کتابخانه تفاسیر
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج9، ص: 5
الجزء التاسع
[تتمة تفسير سورة النساء]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النساء (4): الآيات 69 الى 70]
بعد أن ذكر سبحانه و تعالى وجوب طاعة اللّه و الرّسول، و أحكم عزّ و جلّ هذا الحكم الإلهي المهمّ بعدّة أمور، و وعد عليه الوعد الحسن من الأجر العظيم، و الهداية إلى الصّراط المستقيم، يبيّن جلّ شأنه في هاتين الآيتين الشريفتين حقيقة الهداية، و نوع ذلك الجزاء، و أن ذلك الصّراط المستقيم هو الّذي سار عليه أخلص عباد اللّه المصطفين الأخيار، الّذين أنعم اللّه عليهم الهداية و عرفان الحقّ و العمل به و فعل الخيرات، و هم الّذين يأمل كلّ إنسان و يتمنّى أن يرافقهم في جميع العوالم، و قد بيّن عزّ و جلّ أن هذا هو الفضل الّذي لا يمنحه جلّ شأنه لأحد، إلّا مع الحكمة البالغة و العلم الأتمّ.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج9، ص: 6
التفسير
قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ
وعد حسن لمن أطاع اللّه تعالى و الرّسول، و هو بأسلوبه البديع و مضمونه الرفيع، يقابل الصورة الّتي ذكرها القرآن الكريم للمنافقين، الّذين يزعمون الإيمان و يتحاكمون إلى الطاغوت، فتضمّنت صورة طاعة اللّه و الرّسول على أمور مهمّة تكشف عن أهميّة الموضوع في حياة الإنسان في جميع المراحل و العوالم، كنوع الجزاء، و الأصناف الّتي يجب أن ترافق الفرد، و الصّراط الّذي لا بدّ أن يتّخذه المطيع سبيلا يسير عليه، و الغاية الّتي يجب أن يتوخّاها، و ما يجب أن يفعله حتّى يتهيّأ لفضل اللّه تعالى و الفيض الربوبيّ العظيم.
و ظاهر الآية الشريفة أنّها في مقام بيان الصراط المستقيم، الّذي ورد ذكره في الآية السابقة، أي أنّ الصراط المستقيم هو الصراط الّذي سار عليه النبيّون و الصديقون و الشهداء و الصالحون، و هم الّذين أنعم اللّه عليهم بالهداية.
و إنّما جمع سبحانه و تعالى بين طاعة اللّه و طاعة الرسول؛ لبيان أنّ طاعته طاعة اللّه تعالى، و أنّهما أصلان يكمّل أحدهما الآخر، و لا سبيل للتفكيك بينهما، و لتأكيد مضمون قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [سورة النساء، الآية: 59]، فرجع الختام إلى ما بدأ به الكلام، و هو من الأساليب الحسنة في الكلام.
و أنّ الآية السابقة قد تعرّضت لحال المنافقين الّذين أعرضوا عن طاعة الرسول فقط؛ لأنّهم لم يتجاهروا بالإعراض عن طاعة اللّه تعالى، فنزل فيهم الحكم الصريح بأنّه لا فائدة في تلك الطاعة الموهومة الكاذبة، و لكن هذه الآية الشريفة تبيّن الشرط الّذي لا بدّ منه في اكتساب تلك السعادة الّتي يتوخّاها المؤمن المطيع في صحبة من أنعم اللّه عليهم الجزاء الحسن.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج9، ص: 7
قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .
بيان لأمر حقيقي، و هو أنّ الطاعة للّه و الرسول تستلزم الدخول في مسلك من أنعم اللّه عليهم. و سياق العبارة يدلّ على أنّ المطيعين ملحقون بهم و هم معهم في جميع العوالم، و هم منهم دون الصيرورة، و الإشارة ب: (أولئك)؛ لبيان علو درجة المطيعين و بعد منزلتهم فضلا و شرفا.
و المراد من النعمة- الّتي ظاهر العبارة الدالّ على عظمتها و قصور اللفظ عن بيانها و تفصيلها- هي تلك النعمة الّتي تفضّل عزّ و جلّ بها على أفراد معينين، و هم المخلصون الّذين آثروا حكم اللّه تعالى و رسوله على حكم الطاغوت، و سلّموا أمرهم الى اللّه تعالى، و هي الّتي نوّه عزّ و جلّ بها في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ [سورة الحمد، الآية: 7]. و هي النعمة الّتي تؤهّل الفرد في سلوك هذا الصراط و قبول الفيض الربوبيّ، و قد أشار إليها عزّ و جلّ في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم، و هي تنحصر في نعمة الولاية.
