کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج1، ص: 129
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
1- سورة الفاتحة
سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة، أنهاها صاحب «الإتقان» إلى نيف و عشرين بين ألقاب و صفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف، و لم يثبت في السنة الصحيحة و المأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب، و السبع المثاني، و أم القرآن، أو أم الكتاب، فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة.
فأما تسميتها فاتحة الكتاب فقد ثبتت في السنة في أحاديث كثيرة منها
قول النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
و فاتحة مشتقة من الفتح و هو إزالة حاجز عن مكان مقصود و لوجه فصيغتها تقتضي أنّ موصوفها شيء يزيل حاجزا، و ليس مستعملا في حقيقته بل مستعملا في معنى أول الشيء تشبيها للأول بالفاتح لأن الفاتح للباب هو أول من يدخل، فقيل الفاتحة في الأصل مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب، و الباقية بمعنى البقاء في قوله تعالى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة: 8] و كذلك الطاغية في قوله تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5] في قول ابن عباس أي بطغيانهم. و الخاطئة بمعنى الخطأ و الحاقة بمعنى الحق. و إنما سمي أول الشيء بالفاتحة إما تسمية للمفعول لأن الآتي على وزن فاعلة بالمصدر الفتح يتعلق بأول أجزاء الفعل ففيه يظهر مبدأ المصدر، و إما على اعتبار الفاتحة اسم فاعل ثم جعلت اسما لأول الشيء، إذ بذلك الأول يتعلق الفتح بالمجموع فهو كالباعث على الفتح، فالأصل فاتح الكتاب، و أدخلت عليه هاء التأنيث دلالة على النقل من الوصفيّة إلى الاسمية أي إلى معاملة الصفة معاملة الاسم في الدلالة على ذات معينة لا على ذي وصف، مثل الغائبة في قوله تعالى:
وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [النمل: 75] و مثل العافية و العاقبة قال التفتازانيّ في «شرح الكشاف»: «و لعدم اختصاص الفاتحة و الخاتمة بالسورة و نحوها كانت التاء للنقل من الوصفيّة إلى الاسمية و ليست لتأنيث الموصوف في الأصل، يعني
التحرير و التنوير، ج1، ص: 130
لأنهم يقولون فاتحة و خاتمة دائما في خصوص جريانه على موصوف مؤنث كالسورة و القطعة، و ذلك كقولهم فلان خاتمة العلماء، و كقول الحريري في المقامة الأولى: «أدّتني خاتمة المطاف و هدتني فاتحة الألطاف». و أيّا ما كان ففاتحة وصف وصف به مبدأ القرآن و عومل معاملة الأسماء الجنسية، ثم أضيف إلى الكتاب ثم صار هذا المركب علما بالغلبة على هذه السورة.
و معنى فتحها الكتاب أنها جعلت أول القرآن لمن يريد أن يقرأ القرآن من أوله فتكون فاتحة بالجعل النبوي في ترتيب السور، و قيل لأنها أول ما نزل و هو ضعيف لما ثبت في «الصحيح» و استفاض أن أول ما أنزل سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1]، و هذا مما لا ينبغي أن يتردد فيه. فالذي نجزم به أن سورة الفاتحة بعد أن نزلت أمر اللّه رسوله أن يجعلها أول ما يقرأ في تلاوته.
و إضافة سورة إلى فاتحة الكتاب في قولهم سورة فاتحة الكتاب من إضافة العام إلى الخاص باعتبار فاتحة الكتاب علما على المقدار المخصوص من الآيات من الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى الضَّالِّينَ [الفاتحة: 2- 7]، بخلاف إضافة سورة إلى ما أضيفت إليه في بقية سور القرآن فإنها على حذف مضاف أي سورة ذكر كذا، و إضافة العام إلى الخاص وردت في كلام العرب مثل قولهم شجر الأراك و يوم الأحد و علم الفقه، و نراها قبيحة لو قال قائل إنسان زيد، و ذلك باد لمن له أدنى ذوق إلا أن علماء العربية لم يفصحوا عن وجه الفرق بين ما هو مقبول من هذه الإضافة و بين ما هو قبيح فكان حقا أن أبيّن وجهه: و ذلك أن إضافة العام إلى الخاص تحسن إذا كان المضاف و المضاف إليه اسمي جنس و أولهما أعم من الثاني، فهنا لك يجوز التوسع بإضافة الأعم إلى الأخص إضافة مقصودا منها الاختصار، ثم تكسبها غلبة الاستعمال قبولا نحو قولهم شجر الأراك، عوضا عن أن يقولوا الشجر الذي هو الأراك، و يوم الأحد عوضا عن أن يقولوا يوم هو الأحد و قد يكون ذلك جائزا غير مقبول لأنه لم يشع في الاستعمال كما لو قلت حيوان الإنسان؛ فأما إذا كان أحد المتضايفين غير اسم جنس فالإضافة في مثله ممتنعة فلا يقال إنسان زيد و لهذا جعل قول الناس: شهر رمضان علما على الشهر المعروف بناء على أن لفظ رمضان خاص بالشهر المعروف لا يحتمل معنى آخر، فتعيّن أن يكون ذكر كلمة شهر معه قبيحا لعدم الفائدة منه لو لا أنه شاع حتى صار مجموع المركب الإضافي علما على ذلك الشهر.
