کتابخانه تفاسیر
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 162
و يمتاز هذا المنهج القرآني عن غيره بوجوه عديدة أهمها:
الأول: إنّ المنهج التربوي و التعليمي في الإسلام ليس ماديا صرفا و لا عقليا بحتا بل هو يشمل الجانبين و يعطي لكل جانب حقه.
الثاني: إنّه يراعي الجانب التطبيقي و يعطي للعمل أهميته و يهتم بالمربّين و المعلمين قبل كل شيء، فهو يأمر بالتزكية و إتيان العمل الصالح و لا يكتفي بالجانب النظري فقط.
الثالث: إنّه يهدف الكمال الإنساني و يبغي سعادة الفرد و الاجتماع و وضع لكل ذلك أسسا و قواعد لا يمكن التخلي عنها.
الرابع: إنه عام يشمل جميع مراحل الإنسان و جميع جوانب حياته بل يشمل مرحلة ما بعد الموت أيضا بحسب الآثار.
الخامس: إنّه مرتب ترتيبا دقيقا يبتدئ بالتلاوة ثم التزكية فالتعليم و طلب الحكمة، و التجاوز عن هذا الترتيب لا يوصل إلى ما يريده الإسلام.
و في القرآن الكريم إشارات إلى كل واحد من الأمور المتقدمة و في السنة الشريفة شرح ذلك و يأتي في الآيات المناسبة التعرض لها إن شاء اللّه تعالى.
[سورة البقرة (2): الآيات 153 الى 157]
الآيات متسقة منتظمة كلها وردت في سبيل استكمال الإنسان. و لذّة النداء و الخطاب في أولها نرفع عن العبد ثقل التكليف. و قد بيّن سبحانه و تعالى فيها أن الإنسان في طريق استكماله و إشاعة الحق و مقارعة الباطل
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 163
يقترن بأنحاء من البلاء و المحن في الأنفس و الأموال و لا يمكن التغلب عليها إلّا بالصبر و التوجه إليه تعالى في كل أمر. و قد لطف سبحانه و تعالى على عبيده بما يهون عليهم احتمال المكاره و يخفف عنهم عظم المصاب بما أعده سبحانه للصابرين من البشارة العظمى، و لمن قتل في سبيله الأجر الجزيل. و لا يسعنا في ذلك إلّا أن نقول بما
قاله الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في صحيفته: «و لو دل مخلوق مخلوقا من نفسه على مثل الذي دللت عليه عبادك منك كان موصوفا بالإحسان و منعوتا بالامتنان و محمودا بكل لسان»
فهذه الآيات تكفي في عظمة الموحي و الموحى إليه و الوحي لكل من كان له سمع أو ألقى السمع و هو شهيد.
التفسير
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا . قد ورد هذا الخطاب في القرآن الكريم في ما يقرب من تسعين موردا و فيه من التحبب و الملاطفة مع عبيده ما لا يخفى، و المنساق من سياقه تلبس المخاطب بالإيمان في الجملة، و هو يقتضي أن يكون الخطاب مدنيّا لا مكّيا. و تقدم ما يتعلق به في الآية- 104 من هذه السورة فراجع.
قوله تعالى: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ . الصبر هنا مقاومة النفس مع ما يرد عليها من المكاره و الأذى. و حذف متعلقه يفيد العموم- كما هو المعروف في العلوم الأدبية- أي استعينوا بالصبر في جميع أموركم فإنه مفتاح النجاح، و هو في كل شيء حسن، و لا يتعلق بشيء إلّا و صار محبوبا، فهو أمّ الفضائل و الجامع لجميع جهات استكمال الإنسان إذا كان الصابر مراعيا لتكاليف المولى.
و الاستعانة بالصبر استعانة بأهم الأسباب المؤدية إلى المطلوب و أعظم السبل في نيل المقصود، و الحاجة إليه في تأييد الحق و مقارعة الباطل و احتمال المصائب معلوم لكل احد، و آثاره ظاهرة لكل فرد، و تقدم ما يتعلق به في الآية- 45 من هذه السورة.
و أما الاستعانة بالصلاة فإنها استعانة بأبرز مظاهر العبودية لرب
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 164
العالمين، و أهم أبواب مناجاته تعالى، و الإستغاثة به عزّ و جلّ، لما تشتمل على عظيم الآثار، فإنها معراج المؤمن، و إنّها تنهى عن الفحشاء و المنكر، و بها يحصل للنفس سكونها و اطمينانها عن الحوادث الواردة عليها، لأن فيها ارتباط بعالم الغيب المحيط بهذا العالم- و الإنسان خلق من ذلك العالم فإذا طابقت سنخية الذات مع العمل يحصل الانقطاع عن العلائق و يشتد الارتباط مع رب الخلائق، فينتظم النظام على الوجه الأصلح.
و في الحديث: «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا حزبه أمر- أي اشتد عليه- فزع إلى الصلاة»
و تقدم نظير هذه الآية في هذه السورة آية- 45 إلّا أن في الأولى مدح سبحانه الصلاة و في هذه مدح الصبر و بشر الصابرين.
