کتابخانه تفاسیر
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج2، ص: 151
و قال صاحب العينية:
تجلّى حبيبى فى مرائى جماله
ففى كلّ مرئى للحبيب طلائع
فلمّا تبدى حسنه متنوّعا
تسمّى بأسماء فهن مطالع
فما برز فى عالم الشهادة هو من عالم الغيب على التحقيق، فرياض الملكوت فائضة من بحر الجبروت، (كان اللّه و لا شىء معه، و هو الآن على ما عليه كان)، و لا يعرف هذا ذوقا إلا أهل العيان، الذين وحدوا اللّه فى وجوده، و تخلصوا من الشرك جليه و خفيه، الذي أشار إليه بقوله:
[سورة الأنعام (6): الآيات 100 الى 102]
قلت: (الجن): مفعول أول لجعلوا، و (شركاء): مفعول ثان، و قدّم لاستعظام الإشراك، أو (شركاء): مفعول أول، و (للّه): فى موضع المفعول الثاني، و (الجن): بدل من شركاء، و جملة (خلقهم): حال، و (بديع): خبر عن مضمر، أو مبتدأ و جملة (أنّى): خبره، و هو من إضافة الصفة إلى مفعولها أي: مبدع السموات، أو إلى فاعلها: أي: بديع سمواته، من بدع؛ إذا كان على نمط عجيب، و شكل فائق، و حسن لائق.
يقول الحق جل جلاله، توبيخا للمشركين: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ فى عبادته، و هم الْجِنَ أي:
الملائكة؛ لاجتنانهم أي: استتارهم، فعبدوهم و اعتقدوا أنهم بنات اللّه، أو الجن حقيقة، و هم الشياطين؛ لأنهم أطاعوهم كما يطاع اللّه تعالى، أو: عبدوا الأوثان بتسويلهم و تحريضهم، فقد أشركوا مع اللّه، وَ الحال أن اللّه قد خَلَقَهُمْ أي: الجن أي: عبدوهم و هم مخلوقون، أو الضمير للمشركين، أي: عبدوا الجن، و قد علموا أن اللّه قد خلقهم دون الجن لعجزه، و ليس من يخلق كمن لا يخلق.
وَ خَرَقُوا لَهُ أي: اختلفوا و افتروا، أو زوروا برأيهم الفاسد له بَنِينَ كالنصارى فى المسيح، و اليهود فى عزير، وَ بَناتٍ كقول العرب فى الملائكة: إنهم بنات اللّه- تعالى اللّه عن قولهم- قالوا ذلك بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: بلا دليل و لا حجة، بل مجرد افتراء و كذب، سُبْحانَهُ وَ تَعالى أي: تنزيها له، و تعاظم قدره عَمَّا يَصِفُونَ من أن له ولدا أو شريكا.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج2، ص: 152
و كيف يكون له الولد أو الشريك، و هو بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ؟. أي: مبدعهما و مخترعهما بلا مثال يحتذيه، و لا قانون ينتحيه، و المعنى: أنه تعالى مبدع لقطرى العالم العلوي و السفلى بلا مادة؛ لأنه تعالى منزه عن الأفعال بالمادة. و الوالد عنصر الولد، و منفصل بانتقال مادته عنه، فكيف يمكن أن يكون له ولد؟. و لذلك قال:
أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ أي: من أين، أو كيف يكون له ولد، وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ يكون منها الولد، فإن انتفاء الصاحبة مستلزم لانتفاء الولد، ضرورة استحالة وجود الولد بلا والدة فى العادة، و انتفاء الصاحبة مما لا ريب فيه، و كيف أيضا يكون له ولد وَ قد خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه؟ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي: أحاط بما من شأنه أن يعلم كائنا ما كان، فلا تخفى عليه خافية مما كان، و مما سيكون من الذوات و الصفات، و من جملتها: ما يجوز عليه تعالى و ما يستحيل كالولد و الشريك.
ذلِكُمُ المنعوت بما ذكر من جلائل الصفات، هو اللَّهُ المستحق للعبادة خاصة، رَبُّكُمْ أي: مالك أمركم لا شريك له أصلا، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، مما كان و سيكون، و لا تكرار مع ما قبله؛ لأن المعتبر فيما تقدم خالقيته لما كان فقط، كما تقتضيه صيغة الماضي، بخلاف الوصف يصلح للجميع، و إذا تقرر أنه خالق كل شىء فَاعْبُدُوهُ ؛ فإن من كان خالقا لكل شىء، جامعا لهذه الصفات، هو المستحق للعبادة وحده، وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي: هو متولى أمور جميع عباده و مخلوقاته، التي أنتم من جملتها، فكلوا أمركم إليه، و توسلوا بعبادته إلى جميع مآربكم الدنيوية و الأخروية، فإنه يكفيكم أمرها بقدرته و حفظه.
