کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج28، ص: 17
[المزمل: 20] فبعض هذه الأقسام قريب من بعض فكذا هاهنا، و قال الزجاج الأولى حمله على ثلاث و ثلاثين سنة لأن هذا الوقت الذي يكمل فيه بدن الإنسان، و أقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن يقال إن مراتب سن الحيوان ثلاثة، و ذلك لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية و حرارة غريزية، و لا شك أن الرطوبة الغريزية غالبة في أول العمر و ناقصة في آخر العمر، و الانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدتين، فثبت أن مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام أولها: أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية و حينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدد في ذواتها و للزيادة بحسب الطول و العرض و العمق و هذا هو سن النشوء و النماء.
و المرتبة الثانية: و هي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافية بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة و لا نقصان و هذا هو سن الوقوف و هو سن الشباب.
و المرتبة الثالثة: و هي المرتبة الأخيرة أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية ثم هذا النقصان على قسمين فالأول: هو النقصان الخفي و هو سن الكهولة و الثاني: هو النقصان الظاهر و هو سن الشيخوخة، فهذا ضبط معلوم. ثم هاهنا مقدمة أخرى و هي أن دور القمر إنما يكمل في مدة ثمانية و عشرين يوما و شيء، فإذا قسمنا هذه المدة بأربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة فلهذا السبب قدروا الشهر بالأسابيع الأربعة، و لهذه الأسابيع تأثيرات عظيمة في اختلاف أحوال هذا العالم، إذا عرفت هذا فنقول إن المحققين من أصحاب التجارب قسموا مدة سن النماء و النشوء إلى أربعة أسابيع و يحصل للآدمي بحسب انتهاء كل سابوع من هذه السوابيع الأربعة نوع من التغير يؤدي إلى كماله أما عند تمام السوابيع الأول من العمر فتصلب أعضاءه بعض الصلابة، و تقوى أفعاله أيضا بعض القوة، و تتبدل أسنانه الضعيفة الواهية بأسنان قوية و تكون قوة الشهوة في هذا السابوع أقوى في الهضم مما كان قبل ذلك، و أما في نهاية السابوع الثاني فتقوى الحرارة و تقل الرطوبات و تتسع المجاري و تقوى قوة الهضم و تقوى الأعضاء و تصلب قوة و صلابة كافية و يتولد فيه مادة الزرع، و عند هذا يحكم الشرع عليه بالبلوغ على قول الشافعي رضي اللّه عنه، و هذا هو الحق الذي لا محيد عنه، لأن هذا الوقت لما قويت الحرارة الغريزية قلت الرطوبات و اعتدل الدماغ فتكمل القوى النفسانية التي هي الفكر و الذكر، فلا جرم يحكم عليه بكمال العقل، فلا جرم حكمت الشريعة بالبلوغ و توجه التكاليف الشرعية فما أحسن قول من ضبط البلوغ الشرعي بخمس عشرة سنة.