و الوجه في التكرار التأكيد على أهمية الصبر و الصّلاة في تنفيذ الأمور و تكميل النفوس و توطينها لاحتمال المكاره و تحصيل السعادة في الدارين.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ . لفظ «مع» يأتي بمعنى الجمع و المصاحبة في الجملة، و يختلف اختلافا كبيرا بحسب الموارد و الخصوصيات، و يستعمل في الخالق و المخلوق، قال تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 123] و قال تعالى حكاية عن نوح: وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء، الآية: 118].
و المعية نحو ارتباط حاصل تارة: بين الخالق و المخلوق حدوثا و بقاء، قال تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4] و يعبر عنها بالمعية القيّومية و تلازمها المعية الزمانية و المكانية و الجامع
ما ذكره علي (عليه السّلام): «مع كل شيء لا بالمجانسة و غير كل شيء لا بالمباينة».
و أما معية المخلوق مع خالقه فيعبر عنها بعبارات مختلفة، أولها العبودية و آخرها الفناء في اللّه تعالى و نتيجة الجميع البقاء باللّه تعالى.
و أخرى: تحصل من عونه و نصرته و توفيقه، و تسبيب أسباب الخير، و منها معيّته تعالى مع الصابرين و المتقين و الأنبياء و الصالحين، فتكون معيته تعالى لهم من جهتين جهة قيموميته تعالى، و جهة فعله و عنايته و نصرته لهم. و هناك معان أخرى للمعية تأتي في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 165
قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . المراد من القول هو الأعم من الإعتقاد و التعبير بالألفاظ، فاستعمل في الجامع.
و القتل إزهاق الروح عن الجسد إذا لوحظ فيه الإضافة إلى الفاعل. و أما إذا لوحظ فيه الإضافة الى المقتول فيصح التعبير عنه بالموت أيضا. هذا بحسب الشايع المتعارف و إلّا فيصح إطلاق القتل بالنسبة إلى الجنين الذي لم تتعلق به الروح بعد كما ورد في بعض أحاديث دية الجنين.
كما لا يختص بإزهاق روح الإنسان بل يشمل الحيوان أيضا قال تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة، الآية: 2] و النصوص في هذا الإطلاق مستفيضة من الفريقين.
بل يطلق القتل على إزالة المعارف الحقة عن النفوس المستعدة أو دفعها عنها. فإنّ من تسبب في جهل الناس بالمعارف الإلهية فقد قتلهم شر قتلة لأنه أزال حياتهم الأبدية السرمدية كما يأتي التفصيل.
و قد ذكر القتل هنا بهيئة المضارع، و في قوله تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا [سورة آل عمران، الآية: 169] بهيئة الماضي، و لا فرق بينهما من هذه الجهة، لما ذكرناه من القاعدة الكلية المؤيدة بالدليل العقلي بانسلاخ الأفعال عن الزمان بحسب ذاتها و الخصوصيات الزمانية تستفاد من القرائن الخارجية.
و السبيل هو الطريق الذي فيه السهولة، و يستعمل في كل ما يتسبب به إلى المطلوب- خيرا كان أو شرا- قال تعالى: وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [سورة الأعراف، الآية:
164].
و قد ذكرت جملة «سبيل اللّه» في القرآن الكريم ما يزيد على ستين موردا و هو يدل على سعته و شموله و عظمته و أهميته، و تقدم الفرق بينه و بين الصراط في سورة الحمد عند قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و قد ذكر في القرآن الكريم و السنة المقدسة بعض المصاديق: مثل بذل النفس في إحياء كلمة التوحيد و تأييد الحق و قمع الباطل، و بذل المال للضعفاء، و إفشاء
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 166
الأخلاق الحسنة بين النّاس، و خدمة الوالد، و صلة الأرحام، و إغاثة اللهفان، و عون الضعيف و غير ذلك مما لا حد له و لا حصر، و تقدم قول: «إن الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق».
و المراد به في المقام الجهاد لإعلاء التوحيد و نصرة الحق و مقارعة الباطل و قمعه.
و ذكر القتل في سبيل اللّه بعد قوله تعالى: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ من باب ذكر أهم الأفراد و أعظم الأمور الّتي لا بد من الاستعانة بالصبر فيها، يعني: إن اللّه تعالى مع كل صابر خصوصا هذا القسم من الصابرين فإنه آخر درجة التصبر و الاصطبار، فيمنحهم اللّه تعالى المعونة و الأجر الجزيل.
قوله تعالى: أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ . أي: لا تقولوا: في شأن من قتل في سبيل اللّه أنهم أموات مفقودون عن الحس ذهبوا الى دار الفناء بل هم أحياء حياة أبدية و لكن لا تشعرون بها، لأن حياتهم في غير هذا العالم المحسوس المدرك بالمشاعر.
