کتابخانه تفاسیر
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 250
أي: بعد المشرق و المغرب، أي: تباعد كلّ منهما من صاحبه، فغلب المشرق على المغرب، كما قيل: القمران و العمران، و أضيف البعد إليهما، فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت.
قال تعالى: وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أي: يوم القيامة إِذْ ظَلَمْتُمْ أي: حين صحّ و تبيّن ظلمكم و كفركم، و لم تبق لكم و لا لأحد شبهة فى أنكم كنتم ظالمين. و «إذ»: بدل من اليوم. و قوله: أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ :
فاعل ينفع، أي: لن ينفعكم يوم القيامة اشتراككم فى العذاب، كما كان فى الدنيا يهون عليكم المصيبة اشتراككم فيها، لتعاونكم فى تحمل أعبائها و تقسيمكم لعنائها، و لذلك قيل: المصيبة إذا عمّت هانت، و إذا خصت هالت، و فى ذلك تقول الخنساء:
و لو لا كثرة الباكين حولى
على إخوانهم لقتلت نفسى
و لا يبكون مثل أخى و لكن
أعزّى النّفس عنه بالتأسّى «1»
أما هؤلاء فلا يؤسّيهم اشتراكهم، و لا يروّحهم، لأن بكلّ منهم ما لا تبلغه طاقة، و قد ورد أنهم يكونون فى توابيت من نار، لا يرى أحد صاحبه، بل يظن أنه وحده فيها. و قيل: الفاعل مضمر، أي: و لن ينفعكم هذا التمني، أو هذا الاعتذار؛ لأنكم فى العذاب مشتركون؛ لاشتراككم فى سببه، و هو الكفر، و يؤيده: قراءة من قرأ: «إنكم» بالكسر.
و كان صلّى اللّه عليه و سلم يبالغ فى المجاهدة فى دعاء قومه، و هم لا يزيدون إلا غيا و تعاميا عما يشهدونه من شواهد النّبوة، و تصامما عما يسمعونه من القرآن، فأنزل اللّه تعالى: أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ ، و هو إنكار و تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم، و قد تمرنوا فى الكفر، و استغرقوا فى الضلال، حيث صار ما بهم من العشى عما مقرونا بالصمم، أي: أ فأنت تقدر أن تسمع من فقد سمع القبول، أو تهدى من فقد بصر الاستبصار. وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: و من كان فى علم اللّه أنه يموت على الضلال. و مدار الإنكار هو التمكن و الاستقرار فى الضلال المفرط، بحيث لا ارعواء له منه، لا توهم القصور من قبل الهادي، ففيه رمز فى أنه لا يقدر على ذلك إلا اللّه.
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أي: فإن قبضناك قبل أن ننصرك على أعدائك، و نشفى صدور لمؤمنين منهم، فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أشد الانتقام فى الآخرة. أَوْ نُرِيَنَّكَ العذاب الَّذِي وَعَدْناهُمْ بل أن نتوفينك، كما وقع بهم يوم بدر، فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ بحيث لا ناصر لهم من حلول نقمتنا و قهرنا. و «إما»: شرط دخلت «ما» على «إن» توكيدا للشرط، و زاد التوكيد نون الثقيلة.
(1) انظر البحر المحيط (8/ 17) تفسير القرطبي (7/ 6094).
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 251
الإشارة: كل من غفل عن ذكر اللّه تسلط الشيطان على قلبه بالوسوسة و الخواطر الردية، و قد ورد فى الحديث:
إن قلب ابن آدم بين ملك و شيطان، فإذا ذكر اللّه قرب الملك منه و انخنس الشيطان «1» ، و إذا غفل عن ذكر الشيطان قرب منه، فلا يزال يوسوسه و يمنيه حتى يغفله عن اللّه. و لا شك أن الذكر الذي يصرف الشيطان عن القلب إنما هو الذكر القلبي لا اللساني، فكم من ذاكر بلسانه و قلبه مشغول بهواه، فذكر اللسان نتائجه الأجور، و ذكر القلوب نتائجه الحضور و رفع الستور، و شتان بين من همه الحور و القصور، و من همه الحضور و رفع الستور، هذا من عامة أهل اليمين، و هذا من خاصة المقربين، فإن أردت يا أخى ذكر القلوب، و لمعان أسرار الغيوب، فاصحب الرجال، حتى ينقلوك من عالم الطبيعة إلى عالم الروحانية، و إلا بقيت فى عالم الأشباح.