و اعلم أنه يتفرع على حصول هذه الحالة أحوال في ظاهر البدن أحدها: انفراق طرف الأرنبة لأن الرطوبة الغريزية التي هناك تنتقص فيظهر الانفراق و ثانيها: نتوء الحنجرة و غلظ الصوت لأن الحرارة التي تنهض في ذلك الوقت توسع الحنجرة فتنتوء و يغلظ الصوت و ثالثها: تغير ريح الإبط و هي الفضلة العفينة التي يدفعها القلب إلى ذلك الموضع و ذلك لأن القلب لما قويت حرارته، لا جرم قويت على إنضاج المادة، و دفعها إلى اللحم الغددي الرخو الذي في الإبط و رابعها: نبات الشعر و حصول الاحتلام، و كل ذلك لأن الحرارة قويت فقدرت على توليد الأبخرة المولدة للشعر و على توليد مادة الزرع، و في هذا الوقت تتحرك الشهوة في الصبايا و ينهد ثديهن و ينزل حيضهن و كل ذلك بسبب أن الحرارة الغريزية التي فيهن قويت في آخر هذا السابوع، و أما في السابوع الثالث فيدخل في حد الكمال و ينبت للذكر اللحية و يزداد حسنه و كماله، و أما في السابوع الرابع فلا
مفاتيح الغيب، ج28، ص: 18
تزال هذه الأحوال فيه متكاملة متزايدة، و عند انتهاء السابوع الرابع نهاية أن لا يظهر الازدياد، أما مدة سن الشباب و هي مدة الوقوف السابوع واحد فيكون المجموع خمسة و ثلاثين سنة. و لما كانت هذه المدة إما قد تزداد، و إما قد تنقص بحسب الأمزجة جعل الغاية فيه مدة أربعين سنة. و هذا هو السن الذي يحصل فيه الكمال اللائق بالإنسان شرعا و طبا، فإن في هذا الوقت تسكن أفعال القوى الطبيعية بعض السكون و تنتهي له أفعال القوة الحيوانية غايتها، و تبتدئ أفعال القوة النفسانية بالقوة و الكمال، و إذا عرفت هذه المقدمة ظهر لك أن بلوغ الإنسان وقت الأشد شيء و بلوغه إلى الأربعين شيء آخر، فإن بلوغه إلى وقت الأشد عبارة عن الوصول إلى آخر سن النشوء و النماء، و أن بلوغه إلى الأربعين عبارة عن الوصول إلى آخر مدة الشباب، و من ذلك الوقت تأخذ القوى الطبيعية و الحيوانية في الانتقاص، و تأخذ القوة العقلية و النطقية في الاستكمال و هذا أحد ما يدل على أن النفس غير البدن، فإن البدن عند الأربعين يأخذ في الانتقاص، و النفس من وقت الأربعين تأخذ في الاستكمال، و لو كانت النفس عين البدن لحصل للشيء الواحد في الوقت الواحد الكمال و النقصان و ذلك محال، و هذا الكلام الذي ذكرناه و لخصناه مذكور في صريح لفظ القرآن، لأنا بينا أن عند الأربعين تنتهي الكمالات الحاصلة بسبب القوى الطبيعية و الحيوانية، و أما الكمالات الحاصلة بحسب القوى النطقية و العقلية فإنها تبتدئ بالاستكمال، و الدليل عليه قوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَ فهذا يدل على أن توجه الإنسان إلى عالم العبودية و الاشتغال بطاعة اللّه إنما يحصل من هذا الوقت، و هذا تصريح بأن القوة النفسانية العقلية النطقية إنما تبتدئ بالاستكمال من هذا الوقت فسبحان من أودع في هذا الكتاب الكريم هذه الأسرار الشريفة المقدسة، قال المفسرون لم يبعث نبي قط إلا بعد أربعين سنة، و أقول هذا مشكل بعيسى عليه السلام فإن اللّه جعله نبيا من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال/ الأغلب أنه ما جاءه الوحي إلا بعد الأربعين، و هكذا كان الأمر في حق رسولنا صلى اللّه عليه و سلم و يروى أن عمر بن عبد العزيز لما بلغ أربعين سنة كان يقول: اللّهم أوزعني أن أشكر نعمتك إليّ تمام الدعاء، و
روي أنه جاء جبريل إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال: «يؤمر الحافظان أن ارفقا بعبدي من حداثة سنه، حتى إذا بلغ الأربعين قيل احفظا و حققا» فكان راوي هذا الحديث إذا ذكر هذا الحديث بكى حتى تبتل لحيته رواه القاضي في «التفسير».
المسألة الثانية: اعلم أن قوله حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يدل على أن الإنسان كالمحتاج إلى مراعاة الوالدين له إلى قريب من هذه المدة، و ذلك لأن العقل كالناقص، فلا بد له من رعاية الأبوين على رعاية المصالح و دفع الآفات، و فيه تنبيه على أن نعم الوالدين على الولد بعد دخوله في الوجود تمتد إلى هذه المدة الطويلة، و ذلك يدل على أن نعم الوالدين كأنه يخرج عن وسع الإنسان مكافأتهما إلا بالدعاء و الذكر الجميل.