و يصح عندي أن تكون إضافة السورة إلى فاتحة الكتاب من إضافة الموصوف إلى الصفة، كقولهم مسجد الجامع، و عشاء الآخرة، أي سورة موصوفة بأنها فاتحة الكتاب
التحرير و التنوير، ج1، ص: 131
فتكون الإضافة بيانية، و لم يجعلوا لها اسما استغناء بالوصف، كما يقول المؤلفون مقدمة أو باب بلا ترجمة ثم يقولون باب جامع مثلا، ثم يضيفونه فيقولون باب جامع الصلاة.
و أما إضافة فاتحة إلى الكتاب فإضافة حقيقية باعتبار أن المراد من الكتاب بقيته عدا السورة المسماة الفاتحة، كما نقول: خطبة التأليف، و ديباجة التقليد.
و أما تسميتها أم القرآن و أم الكتاب فقد ثبتت في السنة، من ذلك ما في «صحيح البخاري» في كتاب الطب أن أبا سعيد الخدري رقى ملدوغا فجعل يقرأ عليه بأم القرآن، و في الحديث قصة، و وجه تسميتها أم القرآن أن الأم يطلق على أصل الشيء و منشئة، و
في الحديث الصحيح قال النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم: «كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج»
أي منقوصة مخدوجة.
و قد ذكروا لتسمية الفاتحة أمّ القرآن وجوها ثلاثة: أحدها: أنها مبدؤه و مفتتحه فكأنها أصله و منشؤه، يعني أن افتتاحه الذي هو وجود أول أجزاء القرآن قد ظهر فيها فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل و المنشأ فيكون أم القرآن تشبيها بالأم التي هي منشأ الولد لمشابهتها بالمنشأ من حيث ابتداء الظهور و الوجود.
الثاني: أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن و هي ثلاثة أنواع: الثناء على اللّه ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد و تنزيهه عن جميع النقائص، و لإثبات تفرده بالإلهية و إثبات البعث و الجزاء و ذلك من قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى قوله: ملك يوم الدين، و الأوامر و النواهي من قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، و الوعد و الوعيد من قوله: صِراطَ الَّذِينَ إلى آخرها، فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله، و غيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية و هي صلاح الدارين و ذلك يحصل بالأوامر و النواهي، و لما توقفت الأوامر و النواهي على معرفة الآمر و أنه اللّه الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات، و لما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب و الخوف من العقاب لزم تحقق الوعد و الوعيد. و الفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى قوله: يَوْمِ الدِّينِ حمد و ثناء، و قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ إلى قوله: الْمُسْتَقِيمَ من نوع الأوامر و النواهي، و قوله: صِراطَ الَّذِينَ إلى آخرها من نوع الوعد و الوعيد مع أن ذكر الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ و الضَّالِّينَ يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن، و قد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها أثناء على اللّه تعالى.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 132
الثالث: أنها تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية و الأحكام العملية فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها و إما أحكام يقصد منها العمل بها، فالعلوم كالتوحيد و الصفات و النبوءات و المواعظ و الأمثال و الحكم و القصص، و الأحكام إما عمل الجوارح و هو العبادات و المعاملات، و إما عمل القلوب أي العقول و هو تهذيب الأخلاق و آداب الشريعة، و كلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام ف الْحَمْدُ لِلَّهِ يشمل سائر صفات الكمال التي استحق اللّه لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ من اختصاص جنس الحمد به تعالى و استحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي و رَبِّ الْعالَمِينَ يشمل سائر صفات الأفعال و التكوين عند من أثبتها، و الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين و مالك يوم الدين يشمل أحوال القيامة، و إِيَّاكَ نَعْبُدُ يجمع معنى الديانة و الشريعة، و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يجمع معنى الإخلاص للّه في الأعمال.