و المراد بالحياة هنا الأعم من الحياة في عالم البرزخ و الحياة الحقيقية لأجل إحياء الدين، و الحياة في الذكر و اللسان،
نظير ما ورد عن علي (عليه السّلام): «هلك خزان المال و هم أحياء و العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة و أمثالهم في القلوب موجودة»
و هو من باب ذكر بعض الأفراد الذي يبقى لا من باب الحصر.
و قد ذكر المفسرون في معنى الحياة هنا ما لا يرجع إلى محصّل كما يأتي تفصيل الكلام فيها.
و الحياة على أقسام:
الأول: الحياة الدنيوية الظاهرية المتقومة بتدبير النفس في البدن و إعمالها للقوى الظاهرية و الباطنية في الجسم الدنيوي فقط.
الثاني: الحياة الذكرى عند النّاس بعد ارتحال النفس عن البدن كما في العظماء و الأكابر الذين خلدت أسماؤهم في التاريخ تعظيما لجهودهم في
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 167
العلم و الأعمال الخيرية الصادرة منهم في حياتهم.
الثالث: الحياة الأبدية الخالدة التي لا يعلمها إلّا اللّه تعالى.
و ظاهر الآية المباركة و النصوص الواردة في حياة المقتول في سبيل اللّه هو القسم الأخير، لفرض أنّه بذل نفسه و نفيسه في سبيل الحي القيوم الأزلي الأبدي طلبا لرضائه و امتثال أمره، و لا تحديد في هذه الحياة كما بالنسبة إلى القسمين المتقدمين. و تتبع هذه الحياة الحياة بالمعنى الثاني، فما عن بعض المفسرين من أنّ المراد خصوص القسم الثاني فقط تخصيص للعموم بدون وجه.
إن قيل: مثل هذه الحياة ثابتة لكل فرد من أفراد المؤمنين و معلومة لهم، فلا وجه لتخصيصها بالشهيد.
يقال: إنّ أصل الحياة بعد الموت و إن كانت ثابتة للمؤمنين و معلومة لهم، لكن المستفاد من مجموع الآيات الشريفة و النصوص الواردة في حياة الشهيد أن فيها مزايا خاصة فوق أصل الحياة بمراتب كثيرة كما يدل عليها قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [سورة آل عمران، الآية: 169].
و الخطاب في الآية عام لا يختص بطائفة خاصة لا المشافهين و لا غيرهم لما ثبت في علم الأصول من أن الخطابات الواردة في الشريعة المقدسة- خصوصا ما ورد منها في القرآن الكريم- من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لجميع الأفراد.
فمن قال باختصاص الخطاب في المقام و في قوله تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [سورة آل عمران، الآية: 169] بطائفة خاصة.
لا وجه له إذ لا دليل عليه بل هو مخالف لطريقة العرف و العقلاء في محاوراتهم و لا سيما هذا الخطاب الوارد في مقام الترحم على العباد و الترأف بهم.
و القتل في سبيل اللّه تعالى هو الشهادة في سبيله تعالى: و الشهيد مشتق
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج2، ص: 168
منها الا أنّ الأول باعتبار أصل الحدوث و الثاني باعتبار الثبوت و الشهيد من أسماء اللّه تعالى و هو بمعنى الحضور الفعلي بالنسبة إلى جميع ما سواه، و لعل اطلاق الشهيد على من قتل في سبيل اللّه تعالى إنما هو لأجل حضوره لديه عزّ و جل متلبسا بما عاناه من الصعاب و الاضطهاد، أو حضور الملائكة لديه مبشرين له بأعلى المقامات و ارفع الدرجات التي أعدت له، و يصح الحمل على المعنى العام أي حضوره لديه للانتصار و حضور الملائكة لديه لبشارته بالجزاء، و المراد من حضوره تعالى هو توجهه الخاص به.
فالشهادة هي السفر من الخلق إلى الحق و لا تختص بخصوص من بذل دمه في سبيل اللّه بل تشمل كل من تحمل الأذية مطلقا في سبيله عزّ و جلّ،
و في جملة من الأحاديث: «المؤمن شهيد و لو مات في فراشه»
إلّا أن للشهيد الذي بذل دمه له أحكاما خاصة و يأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة.
و الآية تدل على تجرد النفس و هو حق لا ريب فيه كما ثبت بالأدلة الكثيرة و هو المستفاد من الكتب السماوية و القرآن المبين و النصوص المتواترة من السنّة الشريفة و يأتي في البحث الفلسفي تفصيل الكلام فيه.
قوله تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ . مادة (بلا) تأتي بمعنى الامتحان و الاختبار و تقدم ما يتعلق بها في قوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [سورة البقرة، الآية: 124].
و الشيء من الألفاظ العامة الشاملة للقليل و الكثير، و الجواهر و الأعراض.
و الخوف توقع المكروه- مظنونا كان او معلوما- بعكس الرجاء فإنه توقع المحبوب كذلك.
و المعنى: لنمتحنكم بشيء من الخوف من العدو أو بشيء من الجوع.