الإشارة: كل من خضع لمخلوق فى نيل حظ دنيوى، إنسيا أو جنيا، أو أطاعه فى معصية الخالق، فهو مشرك به مع ربه، وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً «1» ، فلذلك عمل الصوفية على مجاهدة نفوسهم فى مخالفة الهوى؛ لئلا تميل بهم إلى شىء من السّوى، و تحرروا من رق الطمع، و توجهوا بهمتهم إلى الحق وحده، ليتبرأوا من أنواع الشرك كلها، جليها و خفيها. حفظنا اللّه بما حفظهم به. آمين.
ثم عرّف بذاته المقدسة، فقال:
[سورة الأنعام (6): آية 103]
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
يقول الحق جل جلاله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أي: لا تحيط به، و لا تناله بحقيقته، و عن ابن عباس:
(لا تدركه فى الدنيا، و هو يرى فى الآخرة)، و مذهب الأشعرية: أن رؤية اللّه فى الدنيا جائزة عقلا، لأن موسى عليه السّلام سألها، و لا يسأل موسى ما هو محال، و أحالته المعتزلة مطلقا، و تمسكوا بالآية، و لا دليل فيها؛ لأنه ليس الإدراك مطلق الرؤية، و لا النفي فى الآية عامّا فى الأوقات، فلعله مخصوص ببعض الحالات، و لا فى الأشخاص؛ فإنه فى قوة قولنا: لا كل بصر يدركه، مع أن النفي لا يوجب الامتناع. قاله البيضاوي.
(1) الآية 116 من سورة النساء
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج2، ص: 153
ثم قال تعالى: وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أي: يحيط علمه بها؛ إذ لا تخفى عليه خافية، وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فيدرك ما لا تدركه الأبصار، و يجوز أن يكون تعليلا للحكمين السابقين على طريق اللفّ، أي: لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف، و هو يدرك الأبصار لأنه الخبير، فيكون اللطيف مقابلا للكثيف، لا يدرك بالحاسة و لا ينطبع فيها. قاله البيضاوي و أبو السعود.
الإشارة: اعلم أن الحق جل جلاله قد تجلى لعباده فى مظاهر الأكوان، لكنه لحكمته و قدرته، قد تجلى بين الضدين، بين الأنوار و الأسرار، بين الحس و المعنى، بين مظهر الربوبية و قالب العبودية. فالأنوار ما ظهر من الأوانى، و الأسرار ما خفى من المعاني، فالحس ما يدرك بحاسة البصر، و المعنى ما يدرك بالبصيرة. فالحس رداء للمعنى، فمن فتح اللّه بصيرته استولى نور بصيرته على نور بصره، فأدرك المعاني خلف رقة الأوانى، فلم تحجبه الأوانى عن المعاني، بل تمتحق فى حقه الأوانى، و لا يرى حينئذ إلا المعاني. لذلك قال الحلاج، لما سئل عن المعرفة، قال: (استهلاك الحس فى المعنى)، فإذا فنى العبد عن شهود حسّه بشهود معناه، غاب وجوده فى وجود معبوده، فشاهد الحقّ بالحق. فالعارفون لمّا فنوا عن أنفسهم، لا يقع بصرهم إلا على المعاني، فهم يشاهدون الحق عيانا. و لذلك قال شاعرهم:
مذ عرفت الإله لم أر غيرا
و كذا الغير عندنا ممنوع
و قال فى الحكم: «ما حجبك عن الحقّ وجود موجود معه؛ إذ لا شىء معه، و إنّما حجبك توهّم موجود معه».
و قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أي: الأبصار الحادثة، و إنما تدركه الأبصار القديمة فى مقام الفناء. و قال الورتجبي: لا تدركه الأبصار، إلا بأبصار مستفادة، من أبصار جلاله، و كيف يدركه الحدثان؟ و وجود الكون عند ظهور سطوات عظمته عدم. ه. أو لا تحيط به، إذ الإحاطة بكنه الربوبية متعذرة. و على هذا حمل الآية فى نوادر الأصول، قال: إدراك الهوية ممتنع، و إنما يقع التجلي بصفة من صفاته.