قال القشيري: من لم يعرف قدر الخلوة مع اللّه، فحاد عن ذكره، و أخلد إلى الخواطر الرديّة، قيّض اللّه له من يشغله عن اللّه- و هذا جزاء من ترك الأدب فى الخلوة. و إذا اشتغل العبد فى خلوته مع ربّه، و تعرّض له من يشغله عن ربه، صرفه الحق عنه بأى وجه كان .. و يقال: أصعب الشياطين نفسك، و العبد إذا لم يعرف قدر فراغ قلبه، و اتّبع شهوته، و فتح ذلك الباب على نفسه، بقي فى يد هواه أسيرا، لا يكاد يتخلص منه إلا بعد مدة. ه.
[و قال فى الإحياء: للشيطان جندان؛ جند يطير، و جند يسير، و الوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار، و الشهوة عبارة عن حركة جنده السيار. ثم قال: فتحقق أن الشيطان من المنظرين، فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين؛ إلا أن تصبح و همومك هم واحد، و هو اللّه، فيشتغل قلبك باللّه وحده، فلا يجد الملعون مجالا فيك، فعند ذلك تكون من عباد اللّه المخلصين، الداخلين فى الاستثناء من سلطنته. و لا تظن أن يفرغ منه قلب فارغ من ذكر اللّه، بل هو سيال يجرى من ابن آدم مجرى الدم، و سيلانه مثل الهواء فى القدح، إن أردت أن يخلو عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو غيره، فقد طمعت فى غير مطمع، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه من الهواء لا محالة، فكذلك القلب المشغول بتفكر مهم فى الدين، يخلو عن جولان الشيطان، و إلا فمن غفل عن اللّه، و لو لحظة، فليس له فى تلك اللحظة قرين إلا الشيطان، و لذلك سبحانه: وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . ه. المرا منه] «2» .
(1) هذا معنى حديث، و لفظه: «إن الشيطان واضع حطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر اللّه خنس، و إن نسى التقم قلبه» رواه أبو يعلى فى مسنده (17/ 430) و البيهقي فى الشعب (540)، قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (7/ 149): رواه أبو يعلى: و فيه عدى بن أبى عمارة، و هو ضعيف.
(2) ما بين المعكوفتين من هامش النسخة الأم، و ليس فى غيرها.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 252
و كلّ من عوّق النّاس عن طريق الحق يصدق عليه قوله: وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ، فإذا تحققت الحقائق، و ارتفع الغطاء، و ظهر الصواب من الخطأ، قال للذى صده عن طريق القوم:
يا ليت بينى و بينك بعد المشرقين فبئس القرين، فيقول الحق جل جلاله: وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ حيث حرمتموها من الوصول إلىّ أنكم فى عذاب الحجاب مشتركون. و يقال لمن وعظ و دعا إلى اللّه، فلم يقبل منه:
أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ... الآية. فإما نذهبنّ بك بالموت، فيقع النّدم عليك، أو نرينك الذي وعدناهم من العز لك و النّصر، و الانتقام ممن آذى أولياء اللّه، فإنا عليهم مقتدرون.
ثم أمر بالثبوت فى طريق الحق، فقال:
[سورة الزخرف (43): الآيات 43 الى 45]
يقول الحق جل جلاله: فَاسْتَمْسِكْ أي: تمسك بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من الآيات و الشرائع، و اعمل بذلك، سواء عجلنا لك الموعود أو أخرناه، إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ؛ على دين قيم لا عوج فيه، و هو تعليل للأمر بالاستمساك. وَ إِنَّهُ أي: ما أوحى إليك لَذِكْرٌ ؛ لشرف عظيم لَكَ وَ لِقَوْمِكَ ؛ و لأمتك، أو: لقومك من قريش، فمازال العز فيهم، و الشرف لهم، من زمانه صلّى اللّه عليه و سلم إلى قرب الساعة. قال صلّى اللّه عليه و سلم: «لا يزال هذا الشأن فى قريش ما بقي منهم اثنان» «1» . و فى رواية: «لا يزال هذا الأمر فى قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبّ على وجهه ما أقاموا الدّين» «2» . قال ابن عباس: كان صلّى اللّه عليه و سلم يعرض نفسه على القبائل بمكة، و يعدهم الظهور، فإذا قالوا:
لمن الملك بعدك؟ أمسك فلم يجبهم، حتى نزلت: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ فكان بعد تلك إذا سئل قال: «لقريش» فلا يجيبونه، فقبلته الأنصار على ذلك «3» .