المسألة الثالثة: حكى الواحدي عن ابن عباس و قوم كثير من متأخري المفسرين و متقدميهم أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، قالوا و الدليل عليه أن اللّه تعالى قد وقت الحمل و الفصال هاهنا بمقدار يعلم أنه قد ينقص و قد يزيد عنه بسبب اختلاف الناس في هذه الأحوال فوجب أن يكون المقصود منه شخصا واحدا حتى يقال إن هذا التقدير إخبار عن حاله فيمكن أن يكون أبو بكر كان حمله و فصاله هذا القدر.
ثم قال تعالى في صفة ذلك الإنسان حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَ و معلوم أنه ليس كل إنسان يقول هذا القول، فوجب أن يكون المراد من
مفاتيح الغيب، ج28، ص: 19
هذه الآية إنسانا معينا قال هذا القول، و أما أبو بكر فقد قال هذا القول في قريب من هذا السن، لأنه كان أقل سنا من النبي صلى اللّه عليه و سلم بسنتين و شيء، و النبي صلى اللّه عليه و سلم بعث عند الأربعين و كان أبو بكر قريبا من الأربعين و هو قد صدق النبي صلى اللّه عليه و سلم و آمن به، فثبت بما ذكرناه أن هذه الآيات صالحة لأن يكون المراد منها أبو بكر، و إذا ثبت القول بهذه الصلاحية فنقول: ندعي أنه هو المراد من هذه الآية، و يدل عليه أنه تعالى قال في آخر هذه الآية أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ و هذا يدل على أن المراد من هذه الآية أفضل الخلق لأن الذي يتقبل اللّه عنه أحسن أعماله و يتجاوز عن كل سيئاته يجب أن يكون من أفاضل الخلق و أكابرهم، و أجمعت الأمة على أن أفضل الخلق بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إما أبو بكر و إما علي، و لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه لأن هذه الآية إنما تليق بمن أتى بهذه الكلمة عند بلوغ الأشد و عند القرب من الأربعين، و علي بن أبي طالب ما كان كذلك لأنه إنما آمن في زمان الصبا أو عند القرب من الصبا، فثبت أن المراد من هذه الآية هو أبو بكر و اللّه أعلم.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: أَوْزِعْنِي قال ابن عباس معناه ألهمني، قال صاحب «الصحاح» أوزعته بالشيء أغريته به فأوزع به فهو موزع به أي مغرى به، و استوزعت اللّه شكره، فأوزعني أي استلهمته فألهمني.
المسألة الخامسة: اعلم أنه تعالى حكى عن هذا الداعي أنه طلب من اللّه تعالى ثلاثة أشياء: أحدها: أن يوفقه اللّه للشكر على نعمه و الثاني: أن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عند اللّه الثالث: أن يصلح له في ذريته، و في ترتيب هذه الأشياء الثلاثة على الوجه المذكور وجهان: الأول: أنا بينا أن مراتب السعادات ثلاثة أكملها النفسانية و أوسطها البدنية و أدونها الخارجية و السعادات النفسانية هي اشتغال القلب بشكر آلاء اللّه و نعمائه، و السعادات البدنية هي اشتغال البدن بالطاعة و الخدمة، و السعادات الخارجية هي سعادة الأهل و الولد، فلما كانت المراتب محصورة في هذه الثلاثة لا جرم رتبها اللّه تعالى على هذا الوجه.
