کتابخانه تفاسیر
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج1، ص: 22
قبل تعيين وصىّ و وزير
من رأى مات نبي و هجر
قال شيخ الطائفة في اماليه باسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: دخل الحارث الهمدانى علي امير المؤمنين على بن ابي طالب عليه السّلام في نفر من الشيعة و كنت فيهم، و ذكر الحديث و قال في آخره و أبشرك يا حارث و الذي فلق الحبّة و برء النسمة ليعرفني وليّي و عدوّى في مواطن شتّى ليعرفني عند الممات و عند الصّراط، و عند المقاسمة، فقال:
و ما المقاسمة يا مولاي قال: مقاسمة الجنّة و النّار أقول: هذا وليي و هذا عدوّي، ثمّ أخذ أمير المؤمنين بيد الحارث و قال يا حار أخذت بيدك كما أخذ رسول اللّه بيدي، فقال لي و قد اشتكيت حسدة قريش و المنافقين انّه إذا كان يوم القيمة أخذت بحجزة يعنى عصمة من ذي العرش تعالى، و أخذت أنت يا عليّ بحجزتي و أخذت ذريّتك بحجزتك و أخذت شيعتك بحجزتكم، فماذا يصنع بنبيّه، و ما يصنع نبيّه بوصيّه، و ما يصنع وصيّه بأهل بيته و شيعتهم. خذها إليك قصيرة من طويلة، أنت مع من أحببت و لك ما اكتسبت قالها ثلاثا، فقام الحارث يجر ردائه جذلا و قال ما أبالي و ربّى بعد هذا متي لقيت الموت او لقيني.
و عن امير المؤمنين عليه السّلام قال: قال لي رسول اللّه يا على ان اللّه أعطاني فيك سبع خصال أنت أول من ينشق القبر عنه و اوّل من يقف على الصراط معى فتقول للنار خذي هذا فهو لك و ذري هذا، فليس هو لك، و أنت أول من يكتسى إذا كسيت و يحيي إذا حييت و اوّل من يقف معى عن يمين العرش و أول من يقرع باب الجنّة و أول من يسكن معي عليين و أول من يشرب معى من الرحيق المختوم الذي ختامه مسك و في ذلك فليتنافس المتنافسون.
ابن بابويه قال: قال رسول اللّه معاشر الناس من أحسن من اللّه قيلا و اصدق من اللّه حديثا، معاشر الناس ان ربكم أمرني ان أقيم لكم عليا علما و اماما و خليفة و وصيا و ان اتخذه أخا و وزيرا، معاشر الناس ان عليا باب الهدي بعدي و الداعي الي ربي و هو صالح المؤمنين و من احسن قولا ممن دعا الى اللّه و عمل صالحا و قال: انني من المسلمين، معاشر الناس ان عليا منّى، ولده ولدي و هو زوج حبيبتي، امره امري و نهيه نهيي،
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج1، ص: 23
أيها الناس عليكم بطاعته و اجتناب معصيته، و انّ طاعته طاعتي و معصيته معصيتي معاشر الناس ان عليّا صدّيق هذه الامة و فاروقها و هارونها و يوشعها و شمعونها و آصفها، انه باب حطتها و سفينة نجاتها، انه طالوتها و ذو قرنيها، معاشر الناس انه محنة الورى و الحجة العظمى و الآية الكبرى و امام الهدى و العروة الوثقى، معاشر الناس انّ عليا قسيم لا يدخل النار ولىّ له و لا ينجو منها عدوّ له، انّه قسيم الجنّة لا يدخلها عدوّ له و لا يتزحزح منها ولىّ له، معاشر اصحابي قد نصحت لكم و بلّغتكم رسالة ربّى و لكن لا تحبون الناصحين أقول قولي هذا و استغفر اللّه لي و لكم.