قال عز الدين بن عبد السلام في كتابه «حل الرموز و مفاتيح الكنوز»: الطريقة إلى اللّه لها ظاهر (أي عمل ظاهر أي بدني) و باطن (أي عمل قلبي) فظاهرها الشريعة و باطنها الحقيقة، و المراد من الشريعة و الحقيقة إقامة العبودية على الوجه المراد من المكلف.
و يجمع الشريعة و الحقيقة كلمتان هما قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإياك نعبد شريعة و إياك نستعين حقيقة، ا ه.
و اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يشمل الأحوال الإنسانية و أحكامها من عبادات و معاملات و آداب، و صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يشير إلى أحوال الأمم و الأفراد الماضية الفاضلة، و قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ يشمل سائر قصص الأمم الضالة و يشير إلى تفاصيل ضلالالتهم المحكية عنهم في القرآن، فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة- تصريحا و تضمنا- علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض. و ذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن و القابلية. و لأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكر لما في مطاويها.
و أما تسميتها السبع المثاني فهي تسمية ثبتت بالسنة
، ففي «صحيح البخاري» عن أبي سعيد ابن المعلّى «1» «أن رسول اللّه قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني
(1) هو الحارث بن نفيع (مصغرا) الزرقي- بضم ففتح- الأنصاري المتوفى سنة 74 ه و تمام الحديث
التحرير و التنوير، ج1، ص: 133
و القرآن العظيم الذي أوتيته»
و وجه تسميتها بذلك أنها سبع آيات باتفاق القراء و المفسرين و لم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري فقال: هي ثمان آيات، و إلا الحسين «1» الجعفي فقال: هي ست آيات، و قال بعض الناس: تسع آيات و يتعين حينئذ كون البسملة ليست من الفاتحة لتكون سبع آيات و من عدّ البسملة أدمج آيتين.
و أما وصفها بالمثاني فهو مفاعل جمع مثنّى بضم الميم و تشديد النون، أو مثنى مخفف مثنّى، أو مثنى بفتح الميم مخفف مثنى كمعنى مخفف معني و يجوز تأنيث الجميع كما نبه عليه السيد الجرجاني في «شرح الكشاف» و كل ذلك مشتق من التثنية و هي بضم ثان إلى أول.
و وجه الوصف به أن تلك الآيات تثنى في كل ركعة كذا في «الكشاف». قيل: و هو مأثور عن عمر بن الخطاب، و هو مستقيم لأن معناه أنها تضم إليها السورة في كل ركعة، و لعل التسمية بذلك كانت في أول فرض الصلاة فإن الصلوات فرضت ركعتين ثم أقرّت صلاة السفر و أطيلت صلاة الحضر كذا ثبت في حديث عائشة في «الصحيح» و قيل:
العكس.
و قيل: لأنها تثنى في الصلاة أي تكرر فتكون التثنية بمعنى التكرير بناء على ما شاع عند العرب من استعمال المثنى في مطلق المكرر نحو ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] و قولهم لبيك و سعديك، و عليه فيكون المراد بالمثاني هنا مثل المراد بالمثاني في قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] أي مكرر القصص و الأغراض، و قيل: سميت المثاني لأنها ثنيت في النزول فنزلت بمكة ثم نزلت في المدينة و هذا قول بعيد جدا و تكرّر النزول لا يعتبر قائله، و قد اتّفق على أنها مكية فأي معنى لإعادة نزولها بالمدينة.
و هذه السورة وضعت في أول السّور لأنها تنزل منها منزل ديباجة الخطبة أو الكتاب، مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن كما علمت آنفا و ذلك شأن الديباجة من
عن أبي سعيد بن المعلى قال: «كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول اللّه فلم أجبه فقلت يا رسول اللّه إني كنت أصلي فقال ألم يقل اللّه اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ [الأنفال: 24] ثم قال ألا أعلمك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »
إلخ.