و قال ابن عبد الملك فى شرح مشارق الصغاني، ناقلا عن المشايخ: إنما يتجلى اللّه لأهل الجنة، و يريهم ذاته تعالى، فى حجاب صفاته، لأنهم لا يطيقون أن يروا ذاته بلا حجاب مرتبة من مراتب الصفات. و قال الورتجبي:
التجلي لا يكون بكلية الذات، و لا بكلية الصفات، و إنما يكون على قدر الطاقات، فيستحيل أن يقال: تجلى كل الهوى لذرة واحدة، و إنما يتجلى لها على قدرها. ه.
و تتفاوت الناس فى لذّة النظر يوم القيامة على قدر معرفتهم فى الدنيا، و تدوم لهم النظرة على قدر استغراقهم هنا، فمن كان هنا محجوبا لا يرى إلا الحس، كان يوم القيامة كذلك، إلا فى وقت مخصوص، يغيبه الحق تعالى
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج2، ص: 154
عن حسه، فيشاهد معانى أسرار الربوبية فى مظاهر أنوار صفاته. و من كان هنا مفتوحا عليه فى شهود المعاني، كان يوم القيامة كذلك، لا تغيب عنه مشاهدة الحق ساعة.
قال الغزالي فى كتاب الأربعين: إذا ارتفع الحجاب بعد الموت انقلبت المعرفة بعينها مشاهدة. قلت: و معنى كلامه: أن ما عرفه به هنا من التجليات، صار بعينه هناك مشاهدة؛ لأن المعنى هناك غالب على الحس، بخلاف دار الدنيا، الحس فيها غالب، إلّا لمن غاب عنه و استهلكه. ثم قال: و يكون لكل واحد على قدر معرفته، و لذلك تزيد لذة أولياء اللّه تعالى فى النظر على لذة غيرهم، و لذلك يتجلى اللّه تعالى لأبى بكر خاصة، و يتجلى للناس عامة.
و قال فى الإحياء: و لمّا كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان التجلي على درجات متفاوتة، ثم ذكر حديث التجلي لأبى بكر المتقدم. ثم قال: فلا ينبغى أن يظن أن غير أبى بكر، ممن هو دونه، يجد من لذة النظر و المشاهدة ما يجده أبو بكر، بل لا يجده، إلا عشر عشره، إن كانت معرفته فى الدنيا عشر عشره، و لما فضل الناس بسر وقر فى صدره، فضل لا محالة بتجلّ انفرد به.
و قال أيضا: يتجلى الحق للعبد، تجليا يكون الكشاف تجلّيه، بالإضافة إلى ما علمه، كانكشاف تجلى المرئيات بالإضافة إلى ما تخيله- أي: إلى ما وصفه له الواصف. ثم قال: و هذه المشاهدة و التجلي هى التي تسمى رؤية، ثم قال: المعرفة الحاصلة فى الدنيا هى التي تستكمل، فتبلغ كمال الكشف و الوضوح و تنقلب مشاهدة، و لا يكون بين المشاهدة فى الآخرة و المعلوم فى الدنيا اختلاف، إلا من حيث زيادة الكشف و الوضوح. و قال أيضا: و بحر المعرفة لا ساحل له، و الإحاطة بكنه جلاله محال، و كلما كثرت المعرفة و قويت؛ كثر النعيم فى الآخرة، و عظم، كما أنه كلما كثر البذر و حسن؛ كثر الزرع و حسن، و لا يمكن تحصيل هذا البذر إلا فى الدنيا، و لا يزرع إلا فى صعيد القلب، و لا حصاد إلا فى الآخرة. ه.
قال شيخنا مولاى العربي رضى اللّه عنه: بل الرجال زرعوا اليوم و حصدوا اليوم. و فى تفسير الأقليشى لقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1» : ليس لهذه الهداية- مادام العبد فى الدنيا- نهاية، حتى إذا حصل فى جوار الجبار، و نظر إلى وجهه العظيم، كان حظه من النعيم بقدر ما هداه فى الدنيا لصراطه المستقيم. ه. و قال فى نوادر الأصول: فى الحديث: «إنّ من أهل الجنّة من ينظر إلى اللّه عزّ و جلّ غدوة و عشيّا». و روى عن معاذ أنه قال: «صنف من أهل الجنّة من ينظر إلى اللّه عزّ و جلّ، لا يستر الربّ عنهم و لا يحتجب» ثم قال: و ذكر أن الرضوان آخر ما ينال أهل الجنة، و لا شىء أكبر منه، و كل عبد من أهل الجنة حظه من الرضوان هناك فيها على قدر جوده بنفسه على اللّه فى الدنيا. ه.
