کتابخانه تفاسیر
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج4، ص: 253
اللّه وحده لا شريك له و أنّ محمّدا عبده و رسوله، فنزلت الآية.
و الهمزة للإنكار و النفي، و الواو لعطف الجملة الاسميّة على مثلها الّذي يدلّ عليه الكلام، و التقدير: أنتم أيّها المؤمنون مثل المشركين و من كان ميتا، فمثّل سبحانه الفريقين.
أي كان كافرا [فَأَحْيَيْناهُ] بأن هديناه إلى الإيمان. شبّه الكفر بالموت و الإيمان بالحياة فبيّن أنّ المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميّتا فجعل حيّا بعد ذلك و جعل له نورا يهتدي به، و أنّ الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيّرا على الدّوام.
[وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ] و ذلك مثل حال المؤمن، و ليس من كان أمره هكذا [كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها] فسمّى الإيمان و الحكمة و العلم نورا و الكفر و الجهل ظلمة، و قال: «كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ» و لم يقل: كمن هو في الظلمات و ذكره بلفظ المثل إشعارا بأنّه بلغ في الحيرة و الكفر غاية يضرب به المثل فيها.
[كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ] شبّه سبحانه حال هؤلاء في التّزيين بحال أولئك فيه كقوله: «كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»* و المعنى: زيّن لهؤلاء الكفر فعلموه، مثل ما زيّن لأولئك الإيمان فعملوه. قال الحسن: زيّنه و اللّه لهم الشيطان و أنفسهم. قال الطبرسيّ: و قوله: «زُيِّنَ» لا يقتضي مزيّنا غيرهم لأنّه بمنزلة قوله: «أَنَّى يُصْرَفُونَ» و «أَنَّى يُؤْفَكُونَ»* تقول العرب: أعجب فلان بنفسه و أولع كذا، و مثله كثير.
[وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ] أي مثل ذلك الّذى قصصنا عليك- من قوله زيّن للكافرين عملهم- صيّرنا في كلّ قرية أكابر [مُجْرِمِيها] أو كما صيّرنا في مكّة صناديدها [لِيَمْكُرُوا فِيها] كذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها، و الأكابر جمع الأكبر.
قال الرّازيّ: و الآية على التّقديم و التّأخير، تقديره جعلنا مجرميها أكابر، و لا يجوز أن يكون الأكابر مضافة فإنّه لا يتمّ المعنى. و لأنّك إذا أضفت الأكابر فقد
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج4، ص: 254
أضيفت الصفة إلى الموصوف و ذلك لا يجوز عنه البصريين.
قالت الأشاعرة: إنّما جعلهم بهذه الصّفة لأنّه أراد منهم أن يمكروا بالنّاس فهو دليل على أنّ الخير و الشرّ بإرادة اللّه، و ليس الأمر على ما قالوه لثبوت الظلم في حقّه تعالى، تعالى اللّه عن الظلم و عن إرادة القبيح بل اللّام لام العاقبة و لام الصيرورة كما في قوله: «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» «1» و كقول الشاعر: فللموت ما تلد الوالدة.
قال الجبّائيّ: لا شكّ أنّ اللّام في مثل هذه الموارد لام العاقبة. قالت المعتزلة:
لمّا لم يمنعهم عن المكر صار شبيها بما إذا أراد ذلك فجاء الكلام على سبيل التشبيه.
[وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ] و الآية صريحة بأنّهم الماكرون و وقع الفعل بإرادتهم و اختيارهم فبطل الجبر، و ما يشعرون لأنّ عقاب ذلك المكر يحلّ بهم و قد مكروا بأنفسهم و لا شكّ أنّ قوله: «وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ» مذكور في معرض التهديد و الزّجر فلو كان ما قبل هذه يدلّ على أنّه أراد منهم أن يمكروا بالناس فكيف يليق بالرّحيم الكريم الحكيم العادل أن يريد منهم المكر و يخلق فيهم المكر ثمّ يهدّدهم عليه و يعاقبهم أشدّ العقاب؟
[سورة الأنعام (6): آية 124]
. قوله تعالى:
النزول: قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال: و اللّه لو كانت النبوّة حقّا لكنت أولى بها منك يا محمّد؛ لأنّي أكبر سنّا و أكثر مالا. و قيل: نزلت في أبي جهل قال:
زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبىّ يوحى إليه، و اللّه لا نؤمن به و لا نتّبعه أبدا إلّا أنّ يأتينا وحي كما يأتيه، عن مقاتل.