و أصل الصراط سراط من السين و ابدلوا السين بالصاد لما بين الصاد و الطاء مواخاة في الاستعلاء، و لكراهة ان يتسفل بالسين، ثم يتصعد بالطاء ابدلوا بالصاد.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ جرّ غير على البدلية من الهاء و الميم في عليهم مثل قول الشاعر:
علي حالة لو انّ في القوم حاتم
على جوده لضنّ بالماء حاتم
فجرّ حاتم على البدليّة من الهاء من جوده، او يكون غير مجرورا علي البدليّة من الذين، او يكون صفة للذين و كلمة غير يستعمل لمعني المغايرة و نفى الحكم. و معني الغضب ثوران النفس عند ارادة الانتقام و يحصل غليان في دم القلب لشهوة التشفي و الانتقام، و هذه الكيفية في حقّ اللّه تعالى محال، و المراد هنا نقيض الرضى، او ارادة الانتقام او الأخذ الشديد: و ذلك لأنّ القاعدة التفسيرية عند اهل التفسير انّ الأفعال التي لها اوايل بدايات و أواخر غايات إذا لم يجز و لم يمكن إسنادها الى اللّه باعتبار البدايات يراد بها حين الاسناد النهايات كالغضب و الحياء و التكبّر و الاستهزاء و السرور و الغم. و المراد من المغضوب عليهم هم اليهود، و الضالين، النصارى.
و يدل على هذا المعنى قوله تعالى: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ) و قال تعالى: (وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) .
و اما النصارى بدلالة قوله: (وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج1، ص: 24
وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) ، و الآية في حقهم و قد اشتهر تفسير المغضوب عليهم باليهود و الضالين بالنصارى، و فسر المغضوب عليهم بالعصاة في الفروع و الضالين بالمختلين في الاعتقاديات، فان المنعم عليه من وفق الجمع بين العلم و العمل بالاحكام الاعتقاديّة و العمل بالشريعة فالمقابل له من اختل احدى قوتيه العاقلة و العاملة، و لفظة «لا» تفيد تأكيد النفي الواقع قبلها، و في عدوله سبحانه عن اسناد الغضب الى نفسه تعالى مع التصريح باسناد عديله اعنى النعمة اليه تشييد لمعالم العفو و الرحمة و اشارة لمبانى الجود و الكرم حتى كان الصادر عنه هو الانعام لا غير، و ان الغضب صادر عن الغير بسبب ان الغير صار سبب الغضب و الا فالمناسب ان يقول غير الذين غضبت عليهم، فصار الكلام في قوّة التصريح في جانب الرحمة و التعريض في جانب العقاب.
و كذلك اغلب الآيات المتضمنة لذكر العفو و الانتقام، فإنك تجدها ظاهرة في ترجيح جانب العفو: مثل قوله تعالى: «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» مع ان ظاهر المقابلة و نسق الآية ان يقول و كان اللّه غفورا معذبا، و كذلك قال تعالى «غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ» حيث بعد بيان صفة الانتقام بقوله شديد العقاب جعلها محفوفة بنعوت الإحسان. و ليس المراد تخصيص نسبة الغضب باليهود و نسبة الضلال بالنصارى بل جميع الكفّار في بين النسبتين داخلون و الكفر ملّة واحدة الا إن اللّه يخص كل فريق بسمة يعرف بها و يميز بينه و بين غيره بها و ان كانوا مشتركين في صفات كثيرة.
و قال عبد القادر الجرجانى ان حق اللفظ فيه ان يكون خرج مخرج الجنس و قيل المراد من المغضوب عليهم العصاة و من الضالين الجاهلون باللّه لان المنعم عليهم هم الجامعون بين العلم و العمل فكان المقابل لهم من اختل احدى قوتيه العاقلة و العاملة و المخل بالعلم و العمل جاهل ضالّ.
فأن قيل انّ من المعلوم ان المنعم عليهم غير الفريقين فما الفائدة في البيان، أقول:
الفائدة اشعار مقام الخوف و الرجاء.
قال محمد الحلبي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام أنّه كان يقرء ملك يوم الدّين و يقرء اهدنا
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج1، ص: 25
صراط المستقيم و عند اهل السنّة بعد فراغ الفاتحة يستحب القول بكلمة آمين و روى جميل عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا كنت خلف امام ففرغ من قراءة الفاتحة فقل أنت من خلفه: الحمد للّه ربّ العالمين. و روى فضيل بن يسار عنه عليه السّلام إذا قرأت الفاتحة ففرغت من قراءتها فأنت في الصلاة فقل الحمد للّه رب العالمين. و اعلم انّ المصلّى إذا توجه بوجهه الى اللّه لأداء وظيفة العبودية و احرم بالتكبيرة مع النية الخالصة لمولاه و التزم بحضور قلبه و عرف نعم اللّه بالمشاهدة و نفسه بذلك اعدل شاهد و اصدق رائد ابتدأ بالتسمية استفتاحا باسم المنعم و اعترافا بإلهيته و استرواحا الى ذكر فضله فبعد ان اعترف بالمنعم الفرد اشتغل بالشكر له و الحمد له فقال «الْحَمْدُ لِلَّهِ» و لما رأى نعم اللّه على غيره واضحة كما شاهد آثارها على نفسه لائحة عرف أنّه رب الخلائق أجمعين فقال «رَبِّ الْعالَمِينَ» و لذلك لمّا كان شمول فضله و عموم رزقه للمربوبين قال «الرحمن» و لما رأى تقصيرهم في واجب شكره و عدم مؤاخذته عاجلا بالعصيان قال «الرحيم» و لمّا رأى ما بين العباد من التباغي و الفساد و التكالب و التلاكم و ان ليس بعضهم من شرّ بعضهم بسالم علم أنّ ورائهم يوما ينتصف فيه للمظلوم من الظالم فقال.
«مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» و لما عرف هذه الجملة فقد علم انّ له خالقا رازقا يحيى و يميت و يبدي و يعيد و لمّا صار الإله الموصوف بهذا الوصف كالمدرك بالحس و العيان تحول عن لفظ الغيبة إلى الخطاب فقال.
«إِيَّاكَ نَعْبُدُ» ثم سئله الاستعانة لأموره دينا و دنيا بقوله «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ثم سئله الاستدامة على دين الحق و الثبات عليه بل طلب أمرا جامعا لجميع مراتب الخير فقال «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» صراط أوليائك الذين اصطفيتهم فسأله ان يلحقه بهم و يسلك به سبيلهم لا سبيل الزائغين و المنحرفين فقال «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» .
و القرآن أعجز الأولين و الآخرين بالبلاغة و الفصاحة. اعلم أنّه لا بدّ ان ان يكون لكلّ كلام مرغوب حظّ من البلاغة و قسط من الجزالة و البراعة فحينئذ ما ظنّك بما في ذروة الاعجاز و أعلم انّ شعب البلاغة في علم المعاني و البيان عشرة: الاستعارة، و التشبيه و الكناية و الإيجاز و الاطناب و المغالطة و التضمين و الاستدراج و المبادي و التخلص
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج1، ص: 26
و الاولى: اى الاستعارة هو ان يحاول المنشى و المتكلم تشبيه شيء بغيره و لا يأتى باداة التشبيه طلبا لزيادة الدلالة مع الإيجاز فيستعير اسم المشبه به و يكسوه الشبه من غير تعرض لذكر المشبه فيحصل به زيادة بلاغة مثاله فأذاقها اللّه لباس الجوع و الخوف. الضمير المؤنث راجع إلى مكة باعتبار أهلها و وجه الاستعارة ان الثوب لما كان يحيط بجوانب اللابس استعار اسم اللباس للخوف و الجوع حيث أراد سبحانه الاخبار عن احاطة الجوع و الخوف من جميع الجهات فهو ابلغ في المقصود إذ لو قال جعل اللّه الجوع و الخوف محيطين بهم من جوانبهم كانّه لباس لهم لم يكن في الكلام من الحسن ما في الاستعارة.
الثانية: من أبواب البلاغة التشبيه و هو الدلالة على شيئين اشتركا في معنى لكن ذلك المعنى ثابت و معروف في الاسم الذي دخلت عليه أداة التشبيه فيجعل المنشي و المتكلم الاسم الذي لم تدخل عليه الاداة كالاسم الذي دخل عليه الاداة مثاله زيد كالأسد و وجهه كالقمر كأنّهم جراد منتشر شبّه سبحانه الناس عند خروجهم من القبور مضطربين متحيرين قد طبقوا الجهات بكثرتهم لا يلوى بعضهم على بعض بالجراد المنتشر لحصول هذا المعنى من هذا التشبيه.
الثالثة: الكناية و هو لفظ استعمل في معناه لكن المراد ما يلزم ذلك المعنى، مثاله في عيسى و امه كانا يأكلان الطعام، كنى به عن خروج الخارج منهما لأنه من لوازم الاكل و هو افصح و أوجز و الطف، و المقصود من هذه الكناية ان من خرج منه هذا الخارج فهو بمعزل عن الإلهية و ردّ محكم لقول النصارى.
الرابعة: الإيجاز و هو التعبير بالألفاظ القليلة عن المعاني الكثيرة و هو دليل على رجحان العقل، فكل نوع صحيح من الإيجاز معدود من الاعجاز، و قد اجمع ارباب المعاني و البيان انّ أوجز كلمة استعملتها العرب هي قولهم: القتل أنفي للقتل، فلمّا نزل قوله و لكم في القصاص حيوة أذعنوا برجحانه بل قولهم القتل انفي للقتل هذا الكلام ليس بتامّ فانّ بعض القتل هو موجب لكثرة القتل لا نفيه.
