کتابخانه تفاسیر
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج11، ص: 195
و في الكافي أيضا بإسناده عن سماعة، عن الصادق عليه السّلام قال: «قلت له: قول اللّه عزّ و جلّ: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ، قال: من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنّما أحياها، و من أخرجها من هدى إلى ضلالة فقد قتلها».
أقول: المراد من الحياة و الممات في الرواية الحياة المعنويّة و الممات المعنويّ، كمن أخرجها من الكفر إلى الإيمان، و تقدّم سابقا أنّهما أفضل من الحياة الجسميّة، كما تدلّ عليه الآيات المباركة و الروايات المستفيضة، و الرواية من باب التطبيق على أكمل الأفراد و أجلاها، أو من باب التأويل الأعظم كما في بعض الروايات، و لا تنافي النجاة من الحرق و الغرق و غيرهما، لشمول الإحياء له كما هو المعلوم.
و في الكافي بإسناده عن معاوية بن عمار، عن الصادق عليه السّلام قال: «من يسقي الماء في موضع يوجد فيه الماء، كان كمن أعتق رقبة، و من سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء، كمن أحيا نفسا، و من أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعا».
أقول: الرواية من باب ذكر بعض الأفراد و المصاديق.
و عنه بإسناده أيضا عن حمران قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: اسألك أصلحك اللّه تعالى؟ فقال: نعم، فقلت: كنت على حال و أنا اليوم على حال أخرى، كنت ادخل الأرض فأدعو الرجل و الاثنين و المرأة، فينقذ اللّه من يشاء أن اليوم لا ادعو أحدا؟ فقال: و ما عليك أن تخلي بين الناس و بين ربّهم، فمن أراد اللّه أن يخرجه من ظلمة إلى نور أخرجه، ثمّ قال: و لا عليك إن أنست من أحد خيرا أن تنفذ إليه الشيء ابتداء، قلت: أخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ، قال: من خرق أو غرق، ثمّ سكت، ثمّ قال: تأويلها الأعظم إن دعاها فاستجابت له».
أقول: ورد في كثير من الروايات أنّ دعاء المؤمن لأخيه في ظهر الغيب لا يردّ، و أنّ تأخير الآثار لا ينافي ذلك. و تبدّل الحالات النفسانيّة في الإنسان كثير، مؤمنا كان أو كافرا، و الرواية من باب التطبيق، و لعلّ المراد من التأويل الأعظم
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج11، ص: 196
ذكر أجلى المصاديق و أكملها للآية المباركة، و هو المراد من ذلك في كلمات الأئمة عليهم السّلام.
و في الدرّ المنثور عن علي عليه السّلام: «انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: بدمشق جبل يقال له قاسيون، فيه قتل ابن آدم أخاه».
أقول: على فرض صحّة الرواية، فإنّها لا تنافي أن يكون الدفن في محلّ آخر، لما في بعض الروايات: «مكث يحمل أخاه في جراب على رقبته سنة».
و في الدرّ المنثور عن البراء بن عازب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما قتلت نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم القاتل الأوّل كفل من دمها، لأنّه أوّل من سنّ القتل».
أقول: و قريب منه غيره، و إنّها مطابقة لقاعدة: «من سنّ سنّة سيئة فله وزر من عمل بها»، و لعلّ هذا هو المراد من ذيل الآية المباركة: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ، فتأمّل جيدا.
و عن ابن عباس في قوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً قال:
«من قتل نبيّا أو إمام عدل، فكأنّما قتل الناس جميعا».
أقول: الآية المباركة مطلقة، و ما ذكره ابن عباس من باب أكمل الأفراد و أجلى المصاديق أو الأولويّة، لا من باب التخصيص.
و في الدرّ المنثور بإسناده عن الحسن قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه لا يقبل عمل عبد حتّى يرضى عنه».
أقول: رضاء اللّه تعالى عن عبده يلازم التقوى و هي المناط، لأنّ غيرها لا يقبل، و لا يدور الإخلاص إلّا عليها، و لكنّ الواعظين بها كثيرون و العاملين بها قليلون، و للتقوى مراتب مختلفة و درجات كثيرة، كما أنّ رضاه تعالى كذلك.
و اعلم: أنّ هناك روايات ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور تدلّ مضامينها على ذمّ الانقياد و الجلوس بترك الدفاع، و أنّ هابيل ترك الدفاع عن نفسه، فوقع القتل عليه.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج11، ص: 197
و هذه الروايات لا بدّ من حملها على ما إذا لم يستلزم تضييع الحقّ و لا التعدّي على حرمات اللّه تعالى، و إلّا فإنّ الدفاع عن النفس، و انتصار الحقّ، و كشف الكرب عن المظلوم بردع الظالم، و حفظ مشاعر الدين عن المعتدين بالجهاد و غيرها، من الواجبات العقليّة النظاميّة، أكد عليها الشرع.