(1) الآية 6 من سورة الفاتحة.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج2، ص: 155
و قوله تعالى: وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ، قال الورتجبي: هو بلطف ذاته ممتنع عن مطالعة خلقه، مع علو شأن علمه و إحاطته بجميعهم، وجودا و عدما، أي: و إنما يرى بنوره، لا بالحواس الخفاشية، فإنها تضعف عن مقاومة شعاعه، و تنخنس عند انكشاف سبحانه. ه. على نقل الحاشية الفاسية. و الله تعالى أعلم.
و لمّا كان الاطلاع على هذه الأسرار، به تنفتح البصائر، أشار إلى ذلك بقوله:
[سورة الأنعام (6): آية 104]
قلت: البصائر: جمع بصيرة، و هى عين القلب، كما أن البصر عين البدن، فالبصيرة ترى المعاني القديمة، و البصر يرى الحسيات الحادثة.
يقول الحق جل جلاله: قَدْ جاءَكُمْ أيها الناس بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي: براهين توحيده، و دلائل معرفته، حاصلة من ربكم، تنفتح بها البصائر، و تبصر بها أنوار قدسه، فَمَنْ أَبْصَرَ الحق، و آمن به، و استعمل الفكر فيه حتى عرفه، فَلِنَفْسِهِ أبصر، و لها نفع، وَ مَنْ عَمِيَ عنها، و لم يرفع بها رأسا، و ضل عن الحق، فَعَلَيْها و باله و ضرره، و لا يتضرر بها غيره، وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أرقب أعمالكم و أجازيكم، و إنما أنا منذر، و اللّه هو الحفيظ عليكم، يحفظ أعمالكم و يجازيكم عليها.
الإشارة: البصيرة كالبصر، أدنى شىء يقع فيها يضرّ بناظرها، و هى على أقسام: منها ما تكون عمياء، و العياذ بالله، و هى التي فسد ناظرها بفساد الاعتقاد، كبصيرة الكفار و من قاربهم، و منها ما تكون مريضة فقط، لا تقاوم شعاع شمس التوحيد الخاص، و هى بصيرة أهل الغفلة، و منها ما يخف مرضها فيكون لها شعاع، تدرك قرب نور الحق منها؛ و هى بصيرة المتوجهين من العباد و الزهاد و نهاية الصالحين.
و منها ما تكون قريبة البرء و الصحة، قد انفتحت، لكنها حيرى؛ لما فاجأها من النور، و هى بصيرة المريدين السائرين من أهل الفناء، و منها ما تكون صحيحة قوية، قد تمكنت من شهود الأنوار، و رسخت فى بحر الأسرار، و هى بصيرة العارفين المتمكنين فى مقام البقاء، و قد أشار فى الحكم إلى الثلاثة فقال: «شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، و عين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، و حق البصيرة يشهدك وجود الحق لاعدمك و لا وجودك، كان اللّه و لا شىء معه، و هو الآن على ما عليه كان».
و ذكر هذه الآيات، سبب لضلال أهل الشقاء و هداية أهل العناية، كما بيّن ذلك بقوله:
[سورة الأنعام (6): آية 105]
وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج2، ص: 156
قلت: تصريف الشيء: إجراؤه على أحوال متعاقبة و جهات مختلفة، و منه: تصريف الرياح لهبوبها من جهات مختلفة، و لما كانت آيات القرآن تنزل على أنواع مختلفة فى أوقات متعاقبة، شبهت، بتصريف الرياح على أنحاء مختلفة، (و ليقولوا): متعلق بمحذوف، أي: و ليقولوا: درست، صرفنا الآيات، و اللام للعاقبة، و كذلك: (و لنبينه):
المتعلق واحد.
يقول الحق جل جلاله: و مثل ذلك التصريف الذي صرفنا من الآيات، من قوله: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى «1» إلى قوله: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ «2» - نُصَرِّفُ الْآياتِ فى المستقبل لتكون عاقبة قوم الشقاء بها بتكذيبهم إياها، وَ لِيَقُولُوا لك: دارست «3» أهل الكتاب، و تعلمت ذلك منهم، و ليس بوحي، أو دَرَسْتَ هذه الأخبار و عفت، و أخبرت بها من إملاء غيرك عليك، كقولهم: أساطير الأولين، و ليكون عاقبة قوم آخرين الاهتداء، و إليهم الإشارة بقوله: وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي: و ليتضح معناه عند قوم آخرين، فيهتدوا به إلى معرفتى و توحيدى و محل رضوانى و كرامتى، فالخطاب متحد، و الأثر مختلف على حسب السابقة.