و السبب الثاني: لرعاية هذا الترتيب أنه تعالى قدم الشكر على العمل، لأن الشكر من أعمال القلوب، و العمل من أعمال الجوارح، و عمل القلب أشرف من عمل الجارحة، و أيضا المقصود من الأعمال الظاهرة أحوال القلب قال تعالى: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] بين أن الصلاة مطلوبة لأجل أنها تفيد الذكر، فثبت أن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح، و الأشرف يجب تقديمه في الذكر، و أيضا الاشتغال بالشكر اشتغال بقضاء حقوق النعم الماضية، و الاشتغال بالطاعة الظاهرة اشتغال بطلب النعم المستقبلة، و قضاء الحقوق الماضية يجري مجرى قضاء الدين، و طلب المنافع المستقبلة طلب للزوائد. و معلوم أن قضاء الدين مقدم على سائر المهمات، فلهذا السبب قدم الشكر على سائر الطاعات، و أيضا أنه قدم طلب التوفيق على الشكر، و طلب التوفيق على الطاعة على طلب أن يصلح له ذريته، و ذلك لأن المطلوبين الأولين اشتغال بالتعظيم لأمر اللّه، و المطلوب الثالث اشتغال بالشفقة على خلق اللّه، و معلوم أن التعظيم لأمر اللّه يجب تقديمه على الشفقة على خلق اللّه.
المسألة السادسة: قال أصحابنا إن العبد طلب من اللّه تعالى أن يلهمه الشكر على نعم اللّه، و هذا يدلّ على أنه لا يتم شيء من الطاعات و الأعمال إلا بإعانة اللّه تعالى، و لو كان العبد مستقلا بأفعاله لكان هذا الطلب عبثا، و أيضا المفسرون قالوا المراد من قوله أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ هو الإيمان أو الإيمان
مفاتيح الغيب، ج28، ص: 20
يكون داخلا فيه، و الدليل عليه قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 6، 7] و المراد صراط الذين أنعمت عليهم بنعمة الإيمان و إذا ثبت هذا فنقول العبد يشكر اللّه على نعمة الإيمان، فلو كان الإيمان من العبد لا من اللّه لكان ذلك شكرا للّه تعالى على فعله لا على فعل غيره، و ذلك قبيح لقوله تعالى: وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران: 188] فإن قيل: فهب أن يشكر اللّه على ما أنعم به عليه فكيف يشكره على النعم التي أنعم/ بها على والديه؟ و إنما يجب على الرجل أن يشكر ربه على ما يصل إليه من النعم، قلنا كل نعمة وصلت من اللّه تعالى إلى والديه، فقد وصل منها أثر إليه فلذلك وصاه اللّه تعالى على أن يشكر ربه على الأمرين.
[في قوله تعالى وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ] و أما المطلوب الثاني: من المطالب المذكورة في هذا الدعاء، فهو قوله وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ .
و اعلم أن الشيء الذي يعتقد أن الإنسان فيه كونه صالحا على قسمين: أحدهما: الذي يكون صالحا عنده و يكون صالحا أيضا عند اللّه تعالى و الثاني: الذي يظنه صالحا و لكنه لا يكون صالحا عند اللّه تعالى، فلما قسم الصالح في ظنه إلى هذين القسمين طلب من اللّه أن يوفقه لأن يأتي بعمل صالح يكون صالحا عند اللّه و يكون مرضيا عند اللّه.
[في قوله تعالى وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ] و المطلوب الثالث: من المطالب المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي لأن ذلك من أجل نعم اللّه على الوالد، كما قال إبراهيم عليه السلام: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم: 35] فإن قيل ما معنى (في) في قوله وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ؟ قلنا تقدير الكلام هب لي الصلاح في ذريتي و أوقعه فيهم.
و اعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الداعي، أنه طلب هذه الأشياء الثلاثة، قال بعد ذلك إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ و المراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة، و إلا مع كونه من المسلمين فتبين أني إنما أقدمت على هذا الدعاء بعد أن تبت إليك من الكفر و من كل قبيح، و بعد أن دخلت في الإسلام و الانقياد لأمر اللّه تعالى و لقضائه.