(1) أخرجه البخاري فى (المناقب، باب مناقب قريش ح 3501) و مسلم فى (الإمارة، باب النّاس تبع لقريش و الخلافة لقريش 3/ 1452 ح 1820) من حديث ابن عمر رضي اللّه عنه.
(2) جزء من حديث أخرجه البخاري، فى الموضع السابق (ح 3500)، من حديث معاوية رضي اللّه عنه.
(3) عزاه فى الدر المنثور (5/ 725) لابن عدى و ابن مردويه، عن علىّ و ابن عباس- رضي اللّه عنهما- قلت: على هامش النّسخة الأم مايلى: هذا غريب جدا، و المعروف أنه كان يقول: «الملك للّه يضعه حيث يشاء». ه.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 253
أو: و إنه لموعظة لك و لأمتك بأجمعها. وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ يوم القيامة عن شكركم هذه النّعمة، أو: عما أوحى إليه، و عن قيامكم بحقوقه، و عن تعظيمكم له.
وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ، فليس المراد سؤال الرّسل حقيقة، و لكنه مجاز عن النّظر فى أديانهم و الفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط فى ملة من ملل الأنبياء؟ و كفاه نظرا و فحصا نظره فى كتاب اللّه المعجز، المصدق لما بين يديه. و إخبار اللّه فيه بأنهم إنما يعبدون من دون اللّه ما لم ينزل به سلطانا. و هذه الآية فى نفسها كافية، لا حاجة إلى غيرها.
و قيل إنه صلّى اللّه عليه و سلم جمع له الأنبياء- عليهم السّلام- و قيل له: سلهم «1» ، و هو ضعيف. و قيل معناه: سل أمم من أرسلنا، و هم أهل الكتابين؛ التوراة و الإنجيل، و إنما يخبرونه عن كتب الرّسل، فإذا سألهم فكأنما سأل الأنبياء، و معنى هذا السؤال: التنبيه على بطلان عبادة الأوثان، و الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد، و أنه ليس ببدع ابتدعه حتى ينكر و يعادى. و قيل: الخطاب له، و المراد غيره ممن يرتاب. و اللّه تعالى أعلم.
الإشارة: الاستمساك بالوحى كان حاصلا له صلّى اللّه عليه و سلم، و إنما المراد الثبوت على ما هو حاصل، و الاسترشاد إلى ما ليس بحاصل، فالمراد الترقي فى زيادة العلم، و الكشف إلى غير نهاية، كقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، فالترقى لا ينقطع لمن تمسك بالوحى التمسك الحقيقي، بحيث كشف له عن غوامض أسرار القرآن، و زال الحجاب بينه و بين اللّه تعالى، فهو دائما فى زيادة العلم و الكشف، إلى ما لا نهاية له. و هذا هو الشرف العظيم فى الدارين. فمن لم يشكره سئل عنه، أو سلب منه فى الدنيا. ثم إن التوحيد فى الذات و الصفات و الأفعال مما أجمعت عليه الملل، و كل داع إنما يدعو إليه، و كلّ شيخ مربى إنما يوصل إليه، و من لم يوصل إليه أصحابه فهو دجّال. و باللّه التوفيق.
ثم سلّى رسوله بقوله:
[سورة الزخرف (43): الآيات 46 الى 50]
(1) ذكره البغوي (7/ 216) و القرطبي (7/ 6097) عن ابن عباس، و فيه: قال صلّى اللّه عليه و سلم: «لا أسأل فقد اكتفيت».