الإشارة: ظهور الآيات على يد أهل الخصوصية- كالعلوم اللدنية و المواهب الربانية- لا يوجب لهم التصديق لجميع الخلق، فلو أمكن ذلك لكان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أولى به، بل لا بد من الاختلاف، فقوم قالوا: هذه العلوم ... دارس فيها و تعلمها، و قوم قالوا: بل هى من عند اللّه لا كسب فيها، قال تعالى: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ «4» .
ثم أمر نبيه بالإعراض عن أهل الإنكار، فقال:
[سورة الأنعام (6): الآيات 106 الى 107]
يقول الحق جل جلاله: اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بالدوام على التمسك به، و الاهتداء بهديه، و دم على توحيده، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ؛ فلا تصغ إلى من يعبد معه غيره، وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، فلا تحتفل بأقوالهم، و لا تلتفت إلى رأيهم، و هذا محكم، أو: أعرض عن عقابهم و قتالهم، و هو منسوخ بآية السيف، وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا : لكن سبقت مشيئته بإشراكهم، و لو أراد إيمانهم لآمنوا، و هو حجة على المعتزلة، وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً : رقيبا، وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ تقوم بأمرهم، و تلجئهم إلى الإيمان؛ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ «5» .
(1) الآية 95 من سورة الأنعام.
(2) الآية 104 من السورة نفسها.
(3) قرأ ابن كثير و أبو عمرو (دارست) بألف، و قرأ ابن عامر و يعقوب (درست) أي: قدمت و بليت، و قرأ الباقون (درست) أي: حفظت و قرأت .. انظر: إتحاف فضلاء البشر.
(4) الآية 118 من سورة هود.
(5) الآية 23 من سورة فاطر.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج2، ص: 157
الإشارة: الإعراض عن الخلق و الاكتفاء بالملك الحق ركن من أركان الطريق، قال الشيخ زروق رضى اللّه عنه: أصول الطريقة خمسة أشياء: تقوى اللّه فى السر و العلانية، و اتباع الرسول فى الأقوال و الأفعال، و الإعراض عن الخلق فى الإقبال و الإدبار، و الرجوع إلى اللّه فى السراء و الضراء، و الرضا عن اللّه فى القليل و الكثير. ه.
ثم نهى عن التعرض لأصنامهم، فقال:
[سورة الأنعام (6): آية 108]
يقول الحق جل جلاله: وَ لا تَسُبُّوا أصنامهم الَّذِينَ يدعونها آلهة، و يخضعون لها مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: و لا تذكروا آلهتهم بسوء، فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً أي: ظلما و تجاوزا عن الحق إلى الباطل، بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: على جهالة بالله تعالى، و بما يجب أن يذكر به من التعظيم، روى أنه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يطعن فى آلهتهم، فقالوا: لتنتهين عن آلهتنا أو لنهجون إلهك، فنزلت. و قيل: كان المسلمون يسبون آلهتهم، فنهوا؛ لئلا يكون سبهم سببا لسب اللّه تعالى، و استدل المالكية بهذا على سد الذرائع. قال البيضاوي: و فيه دليل على أن الطاعة إذا أدت لمعصية راجحة وجب تركها، فإنّ ما يؤدى إلى الشر شر. ه. و قال ابن العربي: وقاية العرض بترك سنة واجب فى الدنيا. ه.
قال تعالى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ من الخير و الشر، نحملهم على ما سبق لهم توفيقا أو تخذيلا، أو يكون مخصوصا بالشر، أي: زيّنا لكل أمة من الكفرة عملهم السوء؛ كسب اللّه تعالى و غيره من الكفر، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الخير فيجازيهم عليه، أو من الشر فيعاقبهم عليه.
الإشارة: العارف الكامل لا ينقص شيئا من مصنوعات اللّه، و لا يصغر شيئا من مقدورات اللّه، بل يتأدب مع كل شىء؛ لرؤية صنعة اللّه فى كل شىء، و كذلك المريد اللبيب، يتأدب مع كل من ظهر بالخصوصية فى زمنه، كان صادقا أو كاذبا؛ لئلا يؤدى إلى تنقيص شيخه، حين يذكر غيره بنقص أو غض. و فى الحديث: «لعن اللّه من يسبّ والديه، فقالوا:
و كيف يسبّ والديه يا رسول اللّه؟ قال: يسبّ أبا الرجل فيسب الرجل أباه و أمه» «1» أو كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم.
ثم ردّ عليهم فى اقتراح الآيات، فقال:
[سورة الأنعام (6): الآيات 109 الى 110]
(1) أخرجه البخاري فى (الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه) و مسلم فى (الإيمان، باب: بيان الكبائر) عن عبد اللّه بن عمرو.