و اعلم أن الذين قالوا إن هذه الآية نزلت في أبي بكر، قالوا إن أبا بكر أسلم والداه، و لم يتفق لأحد من الصحابة و المهاجرين إسلام الأبوين إلا له، فأبوه أبو قحافة عثمان بن عمرو و أمه أم الخير بنت صخر بن عمرو، و قوله وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ قال ابن عباس فأجابه اللّه إليه فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في اللّه منهم بلال و عامر بن فهيرة و لم يترك شيئا من الخير إلا أعانه اللّه عليه، و قوله تعالى: وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي قال ابن عباس لم يبق لأبي بكر ولد من الذكور و الإناث إلا و قد آمنوا، و لم يتفق لأحد من الصحابة أن أسلم أبواه و جميع أولاده الذكور و الإناث إلا لأبي بكر.
[في قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ] ثم قال تعالى: أُولئِكَ أي أهل هذا القول الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ قرئ بضم الياء على بناء الفعل للمفعول و قرئ بالنون المفتوحة، و كذلك نتجاوز و كلاهما في المعنى واحد، لأن الفعل و إن كان مبنيا للمفعول فمعلوم أنه للّه سبحانه و تعالى، فهو كقوله يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] فبيّن تعالى بقوله أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أن من تقدم ذكره ممن يدعو بهذا الدعاء، و يسلك هذه الطريقة التي تقدم
مفاتيح الغيب، ج28، ص: 21
ذكرها نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ و التقبل من اللّه هو إيجاب الثواب له على عمله،/ فإن قيل و لم قال تعالى: أَحْسَنَ ما عَمِلُوا و اللّه يتقبل الأحسن و ما دونه؟ قلنا الجواب من وجوه الأول: المراد بالأحسن الحسن كقوله تعالى:
وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: 55] كقولهم: الناقص و الأشج أعدلا بني مروان، أي عادلا بني مروان الثاني: أن الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب و لا عقاب و الأحسن ما يغاير ذلك، و هو و كل ما كان مندوبا واجبا.
ثم قال تعالى: وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ و المعنى أنه تعالى يتقبل طاعاتهم و يتجاوز عن سيئاتهم. ثم قال:
فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ قال صاحب «الكشاف» و معنى هذا الكلام مثل قولك: أكرمني الأمير في مائتين من أصحابه، يريد أكرمني في جملة من أكرم منهم و ضمني في عدادهم، و محله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة و معدودين منهم، و قوله وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد، لأن قوله نَتَقَبَّلُ ، نَتَجاوَزُ وعد من اللّه لهم بالتقبل و التجاوز، و المقصود بيان أنه تعالى يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء، و ذلك وعد من اللّه تعالى فبيّن أنه صدق و لا شك فيه.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 17 الى 20]
اعلم أنه تعالى لما وصف الولد البار بوالديه في الآية المتقدمة، وصف الولد العاق لوالديه في هذه الآية، فقال: وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما و في هذه الآية قولان الأول: أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، قالوا كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى، و هو أُفٍّ لَكُما و احتج القائلون بهذا القول على صحته، بأنه لما كتب معاوية إلى مروان يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية، أ تبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان: يا أيها الناس هو الذي قال اللّه فيه وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما . و القول الثاني: أنه ليس المراد منه شخص معين، بل المراد منه كل من كان موصوفا بهذه الصفة، و هو كل من دعاه أبواه إلى الدين الحق فأباه و أنكره، و هذا القول هو الصحيح عندنا، و يدل عليه وجوه الأول: أنه تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه أف لكما أ تعدانني بقوله أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ و لا شك أن عبد الرحمن آمن و حسن إسلامه، و كان من سادات المسلمين، فبطل حمل الآية عليه، فإن قالوا: روي أنه لما دعاه أبواه إلى الإسلام و أخبراه بالبعث بعد الموت، قال: أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ من القبر، يعني أبعث بعد الموت وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي يعني الأمم الخالية، فلم أر أحدا منهم بعث فأين عبد اللّه بن جدعان، و أين فلان و فلان؟ إذا عرفت هذا فنقول قوله أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ المراد هؤلاء الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله، و هم الذين حق عليهم القول، و بالجملة
مفاتيح الغيب، ج28، ص: 22
فهو عائد إلى المشار إليهم بقوله وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي لا إلى المشار إليه بقوله وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما هذا ما ذكره الكلبي في دفع ذلك الدليل، و هو حسن و الوجه الثاني: في إبطال ذلك القول، ما روي أن مروان لما خاطب عبد الرحمن بن أبي بكر بذلك الكلام سمعت عائشة ذلك فغضبت و قالت: و اللّه ما هو به، و لكن اللّه لعن أباك و أنت في صلبه الوجه الثالث: و هو الأقوى، أن يقال إنه تعالى وصف الولد البار بأبويه في الآية المتقدمة، و وصف الولد العاق لأبويه في هذه الآية، و ذكر من صفات ذلك الولد أنه بلغ في العقوق إلى حيث لما دعاه أبواه إلى الدين الحق، و هو الإقرار بالبعث و القيامة أصر على الإنكار و أبى و استكبر، و عول في ذلك الإنكار على شبهات خسيسة و كلمات واهية، و إذا كان كذلك كان المراد كل ولد اتصف بالصفات المذكورة و لا حاجة ألبتة إلى تخصيص اللفظ المطلق بشخص معين، قال صاحب «الكشاف»: قرئ أُفٍ بالفتح و الكسر بغير تنوين، و بالحركات الثلاث مع التنوين، و هو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر، كما إذا قال حس، علم أنه متوجع، و اللام للبيان معناه هذا/ التأفيف لكما خاصة، و لأجلكما دون غيركما، و قرئ أَ تَعِدانِنِي بنونين، و أ تعداني بأحدهما و أ تعداني بالإدغام، و قرأ بعضهم: أ تعدانني بفتح النون كأنه استثقل اجتماع النونين و الكسرين و الياء، ففتح الأولى تحريا للتخفيف كما تحراه من أدغم و من طرح أحدهما.
ثم قال: أَنْ أُخْرَجَ أي أن أبعث و أخرج من الأرض، و قرئ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي يعني و لم يبعث منهم أحد.
ثم قال: وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي الوالدان يستغيثان اللّه، فإن قالوا: كان الواجب أن يقال يستغيثان باللّه؟
قلنا الجواب: من وجهين الأول: أن المعنى أنهما يستغيثان اللّه من كفره و إنكاره، فلما حذف الجار وصل الفعل الثاني: يجوز أن يقال الباء حذف، لأنه أريد بالاستغاثة هاهنا الدعاء على ما قاله المفسرون يدعوان اللّه فلما أريد بالاستغاثة الدعاء حذف الجار، لأن الدعاء لا يقتضيه، و قوله وَيْلَكَ أي يقولان له ويلك آمِنْ و صدق بالبعث و هو دعاء عليه بالثبور، و المراد به الحث، و التحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك.
ثم قال: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ فَيَقُولُ لهما ما هذا الذي تقولان من أمر البعث و تدعوانني إليه إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ .
ثم قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي حقت عليهم كلمة العذاب، ثم هاهنا قولان: فالذين يقولون المراد بنزول الآية عبد الرحمن بن أبي بكر، قالوا المراد بهؤلاء الذين حقت عليهم كلمة العذاب هم القرون الذين خلوا من قبله، و الذين قالوا المراد به ليس عبد الرحمن، بل كل ولد كان موصوفا بالصفة المذكورة، قالوا هذا الوعيد مختص بهم، و قوله فِي أُمَمٍ نظير لقوله فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ و قد ذكرنا أنه نظير لقوله: أكرمني الأمير في أناس من أصحابه، يريد أكرمني في جملة من أكرم منهم.
ثم قال: إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ و قرئ أن بالفتح على معنى آمن بأن وعد اللّه حق.