المعنى: حكى سبحانه عن الأكابر الّذين تقدم ذكرهم اقتراحاتهم الباطلة فقال سبحانه: [وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ] أي دلالة معجزة من عند اللّه يدلّ على توحيده و صدق محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم [قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ] و لن نصدّق بها [حَتَّى نُؤْتى] أي نعطى آية معجزة [مِثْلَ ما أُوتِيَ] و اعطي [رُسُلُ اللَّهِ] حسدا منهم للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم.
(أقول: و رأيت في بعض المجامع أنّ ما بين الجلالتين من هذه السورة من المواضع
(1) القصص: 5.
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج4، ص: 255
الّتي يرجى فيها استجابة الدّعاء فليحافظ عليه انتهى «1» ).
ثمّ أخبر سبحانه على وجه الإنكار عليهم بقوله: [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ] أنّه أعلم منهم و من جميع الخلق بمن يصلح للرسالة و يتعلّق مصالح الخلق ببعثه و من هو قابل بأن يقوم بأعباء الرسالة و من لا يقوم بها فيجعلها عند من يقوم بأدائها و يحتمل ما يلحقه من الأذى و المشقّة على تبليغها؛ فللرسالة موضع مخصوص لا يصلح وضعها إلّا فيه، و العالم بتلك الصّفات ليس إلّا اللّه تعالى.
و النفوس و الأرواح قيل: متساوية في تمام الماهيّة، و حصول النبوّة و الرسالة لبعضها دون البعض تشريف من اللّه و تفضيل لكنّ المحقّقون قالوا: إنّ النفوس البشريّة مختلفة بجواهرها و ماهيّاتها، فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيّات مشرقة بالأنوار الإلهيّة، منوّرة، و بعضها خسيسة كدرة محبّة للجسمانيّات، و النّفس ما لم تكن من القسم الأوّل لم تصلح لقبول الوحي و الرسالة ثمّ إنّ القسم الأوّل يقع الاختلاف فيه بالزّيادة و النقصان و القوّة و الضعف إلى مراتب لا نهاية لها؛ فلا جرم كانت مراتب الرسل مختلفة فمنهم من حصلت له المعجزات القويّة و التّبع القليل، و منهم من حصلت له معجزة واحدة أو اثنتان و حصل له تبع عظيم، و منهم من كان الرّفق غالبا عليه، و منهم من كان التشديد غالبا عليه بحسب مصالح العامّة.
ثمّ بيّن و هدّد سبحانه الماكرين و المنقطعين إلى الكفر الّذين سبق ذكرهم فقال: [سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ] و ينالهم من اللّه ذلّ و هوان و إن كانوا في الدنيا أكابر و هذا الذّل و الهوان معدّ لهم في الآخرة [وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ] في الدنيا جزاء على كفرهم و مكرهم فإنّ الجزاء يقابل المعصية تقابل التضادّ؛ فإنّهم لمّا تمرّدوا عن طاعة محمّد استنكافا و طلبا للعزّ و الكرامة فاللّه قابلهم بضدّ مطلوبهم فأوّل ما يوصل إليهم الصّغار و الذلّ في القيامة.
[سورة الأنعام (6): آية 125]
. قوله تعالى:
(1) مراده: «اللّه» في: (رسل اللّه، اللّه اعلم).
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج4، ص: 256
لما تقدّم ذكر المؤمنين و الكافرين بيّن عقيبه ما يفعل بكلّ من القبيلتين ما يستحقّون من اختيارهم فقال:
[فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ] و يثبّته على الهدى [يَشْرَحْ صَدْرَهُ] جزاء له على إيمانه و اهتدائه. و قد يطلق لفظ الهدى و المراد به الاستدامة كما في قوله: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» أو المعنى: من يرد اللّه أن يهديه إلى الثواب و الجنّة يشرح صدره للإسلام في الدّنيا بأن يثبّت عزمه عليه و يقوّي دواعيه على التمسّك به و يزيل عن قلبه وساوس الشيطان و ما يعرض في القلوب من الخواطر الفاسدة، و إنّما يفعل ذلك منّا عليه و ثوابا على اهتدائه نظير قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» «1» «وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً» «2» و هذا المعنى أيضا قريب من المعنى الأوّل.
و قد وردت الرّواية الصّحيحة أنّه لمّا نزلت هذه الآية سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم عن شرح الصّدر ما هو؟ فقال: نور يقذفه اللّه في قلب المؤمن فيشرح له صدره و ينفسخ قالوا: فهل لذلك إمارة يعرف بها؟ قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغرور، و الاستعداد للموت قبل نزول الموت.
[وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ] أي يخذله بسبب اختياره الكفر و يخلّي بينه و بين ما يريده [يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً] بأن يمنعه ألطاف شرح الصّدر لخروجه عن قبول الإيمان جزاء على سوء اختياره من غير أن يمنعه عن الإيمان أو يريد منه الكفر أو يخلق فيه الكفر كما زعمت الأشاعرة، فإنّهم استدلّوا بظاهر الآية على ثبوت مدّعاهم الفاسد و اعتمادهم في إثبات العلم و الدّاعية، و قالوا: إنّهما يوجبان الفعل و ليس كذلك، نعم الداعي من معدّات الفعل لكن في الدّاعي لم لا يقولون من العبد؟ و داعيتهم ميلهم إلى هذا الأمر الشنيع، و ذلك الميل و اختيار السوء يوجب إتيان الفعل كميل السارق إلى السّرقة لميله إلى المسروق به طمعا في استدراكه، و كيف يكون أن يخلق فيهم داعية الكفر و يريد منهم وقوعه و يأمرهم بضدّه و هو الإيمان؟ فإنّه متى ما خلق فيهم أمرا و شاء و أراد وقوع ذلك الأمر لن يقع غيره البتّة؛ فحينئذ كيف يجوز عقاب فعل
(1) محمّد: 19.
(2) مريم: 78.
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج4، ص: 257
يقع من فاعل لا يتمكّن أن يفعل غير ذلك الفعل فحينئذ إمّا أن يقول: إنّ الكافر غير معاقب البتّة، و إمّا أن يقول: إنّ اللّه قد أمر بما لا يطاق و لا يتمكّن، و هو أقبح أقسام الظلم، تعالى عن ذلك.
و أمّا مسألة العلم فذلك أيضا ليس من موجبات الفعل لأنّ العلم بأنّ القاضي مثلا يضحك و يلاعب امرأته فهل ذلك العلم من موجبات ضحك القاضي؟ فكذلك علمه تعالى؛ فإنّه لمّا سبق علمه المعلوم و علم أنّ المعلوم سيكون كتب: كان، فمثل هذا العلم كيف يكون من موجبات الفعل؟.
قالت المعتزلة: إنّ ما تمسّكت به الأشاعرة في هذه الآية ليس بدليل لهم، و ليس معنى الآية أنّه تعالى أضلّ قوما أو يضلّهم؛ لأنّه ليس فيها من إنّه متى ما أراد أن يهدي إنسانا فعل به كيت و كيت، و إذا أراد إضلاله فعل به كيت و كيت، و ليس في الآية أنّه تعالى يريد ذلك أولا يريده، و الدّليل عليه أنّه تعالى قال: «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» «1» فبيّن أنّه يفعل اللّهو لو أراده؛ و لا خلاف أنّه تعالى لا يريد ذلك و لا يفعله.
ثمّ إنّه تعالى لم يقل: و من يرد أن يضلّه عن الإيمان، بل قال: «وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ» فلم قلتم: إنّ المراد: و من يرد أن يضلّه عن الإيمان؟ و قد بيّن سبحانه في آخر الآية أنّه إنّما يفعل هذا الفعل بهذا الكافر جزاء على كفره و أنّه ليس ذلك على سبيل الابتداء؛ فإنّه قال: «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» فثبت بطلان الجبر.
و تفسير الآية و هو الّذي اختاره الجبّائيّ و القاضي عبد الجبّار و أبطال المعتزلة و جمهور الإماميّة أنّ من يرد اللّه أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنّة بسبب حسن قبوله يشرح صدره للإسلام حتّى يثبت عليه و لا يزول عنه؛ ثوابا على قبولهم الطّاعة.
و تفسير هذا الشرح في الصّدر هو أنّه يفعل به ألطافا يدعوه إلى البقاء على
(1) الأنبياء: 17.
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج4، ص: 258
الإيمان و الثبات عليه، و هذه الألطاف إنّما تقع منه تعالى للمؤمن بعد أن صار مؤمنا كما قال سبحانه: «وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» «1» و كذلك قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» «2» .