و من المحتمل أنّ الروايات صدرت عن أشخاص أرادوا منها جوانب خارجية، لعلّ منها صرف المسلمين عن الحرب مع علي عليه السّلام ضدّ معاوية أو الخوارج أو طلحة و الزبير، أو تجميد دوافعهم التي كانت تؤيّد الحقّ و تسانده.
و كيف كان، فلا بدّ من حمل الروايات و إلّا فتطرح.
و هناك روايات اخرى تتعلّق بقصة قابيل و مجازاته، ذكرها أرباب التفاسير- كالسيوطي و غيره- لا يقبلها العقل، و هي أشبه بالقصص الوهميّة أو الخرافات الخياليّة، فلا بدّ من طرحها أيضا و اللّه العالم.
بحث كلامي
: وردت كلمة التقوى في القرآن و السنّة- بل في الكتب السماويّة- كثيرا، و حثّت عليها الشرائع الإلهيّة و رغّبت إليها. و هي صفة- أو حالة نفسانيّة- تعرض على الإنسان الملتزم بالدين، و قد تزول عنه حسب العوامل النفسيّة و المكائد الشيطانيّة، فهي من الأمور الإضافيّة، تختلف حسب درجات الإيمان و الثقة بالمبدأ عزّ و جلّ.
و هي في اللغة: جعل النفس في وقاية ممّا يخاف. بل جعل نفس الخوف تقوى، من باب تسمية مقتضي الشيء باسم مقتضاه.
و قد عرّفت في الشرع بتعاريف متعدّدة، و لعلّ أسلمها: حفظ النفس عمّا يؤثم. و ذلك بترك المحظور، و يتحقّق باجتناب بعض المباحات، أي التنزّه عن الحلال مخافة الوقوع في الحرام، لما روي: «الحلال بيّن و الحرام بيّن، و من رتع حول
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج11، ص: 198
الحمى فحقيق أن يقع فيه»، و غيره من الروايات قال اللّه تعالى: فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة الأعراف، الآية: 35].
و قيل: إنّها صفة راسخة في النفس توجب الاجتناب عن المأثم و المشتبهات، و هذا التعريف يرجع إلى الأوّل، و إنّما الاختلاف في التعبير.
و قيل: هي الامتناع عن الرديء باجتناب ما يدعو إليه الهوى، و هذا أعمّ ممّا تقدّم.
و كيف كان، فإنّه لا يمكن تحقيق التقوى إلّا بترك المشتبهات، فضلا عن المحرّمات، ففي رواية يونس عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ : «أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك و المبلغ إلى جنّتك من أن نتبع أهواءنا فنعطب، و نأخذ بآرائنا فنهلك، فإنّ من اتّبع هواه و أعجب برأيه كان كرجل سمعت غناء الناس تعظّمه و تصفه، فأحببت لقائه من حيث لا يعرفني، لأنظر مقداره و محلّه، فرأيته في موضع قد أحدقوا به جماعة من غثاء العامّة، فوقفت منتبذا عنهم متغشّيا بلثام، انظر إليه و إليهم، فما زال يراوغهم حتّى خالف طريقهم و فارقهم، و لم يقر، فتفرّقت جماعة العامّة عنه لحوائجهم، و تبعته أقتفي أثره، فلم يلبث أن مرّ بخباز فتغفّله فأخذ من دكانه رغيفا مسارقة، فتعجّبت منه، ثمّ قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثمّ مرّ بعده بصاحب رمّان، فما زال به حتّى تغفّله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة، فتعجّبت منه ثمّ قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثمّ أقول:
و ما حاجته إذا إلى المسارقة، ثمّ لم أزل اتّبعه حتّى مرّ بمريض فوضع الرغيفين و الرمّانتين بين يديه و مضى، و تبعته حتّى استقرّ في بقعة من صحراء، فقلت له:
يا عبد اللّه لقد لحقت بك و أحببت لقاءك فلقيتك، لكنّي رأيت منك ما شغل قلبي، و إنّي سائلك عنه ليزول به شغل قلبي، قال: ما هو؟ قلت: رأيتك مررت بخباز و سرقت منه رغيفين ثمّ بصاحب الرمّان فسرقت منه رمّانتين، فقال لي: قبل كلّ شيء حدّثني من أنت؟ قلت: رجل من ولد آدم من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، قال: حدّثني ممّن أنت؟ قلت: رجل من أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: أين بلدك؟ قلت:
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج11، ص: 199
المدينة، قال: لعلك جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قلت:
بلى، قال لي: فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شرّفت به و تركك علم جدّك و أبيك، لأنّه لا ينكر ما يجب أن يحمد و يمدح فاعله، قلت: و ما هو؟ قال: القرآن كتاب اللّه، قلت: و ما الذي جهلت؟ قال: قول اللّه عزّ و جلّ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، و قال تعالى: وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ، و إنّي لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، و لما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات. فلما تصدّقت بكلّ واحد منها كانت أربعين حسنة، انقص من أربعين حسنة أربع سيئات، بقي ست و ثلاثون. قلت: ثكلتك امّك، أنت الجاهل بكتاب اللّه، أما سمعت قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، إنّك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين، و لما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، و لما دفعتها إلى غيرها من غير رضا صاحبها كنت إنّما أضفت أربع سيئات و لم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات. فجعل يلاحيني فانصرفت و تركته». و يستفاد من هذه الرواية أنّ القبول مطلقا يدور مدار التقوى، و لولاها فالأعمال مجرّد صور لم يكن لها لبّ. نعم لكلّ منهما مراتب و درجات. و التقوى هي المسلك المهمّ للوصول إلى ساحة قربه و لاستقرار حبّه تعالى في القلب. و قد ذكر علماء السير و السلوك أنّ مقامات الرقي هي مراتب التقوى، و قسّموها إلى تقوى العوامّ و تقوى الخواصّ، و تقوى أخصّ الخواصّ. ثمّ إنّ المراد من التقوى في الآية المباركة: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، هو مجرّد التقرّب إليه عزّ و جلّ مع تقريره به، لا التقوى المصطلح، لتناسب ذلك لبدء التشريع و تلائمه مع بثّ النسل، و لم تكمل الحجّة بتمام جهاتها. و لكن تقدّم أنّ للتقرب إليه تعالى مراتب و درجات، و أنّه لم يرد مثل هذا التعبير القرآني إلّا في هذه الآية فقط.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج11، ص: 200
[سورة المائدة (5): الآيات 33 الى 34]
الآيتان الشريفتان تبيّنان أهمّ الأحكام الاجتماعيّة التي يقوم عليها النظام العامّ و ثبات الأمن و الأمان، و تحرّمان المحاربة و الإفساد المخلّين للنظام و الموجدين للخوف العامّ.
ففي الآية الشريفة الاولى يبيّن تعالى حدّ المحاربة، الذي هو شديد على قدر عظمة الجرم، الذي هو المحاربة مع اللّه العظيم و رسوله الكريم، و كان الحدّ مركّبا من الخزي في الدنيا بالقتل و الصلب و القطع من خلاف و النفي من الأرض، و العذاب العظيم في الآخرة.
و في الآية الثانية يبيّن عزّ و جلّ حكم من تاب قبل القبض و الاستيلاء عليه، و غفران اللّه تعالى له.
و لا يخلو ارتباط هاتين الآيتين بما سبق، كما تشمل المحاربة القتل الذي بيّنته الآيات السابقة في قصة قتل ابن آدم أخاه، و ما كتبه اللّه تعالى على بني إسرائيل من أجله، الذي لا يعدو أن يكون منعا للإفساد و المحاربة، إفساد للنظام، فكانت هذه الآيات المباركة بيانا لعقاب الإفساد الذي خلت الآيات السابقة منه.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج11، ص: 201
التفسير
قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ .
مادة (حرب) تدلّ على التعدّي و ما يضادّ السلم و السلام من الأذى و القتل و الضرر على النفس و المال، و الحرب (بالتحريك) هو أن يسلب الرجل ماله، يقال:
حربه يحربه- على وزن تعب- إذا أخذ ماله، فهو حريب و محروب. و المستفاد من اشتقاق هذه الكلمة أنّ الحرب أعمّ من القتل، فتشمل الاعتداء و السلب و إزالة الأمن و الإخلال بالنظام العامّ، و لا ريب أنّ ذلك يستلزم بحسب الطبع و العادة استعمال السلاح و التهديد، و ربّما القتل و أنحاء الأذى و الضرر. و قد ورد في السنّة الشريفة تفسير الآية المباركة بشهر السيف و نحوه ممّا ستعرف، فهو إنّما يكون من باب المثال.
و المحاربة مفاعلة، و قد ذكرنا في مواضع متعدّدة أنّ المفاعلة لا تتقوّم حقيقة معناها بطرفين كما يدعيه بعض، بل هذه الهيئة تدلّ على صدور الفعل من شخص و إنهائه إلى آخر، سواء صدر منه فعل أم لا.
و المحاربة مع اللّه تعالى بالمعنى الحقيقيّ مستحيلة، فلا بدّ أن يكون المراد منها مخالفة أحكامه المقدّسة و الاستهزاء بتعاليمه و تشريعاته و نقضها، كما أنّ محاربة الرسول صلّى اللّه عليه و آله إنّما هي إبطال ولايته في الأمور التي ثبتت من جانبه عزّ و جلّ، و يدخل فيه أذيّة أولياء اللّه تعالى الذين ثبتت ولايتهم من جانب الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأمر من اللّه تعالى، فتكون محاربة اللّه و رسوله معاداة اللّه تعالى و مخالفة أحكامه و نقضها و عدم تنفيذها و إبطال ولاية أولياء اللّه تعالى و إعلان مخالفتهم و معاداتهم.