ثم قال: وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا و فيه قولان الأول: أن اللّه تعالى ذكر الولد البار، ثم أردفه بذكر الولد العاق، فقوله وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا خاص بالمؤمنين، و ذلك لأن المؤمن البار بوالديه له درجات متفاوتة، و مراتب مختلفة في هذا الباب و القول الثاني: أن قوله لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا عائد إلى الفريقين،
مفاتيح الغيب، ج28، ص: 23
و المعنى و لكل واحد من الفريقين درجات في الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية، فإن قالوا كيف يجوز ذكر لفظ الدرجات في أهل النار، و قد جاء في الأثر الجنة الدرجات، و النار دركات؟ قلنا فيه وجوه الأول: يجوز أن يقال ذلك على جهة التغليب الثاني: قال ابن زيد: درج أهل الجنة يذهب علوا، و درج أهل النار ينزلوا هبوطا.
الثالث: أن المراد بالدرجات المراتب المتزايدة، إلا أن زيادات أهل الجنة في الخيرات و الطاعات، و زيادات أهل النار في المعاصي و السيئات.
ثم قال تعالى: وَ لِيُوَفِّيَهُمْ و قرئ بالنون و هذا تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه كأنه و ليوفيهم أعمالهم و لا يظلمهم حقوقهم، قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات و العقاب دركات، و لما بيّن اللّه تعالى أنه يوصل حق كل أحد إليه بين أحوال أهل العقاب أولا، فقال: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ قيل يدخلون النار، و قيل تعرض عليهم النار ليروا أهوالها أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا قرأ ابن كثير أَذْهَبْتُمْ استفهام بهمزة و مدة، و ابن عامر استفهام بهمزتين بلا مدة و الباقون أَذْهَبْتُمْ بلفظ الخبر و المعنى أن كل ما قدر لكم من الطيبات و الراحات فقد استوفيتموه في الدنيا و أخذتموه، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها، و عن عمر لو شئت لكنت أطيبكم طعاما و أحسنكم لباسا، و لكني أستبقي طيباتي، و
عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه دخل على أهل الصفة و هم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا فقال: «أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة و يروح في أخرى، و يغدى عليه بجفنة و يراح عليه بأخرى و يستر بيته كما تستر الكعبة، قالوا نحن يومئذ خير قال بل أنتم اليوم خير؟»، رواه صاحب «الكشاف»
قال الواحدي: إن الصالحين يؤثرون التقشف و الزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، إلا أن هذه الآية لا تدل على المنع من التنعم، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، و إنما وبخ اللّه الكافر لأنه يتمتع بالدنيا و لم يؤد شكر المنعم بطاعته و الإيمان به، و أما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه، و الدليل عليه قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] نعم لا ينكر أن الاحتراز عن التنعم أولى، لأن النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز و الانقباض، و حينئذ فربما حمله الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي، و ذلك مما يجر بعضه إلى بعض و يقع في البعد عن اللّه تعالى بسببه.
ثم قال تعالى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي الهوان، و قرئ عذاب الهوان بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ فعلل تعالى ذلك العذاب بأمرين: (أولهما): الاستكبار و الترفع و هو ذنب القلب الثاني: الفسق و هو ذنب الجوارح، و قدم الأول على الثاني لأن أحوال القلوب أعظم وقعا من أعمال الجوارح، و يمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يتكبرون عن قبول الدين الحق، و يستنكفون عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة و السلام، و أما الفسق فهو المعاصي و احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، قالوا لأنه تعالى علل عذابهم بأمرين: أولهما: الكفر و ثانيهما: الفسق، و هذا الفسق لا بد و أن يكون مغايرا لذلك الكفر، لأن العطف يوجب المغايرة، فثبت أن فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم، و لا معنى للفسق إلا ترك المأمورات و فعل المنهيات، و اللّه أعلم.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 21 الى 26]