قوله تعالى: مِنَ النَّبِيِّينَ .
بيان للمنعم عليهم، و هو حال إما من «الّذين»، أي: أنّهم أنعم اللّه عليهم حال كونهم من النبيّين. أو من ضميره. و أجاز بعضهم أن يتعلّق الظرف بقوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ ، أي: من النبيّين و من بعدهم، فيكون قوله «أولئك» إشارة إلى الملأ الأعلى، و لكن هذا الوجه خلاف الظاهر كما هو واضح.
و قد ذكر عزّ و جلّ أربعة طوائف ممّن أنعم عليهم بالهداية و التوفيق، و قد اتّصفوا بمكارم الأخلاق إلّا أنّ كلّ طائفة تختلف عن الاخرى ببعض الأمور الموجبة لاختلافها في المنزلة و الدرجة، فلا وجه للقول بأنّ الصدّيقين و الشهداء و الصالحين أوصاف متداخلة لموصوف واحد، فهم في الحقيقة فريقان، الأنبياء،
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج9، ص: 8
و المتّصفون بالصفات الثلاثة، فإنّ هذا القول خلاف ظاهر الآية الشريفة، و لعلّ ذكرهم للإعلام باختلاف درجات المطيعين، كما عرفت سابقا.
و النبيّون هم أصحاب الوحي، الّذين وصفهم اللّه تعالى في القرآن الكريم بأوصاف متعدّدة تدلّ على عظم شأنهم و جلالة قدرهم و علوّ منزلتهم، بل هم في أعلى عليّين؛ لما لهم من النفس القدسية الّتي استمدت قدسيتها من القوّة الإلهيّة، فهم قد رأوا الأشياء عيانا.
و إنّما ذكر عزّ و جلّ النبيّين دون نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله- مع أنّ الكلام في بيان طاعة الرسول- للإعلام بأنّ طاعته متضمّنة لطاعتهم عليهم السّلام.
قوله تعالى: وَ الصِّدِّيقِينَ .
و هم الطائفة الثانية. و الصدّيقين جمع الصدّيق، مبالغة في الصدق، أي: الّذين طابق قولهم فعلهم، و ظاهرهم باطنهم، فلا يصدر منهم إلّا الحقّ اعتقادا و قولا و فعلا؛ لصفاء سريرتهم و عدم صدور الكذب عنهم و ممارستهم الصدق، فالهموا الصواب، فميّزوا الحقّ عن الباطل و الخير عن الشرّ، فهم شهدوا الحقائق، فكانوا صادقين بالحقّ، فصاروا صدّيقين شهداء الحقائق و الأعمال.
و قد فسّر بعض العلماء الصدّيق بمن كثر صدقه، أو من لا يتأتّى منه الكذب لتعوّده على الصدق، و لكن ما ذكرناه أولى، فإنّه قد يكون الفرد كذلك، لكن لا يصل الى درجة الصدّيق الّذي له مرتبة الشهادة على الأعمال و الحقائق. و الّذي تكون منزلته دون منزلة الأنبياء و رتبته دون مرتبتهم، كما هو ظاهر الآية الشريفة.
قوله تعالى: وَ الشُّهَداءِ .
و هم الطائفة الثالثة، أي الّذين تولّاهم اللّه تعالى بالشهادة، و جعلهم من المقرّبين، فشهدوا الحقّ و أريقت دماؤهم في سبيله، لنيل رضاءه و حبّه جلّت عظمته.
و ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالشهداء هم شهداء الأعمال، و لكن ذكرنا في
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج9، ص: 9
أحد مباحثنا السابقة أنّ الشهيد في سبيل الحقّ و إعلاء كلمة اللّه تعالى، يكون شهيدا على الأعمال أيضا، فبينهما تلازم في الجملة.
قوله تعالى: وَ الصَّالِحِينَ .