(1) ستأتي ترجمته قريبا.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 134
براعة الاستهلال.
و هذه السورة مكية باتفاق الجمهور، و قال كثير إنها أول سورة نزلت، و الصحيح أنه نزل قبلها: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] و سورة المدثر ثم الفاتحة، و قيل نزل قبلها أيضا:
ن وَ الْقَلَمِ [القلم: 1] و سورة المزمل، و قال بعضهم هي أول سورة نزلت كاملة أي غير منجمة، بخلاف سورة القلم، و قد حقق بعض العلماء أنها نزلت عند فرض الصلاة فقرأ المسلمون بها في الصلاة عند فرضها، و قد عدت في رواية عن جابر بن زيد السورة الخامسة في ترتيب نزول السور. و أيا ما كان فإنها قد سماها النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم فاتحة الكتاب و أمر بأن تكون أول القرآن.
قلت: و لا يناكد ذلك نزولها بعد سور أخرى لمصلحة اقتضت سبقها قبل أن يتجمع من القرآن مقدار يصير به كتابا فحين تجمع ذلك أنزلت الفاتحة لتكون ديباجة الكتاب.
و أغراضها قد علمت من بيان وجه تسميتها أم القرآن.
و هي سبع آيات باتفاق القراء و المفسرين، و لم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري، قال هي ثمان آيات، و نسب أيضا لعمرو بن عبيد و إلى الحسين الجعفي «1» قال هي ست آيات، و نسب إلى بعضهم غير معيّن أنها تسع آيات، و تحديد هذه الآيات السبع هو ما دل عليه
حديث «الصحيحين» عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «قال اللّه عز و جل، قسمت الصلاة نصفين بيني و بين عبدي فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل، يقول العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، فأقول: حمدني عبدي، فإذا قال: العبد الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، يقول اللّه: أثنى عليّ عبدي، و إذا قال العبد: ملك يوم الدين، قال اللّه:
مجّدني عبدي، و إذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، قال اللّه: هذا بيني و بين عبدي، و إذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 2- 7]، قال اللّه: هؤلاء لعبدي و لعبد ما سأل»
ا ه. فهن ثلاث ثم واحدة ثم ثلاث، فعند أهل المدينة لا تعد البسملة آية و تعد: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية، و عند أهل مكة و أهل الكوفة تعد البسملة آية و تعد أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ جزء آية، و الحسن البصري عد البسملة آية وعد أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية.
(1) هو حسين بن علي بن الوليد الجعفي مولاهم الكوفي المتوفى سنة 200 ه أحد أعلام المحدثين روى عن الأعمش و روى عنه أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه، و يحيى بن معين.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 135
[1- 7]
[سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الكلام على البسملة
[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1).
البسملة اسم لكلمة باسم اللّه، صيغ هذا الاسم على مادّة مؤلفة من حروف الكلمتين باسم و اللّه على طريقة تسمى النّحت، و هو صوغ فعل مضي على زنة فعلل مؤلفة مادّته من حروف جملة أو حروف مركّب إضافيّ، مما ينطق به الناس اختصارا عن ذكر الجملة كلها لقصد التخفيف لكثرة دوران ذلك على الألسنة. و قد استعمل العرب النحت في النّسب إلى الجملة أو المركب إذا كان في النسب إلى صدر ذلك أو إلى عجزه التباس، كما قالوا في النسبة إلى عبد شمس عبشميّ خشية الالتباس بالنسب إلى عبد أو إلى شمس، و في النسبة إلى عبد الدار عبدريّ كذلك و إلى حضر موت حضرمي قال سيبويه في باب الإضافة (أي النسب) إلى المضاف من الأسماء: «و قد يجعلون للنسب في الإضافة اسما بمنزلة جعفري و يجعلون فيه من حروف الأول و الآخر و لا يخرجونه من حروفهما ليعرف» ا ه، فجاء من خلفهم من مولدي العرب و استعملوا هذه الطريقة في حكاية الجمل التي يكثر دورانها في الألسنة لقصد الاختصار، و ذلك من صدر الإسلام فصارت الطريقة عربية. قال الراعي:
قوم على الإسلام لمّا يمنعوا
ما عونهم و يضيّعوا التهليلا
أي لم يتركوا قول: لا إله إلا اللّه. و قال عمر بن أبي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها
ألا حبّذا ذاك الحبيب المبسمل