کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج1، ص: 220
و
في الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح.
و لم يختلف متواتر القراء في فتح لا رَيْبَ نفيا للجنس على سبيل التنصيص و هو أبلغه لأنه لو رفع لاحتمل نفي الفرد دون الجنس فإن كان الإشارة بقوله: ذلِكَ إلى الحروف المجتمعة في الم على إرادة التعريض بالمتحدّين و كان قوله: الْكِتابُ خبرا لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله: لا رَيْبَ نفيا لريب خاص و هو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب مؤلفا من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله، و كان نفي الجنس فيه حقيقة و ليس بادعاء، فتكون جملة لا رَيْبَ منزّلة منزلة التأكيد لمفاد الإشارة في قوله: ذلِكَ الْكِتابُ و على هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور و هو قوله: فِيهِ متعلقا بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله: فِيهِ ، و هو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى: وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ [الشورى: 7] و قوله: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران: 9] و يجوز أن يكون قوله: فِيهِ ظرفا مستقرا خبرا لقوله بعده: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ و معنى «في» هو الظرفية المجازية العرفية تشبيها لدلالة اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: 26] استنزالا لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه و لذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد
قول النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية»
و يكون خبر (لا) محذوفا لظهوره أي لا ريب موجود، و حذف الخبر مستعمل كثيرا في أمثاله نحو: قالُوا لا ضَيْرَ [الشعراء: 50] و قول العرب لا بأس، و قول سعد بن مالك:
من صد عن نيرانها
فأنا ابن قيس لا براح
أي لا بقاء في ذلك، و هو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله: لا رَيْبَ و في «الكشاف» أن نافعا و عاصما وقفا على قوله: رَيْبَ .
و إن كانت الإشارة بقوله: ذلِكَ إلى الْكِتابُ باعتبار كونه كالحاضر المشاهد و كان قوله الْكِتابُ بدلا من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله: فِيهِ ظرف لغو متعلق بريب و خبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في مثله، و الوقف على قوله فِيهِ ، فيه معنى نفي وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفي الشك في أنه منزل من اللّه تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى اللّه تعالى و سيجيئ خطابهم
التحرير و التنوير، ج1، ص: 221
بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] فارتيابهم واقع مشتهر، و لكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم. قال صاحب «المفتاح»:
«و يقلبون القضية «1» مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر الإسلام:
الإسلام حق و قوله عز و جل في حق القرآن: لا رَيْبَ فِيهِ - و كم من شقي مرتاب فيه- وارد على هذا فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملا في معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب أصلا على طريقة التمثيل.
و من المفسرين من فسر قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتيابا في صحته أي ليس فيه اضطراب و لا اختلاف فيكون الريب هنا مجازا في سببه و يكون المجرور ظرفا مستقرا خبر (لا) فينظر إلى قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] أي إن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين، من كلام يناقض بعضه بعضا أو كلام يجافي الحقيقة و الفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر و الفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة، و انتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبّر فيه المتدبر وجده مفيدا اليقين بأنه من عند اللّه و الآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة.
و هذا النفي ليس فيه ادعاء و لا تنزيل فهذا الوجه يغني عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها و تخالفت لما اعتراها من التحريف و ذلك لأن التصدي للإخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر، هذا أساطير الأولين يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا سيما بعد قوله: ذلِكَ الْكِتابُ كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس و أنت ساكت: هذا الكلام صواب تعرض بغيره.
و بهذا الوجه أيضا يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على فِيهِ ولدي
(1) أي قضية التأكيد للخبر الموجه إلى منكر مضمون الخبر.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 222
من وقف على رَيْبَ ، لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر و كان الخبر محذوفا أمكن الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة، و قد ذكر «الكشاف» أن الظرف و هو قوله:
فِيهِ لم يقدم على المسند إليه و هو رَيْبَ (أي على احتمال أن يكون خبرا عن اسم لا) كما قدم الظرف في قوله: لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتابا آخر فيه الريب ا ه. يعني لأن التقديم في مثله يفيد الاختصاص فيكون مفيدا أن نفي الريب عنه مقصور عليه و أن غيره من الكتب فيه الريب و هو غير مقصود هنا. و ليس الحصر في قوله: لا رَيْبَ فِيهِ بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدّين بالقرآن و ليسوا من أهل كتاب حتى يرد عليهم. و إنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند اللّه إذ هم قد دعوا إلى معارضته فعجزوا. نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا المشركين و شجعوهم على التكذيب به بأن القرآن لعلو شأنه بين نظرائه من الكتب ليس فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلا من اللّه إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما يوجب الارتياب فيه و ذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدل المحرف فإن الشك في الحقائق رائد ظهورها. و الفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها. و قد بنى كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفي و هي بتلك الكيفية أفاد قصر النفي لا نفى القصر، و أمثلة صاحب «المفتاح» في تقديم المسند للاختصاص سوّى فيها بين ما جاء بالإثبات و ما جاء بالنفي. و عندي فيه نظر سأذكره عند قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ [البقرة: 272]. و حكم حركة هاء الضمير أو سكونها مقررة في علم القراءات في قسم أصولها.
و قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الهدى اسم مصدر الهدي ليس له نظير في لغة العرب إلا سرى و تقى و بكى و لغى مصدر لغي في لغة قليلة. و فعله هدى هديا يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى و ربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع فيما تقدم في قوله تعالى:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6].