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 254
يقول الحق جل جلاله: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي: متلبسا بآياتنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فأجابوه بقولهم: فأتنا بآية إن كنت من الصادقين كما صرح به فى آية أخرى «1» . فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ ؛ يسخرون منها، و يهزؤون، و يسمّونها سحرا. و «إذا» للمفاجأة، و هو جواب «لمّا» لأن فعل المفاجأة معها مقدّر، و هو العامل فى «إذا»، أي: لما جاءهم فاجؤوا وقت ضحكهم منها، أي:
استهزؤوا بها أول ما رأوها، و لم يتأملوا فيها.
وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من الآيات إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ؛ قرينتها، و صاحبتها التي كانت قبلها، أي:
ما ظهر لهم آية إلا و هى بالغة أقصى مراتب الإعجاز، بحيث يجزم كلّ من ينظر إليها أنها أكبر من كلّ ما يقاس بها من الآيات. و المراد: وصف الكلّ بغاية الكبر من غير ملاحظة قصور فى شىء منها، قال النّسفى: و ظاهر النظم يدلّ على أن اللاحقة أعظم من السابقة، و ليس كذلك، بل المراد بهذا الكلام: أنهن موصوفات بالكبر، كما يقال: هما أخوان، كل منهما أكبر من الآخر. ه. و قال فى الانتصاف: الظاهر: أن كلّ آية إذا أفردت استغرقت عظمتها الفكر و بهرته، حتى يجزم أنها النّهاية، و أنّ كلّ آية دونها، فإذا نقل الفكر إلى الأخرى كانت كذلك.
و حاصله: أنه لا يقدر الفكر أن يجمع بين آيتين، لتتميز الفاضلة من المفضولة. ه.
وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ و هو ما قال تعالى: وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ «2» ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ... الآية «3» . لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ؛ لكى يرجعوا عما هم عليه من الضلال.
وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ، كانوا يقولون للعالم: إنما هو ساحر؛ لتعظيمهم علم السحر، أو: نادوه بذلك فى مثل تلك الحالة لغاية عتوهم و نهاية حماقتهم. و قرأ الشامي بضم الهاء «4» ، لاتباع حركة ما قبلها حين سقطت الألف، ادْعُ لَنا رَبَّكَ يكشف عنا العذاب بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي: لعهده عندك بأن دعوتك مستجابة، أو: بما عهد عندك من النّبوة و الجاه، أو: بما عهد من كشف العذاب عمن اهتدى، إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ؛ مؤمنون إن كشف عنا بدعوتك، كقوله: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ «5» ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ بدعوته إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ؛ ينقضون العهد، أي: فاجؤوا وقت نكث عهدهم بالاهتداء. و قد مرّ تمامه فى الأعراف «6» .
(1) فى قوله تعالى: .. إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ الآية 106 من سورة الأعراف.
(2) الآية 130 من سورة الأعراف.
(3) الآية 133 من سورة الأعراف.
(4) أي «يا أيّه» و بهذا قرأ ابن عامر.
(5) من الآية 134 من سورة الأعراف.
(6) راجع تفسير الآيات 133- 136 من سورة الأعراف.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 255
الإشارة: قد ظهرت الآيات على الأنبياء و الرّسل، فلم ينتفع بها إلا من سبقت له العناية، و كذلك ظهرت الكرامات على أيدى الأولياء الداعين إلى اللّه، فلم ينتفع بها إلا من سبق له التقريب و الاصطفاء. على أن الصادق فى الطلب لا يحتاج إلى ظهور كرامة، بل إذا أراد اللّه أن يوصله إليه وصله إلى ولىّ من أوليائه، فطوى عنه وجود بشريته، و أشهده سر خصوصيته، فخضع له من غير توقف على كرامة و لا آية. و أما من لم يسبق له التقريب؛ إذا رأى ألف آية ضحك منها و استهزأ، و رماها بالسحر و الشعوذة، و العياذ باللّه من البعد و الطرد.
ثم ذكر عتو فرعون و طغيانه، فقال:
[سورة الزخرف (43): الآيات 51 الى 56]
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)
يقول الحق جل جلاله: وَ نادى فِرْعَوْنُ ، إما بنفسه، أو: أمر من ينادى، كقولك: قطع الأمير اللص.