و هم الّذين صلحت نفوسهم و استقامت أحوالهم و طريقتهم باتباعهم شريعة اللّه جلّ شأنه و الدوام على طاعته، فصاروا حججه على خلقه، يحتجّ بهم على من يخرج عن الصراط المستقيم، و بتزكية نفوسهم بصالح الأعمال، فتأهّلوا لفيضه عزّ و جلّ و تهيّؤوا لنعمه و كرامته. و هذه الطائفة هي آخر الطوائف الّتي هي صفوة اللّه تعالى من عباده.
و الصالحين: جمع الصالح، و هو الّذي صلحت حاله و استقامت طريقته. و أمّا المصلح، فهو الفاعل لما فيه الصلاح.
قوله تعالى: وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً .
الرفيق كالصديق و الخليط، بمعنى الصاحب، سمّي بذلك للارتفاق به، و هو منصوب على التمييز، و فعيل يستوي فيه الواحد و غيره، و في التمييز أيضا يكتفى بالواحد عن الجمع، و قيل: إنّه منصوب على الحال، أي حال كونهم رفقاء أولئك الطوائف الّذين تقدّم ذكرهم.
و الرفيق جماعة الأنبياء الّذين يسكنون أعلى عليّين، و في حديث الدعاء:
«و الحقني بالرفيق الأعلى»، و قيل في معنى ذلك: ألحقني باللّه تعالى، يقال: اللّه رفيق بعباده، من الرفق و الرأفة، فهو فعيل بمعنى الفاعل، و منه حديث عائشة:
«سمعته صلّى اللّه عليه و آله يقول عند موته: بل الرفيق الأعلى». و ذلك أنّه صلّى اللّه عليه و آله خيّر بين البقاء في الدنيا و بين ما عند اللّه، فاختار ما عند اللّه تعالى.
و لكنّ الرفيق في الآية المباركة اسم جاء على فعيل، بمعنى الخليط و الصديق، يطلق على الجماعة المذكورة فيها لا بمعنى الرفق.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج9، ص: 10
و في الآية الشريفة من التشويق و الترغيب و الوعد الكبير ما لا يخفى، و قيل:
إنّ فيه معنى التعجيب، أي: و ما أحسن أولئك رفيقا.
و المعنى: حسن مرافقة أولئك الطوائف الّتي يرتفق بهم لرفع كلّ ما يوجب الخوف و الحزن.
و إنّما وصف رفقتهم بالحسن؛ لاحتياج الإنسان بالرفقة في السفر الطويل الّذي يستقبله، فتفيض تلك الطوائف على من يرافقهم ممّا أنعم اللّه تعالى عليهم؛ و لأنّ في رفقة هؤلاء الخير الكثير؛ و لتأثير الرفيق في صاحبه أثرا كبيرا، فإذا كان ممّن أنعم اللّه عليه، كان أثره في صاحبه حسنا؛ و لارتفاق الأصحاب بعضهم بعضا.
و لا تختصّ الآية الكريمة بعالم دون عالم، فتشمل عالم الدنيا و البرزخ و الآخرة، فإنّ في جميعها يحتاج الإنسان إلى رفيق يرافقه في مسيره الاستكمالي، ليدله على الطريق الصحيح و يرشده إلى ما هو خير له، و يجنّبه عن المخاطر. و في الآية المباركة التفات من الغيبة الى الخطاب. كما أنّ في الآيات السابقة موارد مختلفة من الالتفات الدالّ على عظمة الخطاب و أهميّة الموضوع.
قوله تعالى: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ .
الاسم (ذلك) إشارة إلى الجزاء الّذي ثبت للمطيعين، و منه مرافقة من أنعم اللّه عليه، و الفضل الّذي تفضّل اللّه تعالى عليهم. أي: أنّ ذلك الجزاء هو الفضل الّذي لا يكون غيره فضلا، و لا يعلوه فضل آخر، و ليس له حدّ، فإنّ فيه غاية السعادة و منتهى الكمال الّذي يتفاضل به الناس، و هذا الفضل هو من اللّه تعالى تفضّل به على عباده المطيعين؛ ثوابا لهم على إطاعتهم و أعمالهم الصالحة.
و في إتيان اسم الإشارة الدالّ على البعيد، و دخول اللّام في الصفة (الفضل) أو الخبر، يدلّ على تفخيم هذا الفضل و تعظيمه، كأنّه هو الفضل دون غيره.
قوله تعالى: وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً .