفية المخارج مشتبهة المقاطع، و حروف العرب بأسرها ظاهرة المخارج بينة المقاطع، و لا يشتبه شيء منها بالآخر. و أما الحروف المستعملة في سائر اللغات فليست كذلك بل قد يحصل فيها حرف يشتبه بعضها بالبعض، و ذلك يخل بكمال الفصاحة، و أيضا الحركات المستعملة في سائر لغة العرب حركات ظاهرة جلية و هي النصب و الرفع و الجر، و كل واحد من هذه الثلاثة فإنه يمتاز عن غيره امتيازا ظاهرا جليا، و أما الإشمام و الروم فيقل حصولهما في لغات العرب، و ذلك أيضا من جنس ما يوجب الفصاحة، و أما الكلمات الحاصلة بحسب التركيب فهي أنواع:
أحدها: أن الحروف على قسمين متقاربة المخرج و متباعدة المخرج، و أيضا الحروف على قسمين منها
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 540
صلبة و منها رخوة، فيحصل من هذا التقسيم أقسام أربعة الصلبة المتقاربة، و الرخوة المتقاربة، و الصلبة المتباعدة، و الرخوة المتباعدة، فإذا توالى في الكلمة حرفان صلبان متقاربان صعب اللفظ بها، لأن بسبب تقارب المخرج يصير التلفظ بها جاريا مجرى ما إذا كان الإنسان مقيدا ثم يمشي، و بسبب صلابة تلك الحروف تتوارد الأعمال الشاقة القوية على الموضع الواحد من المخرج، و توالي الأعمال الشاقة يوجب الضعف و الإعياء، و مثل هذا التركيب في اللغة العربية قليل و ثانيها: أن جنس بعض الحروف ألذ و أطيب في السمع، و كل كلمة يحصل فيها حرف من هذا الجنس كان سماعها أطيب و ثالثها: الوزن فنقول: الكلمة إما أن تكون ثنائية أو ثلاثية أو رباعية، و أعدلها هو الثلاثي لأن الصوت إنما يتولد بسبب الحركة، و الحركة لا بد لها من مبدأ و وسط و منتهى، فهذه ثلاث مراتب، فالكلمة لا بد و أن يحصل فيها هذه المراتب الثلاثة حتى تكون تامة، أما الثنائية فهي ناقصة و أما الرباعية فهي زائدة، و الغائب في كلام العرب الثلاثيات، فثبت بما ذكرنا ضبط فضائل اللغات، و الاستقراء يدل على أن لغة العرب موصوفة بها، و أما سائر اللغات فليست كذلك، و اللّه أعلم.
المسألة السادسة: قوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني إنما جعلناه عَرَبِيًّا لأجل أن يعلموا المراد منه، و القائلون بأن أفعال اللّه معللة بالمصالح و الحكم، تمسكوا بهذه الآية و قالوا إنها تدل على أنه إنما جعله عَرَبِيًّا لهذه الحكمة، فهذا يدل على أن تعليل أفعال اللّه تعالى و أحكامه جائز.
المسألة السابعة: قال قوم القرآن كله غير معلوم بل فيه ما يعلم، و فيه ما لا يعلم، و قال المتكلمون لا يجوز أن يحصل فيه شيء غير معلوم، و الدليل عليه قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني إنما جعلناه عربيا ليصير معلوما، و القول بأنه غير معلوم يقدح فيه.
المسألة الثامنة: قوله تعالى: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ يدل على أن الهادي من هداه اللّه و أن الضال من أضله اللّه و تقريره أن الصفات التسعة المذكورة للقرآن توجب قوة الاهتمام بمعرفته و بالوقوف على معانيه، لأنا بينا أن كونه نازلا من عند الإله الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع و أجل المطالب، و كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا مفصلا يدل على أنه في غاية الكشف و البيان، و كونه بَشِيراً وَ نَذِيراً يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات، لأن سعي الإنسان في معرفة ما يوصله إلى الثواب أو إلى العقاب من أهم المهمات، و قد حصلت هذه الموجبات الثلاثة في تأكيد الرغبة في فهم القرآن و في شدة الميل إلى الإحاطة به، ثم مع ذلك فقد أعرضوا عنه و لم يلتفتوا إليه و نبذوه وراء ظهورهم، و ذلك يدل على أنه لا مهدي إلا من هداه اللّه، و لا ضال إلا من أضله اللّه.
و اعلم أنه تعالى لما وصف القرآن بأنهم أعرضوا عنه و لا يسمعونه، بيّن أنهم صرحوا بهذه النفرة و المباعدة و ذكروا ثلاثة أشياء أحدها: أنهم قالوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ و أكنة جمع كنان كأغطية جمع غطاء، و الكنان هو الذي يجعل فيه السهام و ثانيها: قولهم وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم و ثقل يمنع من استماع قولك و ثالثها: قولهم وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ و الحجاب هو الذي يمنع من الرؤية و الفائدة في كلمة (من) في قوله وَ مِنْ بَيْنِنا أنه لو قيل: و بيننا و بينك حجاب، لكان المعنى أن حجابا حصل وسط الجهتين، و أما بزيادة لفظ (من) كأن المعنى أن الحجاب ابتدأ منا و ابتدأ منك، فالمسافة الحاصلة بيننا و بينك مستوعبة
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 541
بالحجاب، و ما بقي جزء منها فارغا عن هذا الحجاب فكانت هذه اللفظة دالة على قوة هذا الحجاب، هكذا ذكره صاحب «الكشاف» و هو في غاية الحسن.
و اعلم أنه إنما وقع الاقتصار على هذه الأعضاء الثلاثة، و ذلك لأن القلب محل المعرفة و سلطان البدن و السمع و البصر هما الآلتان المعينتان لتحصيل المعارف، فلما بيّن أن هذه الثلاثة محجوبة كان ذلك أقصى ما يمكن في هذا الباب.
و اعلم أنه إذا تأكدت النفرة عن الشيء صارت تلك النفرة في القلب فإذا سمع منه كلاما لم يفهم معناه كما ينبغي، و إذا رآه لم تصر تلك الرؤية سببا للوقوف على دقائق أحوالك ذلك/ المرئي، و ذلك المدرك و الشاعر هو النفس، و شدة نفرة النفس عن الشيء تمنعها من التدبر و الوقوف على دقائق ذلك الشيء، فإذا كان الأمر كذلك كان قولهم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ استعارات كاملة في إفادة المعنى المراد، فإن قيل إنه تعالى حكى هذا المعنى عن الكفار في معرض الذم، و ذكر أيضا ما يقرب منه في معرض الذم فقال: وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة: 88].
ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معرض التقرير و الإثبات في سورة الأنعام فقال: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً* [الأنعام: 25] فكيف الجمع بينهما؟ قلنا إنه لم يقل هاهنا أنهم كذبوا في ذلك إنما الذي ذمهم عليه أنهم قالوا: إنا إذا كنا كذلك لم يجز تكليفنا و توجيه الأمر و النهي علينا، و هذا الثاني باطل، أما الأول فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه.
و اعلم أنهم لما وصفوا أنفسهم بهذه الصفات الثلاثة قالوا فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ و المراد فاعمل على دينك إننا عاملون على ديننا، و يجوز أن يكون المراد فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك، و الحاصل عندنا أن القوم ما كذبوا في قولهم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ بل إنما أتوا بالكفر و الكلام الباطل في قولهم فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ .
و لما حكى اللّه عنهم هذه الشبهة أمر محمدا صلى اللّه عليه و سلّم أن يجيب عن هذه الشبهة بقوله قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ و بيان هذا الجواب كأنه يقول إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرا و قهرا فإني بشر مثلكم و لا امتياز بيني و بينكم إلا بمجرد أن اللّه عزّ و جلّ أوحى إلي و ما أوحى إليكم فأنا أبلغ هذا الوحي إليكم، ثم بعد ذلك إن شرفكم اللّه بالتوحيد و التوفيق قبلتموه، و إن خذلكم بالحرمان رددتموه، و ذلك لا يتعلق بنبوتي و رسالتي، ثم بيّن أن خلاصة ذلك الوحي ترجع إلى أمرين: العلم و العمل، أما العلم فالرأس و الرئيس فيه معرفة التوحيد، ذلك لأن الحق هو أن اللّه واحد و هو المراد من قوله أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و إذا كان الحق في نفس الأمر ذلك وجب علينا أن نعترف به، و هو المراد من قوله فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ و نظيره قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] و قوله إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا* [فصلت: 30] و قوله تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] و في قوله تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وجهان الأول: فاستقيموا متوجهين إليه الثاني: أن يكون قوله فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ معناه فاستقيموا له لأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض.
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 542
و اعلم أن التكليف له ركنان أحدهما: الاعتقاد و الرأس و الرئيس فيه اعتقاد التوحيد، فلما أمر بذلك انتقل إلى وظيفة العمل و الرأس و الرئيس فيه الاستغفار، فلهذا السبب قال: وَ اسْتَغْفِرُوهُ / فإن قيل المقصود من الاستغفار و التوبة إزالة ما لا ينبغي و ذلك مقدم على فعل ما ينبغي، فلم عكس هذا الترتيب هاهنا و قدم ما ينبغي على إزالة ما لا ينبغي؟ قلنا ليس المراد من هذا الاستغفار الاستغفار عن الكفر، بل المراد منه أن يعمل ثم يستغفر بعده لأجل الخوف من وقوع التقصير في العمل الذي أتى به كما
قال صلى اللّه عليه و سلّم: «و إنه ليغان على قلبي و إني لأستغفر اللّه في اليوم و الليلة سبعين مرة»
و لما رغب اللّه تعالى في الخير و الطاعة أمر بالتحذير عما لا ينبغي، فقال: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ و في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: وجه النظم في هذه الآية من وجوه الأول: أن العقول و الشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادات مربوطة بأمرين التعظيم لأمر اللّه و الشفقة على خلق اللّه، و ذلك لأن الموجودات، إما الخالق و إما الخلق، فأما الخالق فكمال السعادة في المعاملة معه أن يقر بكونه موصوفا بصفات الجلال و العظمة، ثم يأتي بأفعال دالة على كونه في نهاية العظمة في اعتقادنا و هذا هو المراد من التعظيم لأمر اللّه، و أما الخلق فكمال السعادة في المعاملة معهم أن يسعى في دفع الشر عنهم و في إيصال الخير إليهم، و ذلك هو المراد من الشفقة على خلق اللّه، فثبت أن أعظم الطاعات التعظيم لأمر اللّه، و أفضل أبواب التعظيم لأمر اللّه الإقرار بكونه واحدا و إذا كان التوحيد أعلى المراتب و أشرفها كان ضده و هو الشرك أخس المراتب و أرذلها، و لما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق هو إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال، لأنه ضد الشفقة على خلق اللّه، إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفا بصفات ثلاثة أولها: أن يكون مشركا و هو ضد التوحيد. و إليه الإشارة بقوله وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ و ثانيها: كونه ممتنعا من الزكاة و هو ضد الشفقة على خلق اللّه، و إليه الإشارة بقوله الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ و ثالثها: كونه منكرا للقيامة مستغرقا في طلب الدنيا و لذاتها، و إليه الإشارة بقوله وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ و تمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام: الأمس و اليوم و الغد. أما معرفة أنه كيف كانت أحوال الأمس في الأزل فهو بمعرفة اللّه تعالى الأزلي الخالق لهذا العالم. و أما معرفة أنه كيف ينبغي وقوع الأحوال في اليوم الحاضر فهو بالإحسان إلى أهل العالم بقدر الطاقة، و أما معرفة الأحوال في اليوم المستقبل فهو الإقرار بالبعث و القيامة، و إذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل و الضلال، فلهذا حكم اللّه عليه بالويل، فقال:
وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ و هذا ترتيب في غاية الحسن، و اللّه أعلم الوجه الثاني: في تقرير كيفية النظم أن يقال المراد بقوله لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي لا يزكون أنفسهم من لوث الشرك بقولهم: لا إله إلا اللّه، و هو مأخوذ من قوله تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها [الشمس: 7] الثالث: قال الفراء: إن قريشا كانت تطعم الحاج، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى اللّه عليه و سلّم.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا في إثبات أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام بهذه الآية، فقالوا إنه تعالى ألحق الوعيد الشديد بناء على أمرين أحدهما: كونه مشركا و الثاني: أنه لا يؤتي الزكاة، فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الأمرين تأثير في حصول ذلك الوعيد، و ذلك يدل على أن لعدم إيتاء الزكاة من المشرك تأثيرا عظيما في زيادة الوعيد، و ذلك هو المطلوب.
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 543
المسألة الثالثة: احتج بعضهم على أن الامتناع من إيتاء الزكاة يوجب الكفر، فقال إنه تعالى لما ذكر هذه الصفة ذكر قبلها ما يوجب الكفر، و هو قوله وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ و ذكر أيضا بعدها ما يوجب الكفر، و هو قوله وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فلو لم يكن عدم إيتاء الزكاة كفرا لكان ذكره فيما بين الصفتين الموجبتين للكفر قبيحا، لأن الكلام إنما يكون فصيحا إذا كانت المناسبة مرعية بين أجزائه، ثم أكدوا ذلك بأن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه حكم بكفر مانعي الزكاة و الجواب: لما ثبت بالدليل أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب و الإقرار باللسان و هما حاصلان عند عدم إيتاء الزكاة، فلم يلزم حصول الكفر بسبب عدم إيتاء الزكاة، و اللّه أعلم.
ثم إنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أردفه بوعد المؤمنين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع، من قولك مننت الحبل، أي قطعته، و منه قولهم قد منه السفر، أي قطعه، و قيل لا يمن عليهم، لأنه تعالى لما سماه أجرا، فإذا الأجر لا يوجب المنّة، و قيل نزلت في المرضى و الزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملون.
[سورة فصلت (41): الآيات 9 الى 12]
[في قوله تعالى قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ] اعلم أنه تعالى لما أمر محمدا صلى اللّه عليه و سلّم في الآية الأولى أن يقول إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف: 110] فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ [فصلت: 6] أردفه بما يدل على أنه لا يجوز إثبات الشركة بينه تعالى و بين هذه الأصنام في الإلهية و المعبودية، و ذلك بأن بيّن كمال قدرته و حكمته في خلق السموات و الأرض في مدة قليلة، فمن هذا صفته كيف يجوز جعل الأصنام الخسيسة شركاء له في الإلهية و المعبودية؟
فهذا تقرير النظم، و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير: أينكم لتكفرون بهمزة و ياء بعدها خفيفة ساكنة بلا مد، و أما نافع في رواية قالون و أبوا عمرو فعلى هذه الصورة، إلا أنهما يمدان، و الباقون همزتين بلا مد.
المسألة الثانية: قوله تعالى: أَ إِنَّكُمْ استفهام بمعنى الإنكار، و قد ذكر عنهم شيئين منكرين أحدهما:
الكفر باللّه. و هو قوله لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ و ثانيهما: إثبات الشركاء و الأنداد له، و يجب أن يكون الكفر المذكور أولا مغايرا لإثبات الأنداد له، ضرورة أن عطف أحدهما على لآخر يوجب التغاير، و الأظهر أن المراد من كفرهم وجوه الأول: قولهم إن اللّه تعالى لا يقدر على حشر الموتى، فلما نازعوا في ثبوت هذه القدرة فقد كفروا باللّه الثاني: أنهم كانوا ينازعون في صحة التكليف، و في بعثة الأنبياء، و كل ذلك قدح في الصفات المعتبرة في الإلهية، و هو كفر باللّه الثالث: أنهم كانوا يضيفون إليه الأولاد، و ذلك أيضا قدح
مفاتيح الغيب، ج27، ص: 544
في الإلهية و هو يوجب الكفر باللّه، فالحاصل أنهم كفروا باللّه لأجل قولهم بهذه الأشياء، و أثبتوا الأنداد أيضا للّه لأجل قولهم بإلهية تلك الأصنام، و احتج تعالى على فساد قولهم بالتأثير فقال كيف يجوز الكفر باللّه، و كيف يجوز جعل هذه الأصنام الخسيسة أندادا للّه تعالى، مع أنه تعالى هو الذي خلق الأرض في يومين، و تمم بقية مصالحها في يومين آخرين و خلق السموات بأسرها في يومين آخرين؟ فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة، كيف يعقل الكفر به و إنكار قدرته على الحشر و النشر، و كيف يعقل إنكار قدرته على التكليف و على بعثة الأنبياء، و كيف يعقل جعل هذه الأصنام الخسيسة أندادا له في المعبودية و الإلهية، فإن قيل من استدل بشيء على إثبات شيء، فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلما عند الخصم حتى يصح الاستدلال به، و كونه تعالى خالقا للأرض في يومين أمر لا يمكن إثباته بالعقل المحض، و إنما يمكن إثباته بالسمع و وحي/ الأنبياء، و الكفار كانوا منازعين في الوحي و النبوّة، فلا يعقل تقرير هذه المقدمة عليهم، و إذا امتنع تقرير هذه المقدمة عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم، قلنا إثبات كون السموات و الأرض مخلوقة بطريق العمل ممكن، فإذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم، و حينئذ يقال للكافرين فكيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة و بين الصنم الذي هو جماد لا يضر و لا ينفع في المعبودية و الإلهية؟ بقي أن يقال: فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه تعالى خالقا للأرض في يومين أثر، فنقول هذا أيضا له أثر في هذا الباب، و ذلك لأن أول التوراة مشتمل على هذا المعنى، فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب، فكفار مكة كانوا يعتقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم و الحقائق، و الظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني و اعتقدوا في كونها حقة، و إذا كان الأمر كذلك فحينئذ يحسن أن يقال لهم أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق هذه الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور و الحجر المنحوت شريكا له في المعبودية و الإلهية؟ فظهر بما قررنا أن هذا الاستدلال قوي حسن.