الخامسة: الإطناب و هو ذكر الشيء مرّة أخرى بلفظ غير الاول لشدة الاعتناء به، مثاله: «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» ، فقوله بأفواهكم
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج1، ص: 27
اطناب لأنّ قوله يقولون دلّ على ما دلّ بأفواهكم فانّ القول لا يكون الا بالفم و لكن نبّه به على تعظيم هذا الأمر لشدة قبحه.
السادسة: المغالطة و هي ان يأتي المنشى المجيّد بكلام يدلّ على معنى و له مثل او نقيض يكون المثل و النقيض احسن موقعا، مثاله في حقّ المنافقين و قد صدر منهم كلمات في حق النبيّ بالاستهزاء، فقال: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ» فغالطوا في الجواب بهاتين الكلمتين الموهمتين صدق ما كانوا فيه، فكذّبهم اللّه بقوله: «قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ» السابعة: التضمين و هو ان يضمن المنشى كلامه شيئا من الأمثال او الشعرا و الحديث و هو يزيد الكلام عذوبة و حسنا.
الثامنة: الاستدراج و هو ان يصوغ لغرضه ألفاظا يكسوها من اللطافة ما يحيّر الألباب، و هو الركن الأعظم في هذه الصناعات، مثاله في القرآن. «وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ» ، فانّ موسى عليه السّلام لمّا أراد ان ينقل قومه من أرضهم الى غيرها أسمعهم ما سرّهم ثم استدرجهم الى مطلوبه بقوله: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» .
التاسعة: المبادي و تسمّى براعة الاستهلال، و هو ان يجعل اوّل كلامه دالّا على المقصود كقول النحوي: الحمد للّه الذي رفع من انخفض لجلاله.
العاشرة: التخلّص و هو ان يجعل بين المعنى الذي ينتقل عنه و الذي ينتقل اليه ارتباطا و تعلّقا بحيث يكون الكلام المشتمل على المعاني المتعددة كالمنتظم في سلك واحد مثاله: «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ» الى ان يقول «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» ، فانّ في هذه الآيات الى قوله: ثم يحيين من حسن التخلص ما يدهش العقول فتأمّل في حسن البلاغة.
قال اهل البيان انّ من البلاغة براعة الاستهلال و حسن الابتداء و هو ان يأتي المتكلّم بكلام يفهم غرضه من كلامه، عند الابتداء من كلامه، من استهل الصبى اى صاح عند الولادة،
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج1، ص: 28
و استهل رأى الهلال و استهلت السماء اى جادت بالهلال و هو أول النظر و المقصود من إنزال القرآن حفظ الأصول التي عليها مدار الدين و الدنيا و الأصل الأول معرفة اللّه و صفاته، و الى هذا المعنى الإشارة برب العالمين الرحمن الرحيم من الصفات.
فيستحق الحمد و الإطاعة ثم الأهم معرفة النبوات، و اليه الإشارة بالذين أنعمت عليهم و معرفة المعاد، و اليه الإشارة بمالك يوم الدين، ثم علم العبادات و اليه الإشارة بايّاك نعبد، و علم السلوك و هو حمل النفس على الآداب الشرعية و الانقياد، و اليه الإشارة باهدنا الصراط المستقيم، و علم القصص و هو الاطّلاع على اخبار الأمم السابقة ليعلم المطّلع على ذلك سعادة من أطاع اللّه و شقاوة من عصاه، و اليه الإشارة بقوله:
«صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» ففي فاتحة القرآن براعة و تنبيه على الغرض من إنزال القرآن، و كذلك سورة اقرأ فيها حسن الابتداء و البراعة، فان فيها الأمر بالقرائة و البدء فيها باسم اللّه لتعريف ذاته، و فيه اشارة الي علم الاحكام بقوله «عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» مثال براعة الاستهلال في الشعر قول ابى تمام يهنّى المعتصم العباسي بفتح عمورية و كان المنجمون زعموا انها لا تفتح في هذا الوقت.
السيف اصدق انباء من الكتب
في حدّه الحدبين الجدّ و اللعب
بيض الصفائح لأسود الصحائف في
متونهنّ جلاء الشك و الريب