فأمّا إذا كفر و عاند و أراد اللّه أن يضلّه عن طريق الجنّة فعند ذلك يلقي في صدره الضّيق و الحرج فالعبد بسبب هذه الدرجة من قبول الإيمان وجد انشراح الصدر، و الكافر بسبب هذه الدركة من قبول الكفر و اختيار الكفر على الإيمان وجد هذا الضيق و الحرج و البأس من غير أن يكون سبحانه مانعا له عن الإيمان و سالبا إيّاه عن القدرة على الإيمان، و كيف يجوز ذلك و قد ذمّ اللّه تعالى فرعون و السامريّ على إضلالهما عن دين الهدى؟ فقال تعالى: «وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى» «3» و قال تعالى: «وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» «4» فكيف ينسب إليه تعالى ما ذمّ عليه غيره؟ انتهى.
قوله: [كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ] أي إنّ هذا الكافر إذا دعي إلى الإسلام كأنّه مكلّف بصعود السماء. و قيل: المعنى: كأنّهما ينزع قلبه إلى السماء لشدّة المشقّة عليه من مفارقة مذهبه الباطل بسبب ذلك الضّيق و الحرج.
قال الزجّاج: «الحرج» في اللّغة أضيق الضيق، و قرء «حَرَجاً» بكسر الرّاء؛ فمن قال: «حرج» بفتح الراء معناه: ذو حرج و «الحرج» بكسر الراء نهاية الضيق و بالفتح جمع «حرجة» و هو الموضع الكثير الأشجار الّذي لا تناله الراعية، المشتبك الّذي لا طريق فيه لأحد. شبّه سبحانه قلب الكافر بهذا الموضع الّذي لا ينتفع أحد منه، و لا طريق فيه، كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير بكفره.
و أمّا قوله: «يَصَّعَّدُ» فقرء «يصّاعد» بالألف و تشديد الصاد بمعنى يتصاعد، و المشهور «يَصَّعَّدُ» بتشديد الصاد و العين بغير ألف. و قرء «يصعد» قرأه ابن كثير فهي من الصعود، و بالجملة ففي كيفيّة هذا التشبيه وجهان:
(1) المنافقون: 11.
(2) العنكبوت: 69.
(3) طه: 51 و 87.
(4) طه: 51 و 87.
مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر، ج4، ص: 259
الأوّل: كما أنّ الإنسان إذا كلّف الصعود إلى السماء ثقل ذلك التكليف عليه كذلك الكافر يثقل عليه الإيمان.
و الوجه الثاني أن يكون التقدير أنّ قلب الكافر ينبوعن الإيمان و يتباعد عنه فشبّه ذلك البعد ببعد من يصعد من الأرض إلى السماء.
[كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ] و «الرِّجْسَ» العذاب و قيل: «الرِّجْسَ» مالا خير فيه، عن مجاهد. و وجه التشبيه في قوله: «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ» أنّه يجعل الرجس على هؤلاء كما يجعل ضيق الصدر في قلوب أولئك؛ فإنّ كلّ ذلك على وجه العقوبة و الاستحقاق [عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ] بسبب عدم إيمانهم.
[سورة الأنعام (6): الآيات 126 الى 127]
قوله تعالى:
أشار سبحانه إلى ما تقدّم من البيان؛ و هذا طريق ربّك و هو القرآن، عن ابن مسعود، و الإسلام عن ابن عبّاس، و أضافه إلى نفسه، لأنّه تعالى أرشد إليه [مُسْتَقِيماً] لا اعوجاج فيه، و إنّما وصف الصراط الّذي هو أدلّة بالحقّ بالاستقامة مع اختلاف وجود الأدلّة و تعدّدها؟ لأنّها مع كثرتها و اختلافها تؤدّي إلى الحقّ، فكأنّها طريق واحد مع أنّها متعدّدة، لسلامة جميع الأدلّة من التناقض و الفساد، و إنّما سمّاه صراطا لأنّ العلم به يؤدّي إلى التوحيد و السعادة و قيل: الإشارة في الآية بقوله: «وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ» يريد هذا الّذي أنت عليه يا محمّد دين ربّك مستقيما، و تفضيل الآيات معناه ذكرها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر مشروحا [لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ] و أصله يتذكّرون، خصّ المتذكّرين لأنّهم المنتفعون بالحجج دون غيرهم.
[لَهُمْ دارُ السَّلامِ] أي للمتذكّرين و الّذين عرفوا الحقّ دار السلامة الدائمة الخالصة من كلّ آفة و بليّة يلقاه أهل النار. و قيل: إنّ السلام هو اللّه، و داره الجنّة [عِنْدَ رَبِّهِمْ] و المراد من العنديّة القرب في المكانة لا المكان.