و الظاهر أنه نادى بنفسه، فِي قَوْمِهِ ؛ فى مجمعهم و فيما بينهم، بعد أن كشف العذاب عنهم، مخافة أن يؤمنوا، قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ ؛ أنهار النّيل، و معظمها أربعة؛ نهر الملك، و نهر طولون، و نهر دمياط، و نهر تييس، تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ؛ تحت سريرى؛ لارتفاعه، أو: بين يدى فى جناتى و بساتينى.
قال عمرو بن العاص رضي اللّه عنه: نيل مصر سيد الأنهار، سخّر اللّه له كلّ نهر بين المشرق و المغرب، فإذا أراد اللّه أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها، و فجّر له الأرض عيونا، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد اللّه سبحانه أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. قاله فى الاكتفاء. و مهبطه من جبل القمر. و قيل: أصله من الجنة، و اللّه تعالى أعلم. و حدّ مصر: من بحر الاسكندرية إلى أسوان، بطول النّيل. و الأنهار المذكورة هى الخلجان الكبار، الخارجة من النيل.
البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد، ج5، ص: 256
و عن عبد اللّه بن طاهر: أنه لما ولى مصر خرج إليها، فلما شارفها، قال: أ هي القرية التي افتخر بها فرعون، حتى قال: أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ؟ و اللّه لهى أقلّ عندى من أن أدخلها، فثنى عنانه. و عن هارون الرّشيد: أنه لما قرأها، قال: و اللّه لأولينّها أخسّ عبيدى، فولاها الخصيب، و كان خادم وضوئه «1» .
وَ هذِهِ الْأَنْهارُ : إما عطف على «ملك مصر»، ف «تجرى»: حال منها، أو: واو الحال، ف «هذه» مبتدأ، و «الأنهار»: صفتها و «تجرى»: خبر، أَ فَلا تُبْصِرُونَ قوتى و سلطانى، مع ضعف موسى و قلة أتباعه. أراد بذلك استعظام ملكه و ترغيب النّاس فى اتباعه.
ثم قال: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مع هذه المملكة و البسطة مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي: ضعيف حقير، من:
المهانة، و هى القلة. وَ لا يَكادُ يُبِينُ الكلام لما به من اللثة. قاله افتراء عليه عليه السّلام، و تنقيصا له فى أعين الناس، باعتبار ما كان فى لسانه عليه السّلام. و قد كانت ذهبت عنه، لقوله تعالى: قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى «2» . و الهمزة للتقرير، كأنه قال إثر ما عدد من أسباب فضله، و مبادئ خيريته: أثبت عندكم و استقر لديكم أنى أنا خير، و هذه حالى، من هذا. و إما متصلة، و المعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون؟ فوضع قوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ موضع «تبصرون»؛ لأنهم إذا قالوا: أنت خير؛ فهم عنده بصراء. و هذا من باب تنزيل السبب منزلة المسبب. انظر أبا السعود.
فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ «3» مِنْ ذَهَبٍ أي: فهلا ألقى عليه مقاليد الملك إن كان صادقا، لأنهم كانوا إذا سوّدوا رجلا سوّروه بسوار، و طوقوه بطوق من ذهب. أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ؛ مقرونين يمشون معه، مقترن بعضهم ببعض، ليكونوا أعضاده و أنصاره، أو: ليشهدوا له بالنبوة؟ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي: فاستفزهم، و طلب منهم الخفة و السرعة فى مطاوعته. أو: فاستخف أحلامهم و استزلهم، فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ، خارجين عن الدين، فلذلك سارعوا إلى طاعته.
فَلَمَّا آسَفُونا ؛ أغضبونا أشد الغضب، منقول من: أسف: إذ اشتد غضبه، انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ، و المعنى: أنهم أفرطوا فى المعاصي فاستوجبوا أن نعجّل لهم العذاب، و ألا نحلم عليهم. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً ؛ قدوة لمن بعدهم من الكفار، يسلكون مسلكهم فى استيجاب مثل ما حلّ بهم من العذاب، ف كل من تفرعن
(1) انظر تفسير القرطبي (7/ 6102) و تفسير النّسفى (3/ 276).
(2) الآية 36 من سورة طه.