و الهدى على التحقيق هو الدلالة التي من شأنها الإيصال إلى البغية و هذا هو الظاهر في معناه لأن الأصل عدم الترادف فلا يكون هدى مرادفا لدل و لأن المفهوم من الهدى الدلالة الكاملة و هذا موافق للمعنى المنقول إليه الهدى في العرف الشرعي. و هو أسعد بقواعد الأشعري لأن التوفيق الذي هو الإيصال عند الأشعري من خلق اللّه تعالى في قلب الموفّق فيناسب تفسير الهداية بما يصلح له ليكون الذي يهدي يوصل الهداية الشرعية.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 223
فالقرآن هدى و وصفه بالمصدر للمبالغة أي هو هاد.
و الهدى الشرعي هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل. و أثر هذا الهدى هو الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه و المعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون، و هذا معنى لا يختلف فيه و إنما اختلف المتكلمون في منشأ حصول الاهتداء و هي مسألة لا حاجة إليها في فهم الآية. و تفصيل أنواع الهداية تقدم عند قوله تعالى:
اهْدِنَا الصِّراطَ . و محل (هدى) إن كان هو صدر جملة أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف هو ضمير (الكتاب) فيكون المعنى الإخبار عن الكتاب بأنه الهدى و فيه من المبالغة في حصول الهداية به ما يقتضيه الإخبار بالمصدر للإشارة إلى بلوغه الغاية في إرشاد الناس حتى كان هو عين الهدى تنبيها على رجحان هداه على هدى ما قبله من الكتب، و إن كان الوقف على قوله لا رَيْبَ و كان الظرف صدر الجملة الموالية و كان قوله هُدىً مبتدأ خبره الظرف المتقدم قبله فيكون إخبارا بأن فيه هدى فالظرفية تدل على تمكن الهدى منه فيساوي ذلك في الدلالة على التمكن الوجه المتقدم الذي هو الإخبار عنه بأنه عين الهدى.
و المتقي من اتصف بالاتقاء و هو طلب الوقاية، و الوقاية الصيانة و الحفظ من المكروه فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر، و المراد هنا المتقين اللّه، أي الذين هم خائفون غضبه و استعدوا لطلب مرضاته و استجابة طلبه فإذا قرىء عليهم القرآن استمعوا له و تدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا.
و التقوى الشرعية هي امتثال الأوامر و اجتناب المنهيات من الكبائر و عدم الاسترسال على الصغائر ظاهرا و باطنا أي اتقاء ما جعل اللّه الاقتحام فيه موجبا غضبه و عقابه، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم.
و المراد من الهدى و من المتقين في الآية معناهما اللغوي فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية و أن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن المكابرة و نزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين و خشوا العاقبة و صانوا أنفسهم من خطر غضب اللّه هذا هو الظاهر، و المراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا باللّه و بمحمد و تلقوا القرآن بقوة و عزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ - إلى قوله- مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: 3، 4].
و في بيان كون القرآن هدى و كيفية صفة المتقي معان ثلاثة:
التحرير و التنوير، ج1، ص: 224
الأول: أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل و زمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل و المراد حال النطق. و المتقون هم المتقون في الحال أيضا لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا، أي إن جميع من نزه نفسه و أعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب، أو يزيده هدى كقوله تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد: 17].
الثاني: أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا و عليه فيكون مدحا للكتاب بمشاهدة هديه و ثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به و إطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى فيما مضى، و إن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل إطلاق يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب.
الثالث: أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل و تعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في هُدىً لأن المصدر لا يدل على زمان معين.
حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل، لو وصف باسم الفاعل فقيل هاد للمتقين، فهذا ثناء على القرآن و تنويه به و تخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه، فالقرآن لم يزل و لن يزال هدى للمتقين، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، و في سائر أزمانه و أزمانهم على حسب حرصهم و مبالغ علمهم و اختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين، و من منتفع في السياسة و تدبير أمور الأمة، و من منتفع به في الأخلاق و الفضائل، و من منتفع به في التشريع و التفقه في الدين، و كل أولئك من المتقين و انتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم. و قد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] فإن قصّر بأحد سعيه عن كمال الانتفاع به، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية، و لا يزال أهل العلم و الصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن.
و تلتئم الجمل الأربع كمال الالتئمام: فإن جملة الم [البقرة: 1] تسجيل لإعجاز القرآن و إنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته و هو مؤلف من حروف كلامهم و كفى بهذا نداء على تعنتهم.
و جملة: ذلِكَ الْكِتابُ تنويه بشأنه و أنه بالغ حد الكمال في أحوال الكتب، فذلك
التحرير و التنوير، ج1، ص: 225
موجه إلى الخاصة من العقلاء أن يقول لهم هذا كتاب مؤلف من حروف كلامكم، و هو بالغ حد الكمال من بين الكتب، فكان ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه و الافتخار بأن منحتموه فإنكم تعدون أنفسكم أفضل الأمم، فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب فوزان هذا وزان قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا إلى قوله: وَ رَحْمَةٌ [الأنعام: 156، 157]، و موجّه إلى أهل الكتاب بإيقاظهم إلى أنه أفضل مما أوتوه.
و جملة: لا رَيْبَ إن كان الوقف على قوله: لا رَيْبَ تعريض بكل المرتابين فيه من المشركين و أهل الكتاب أي إن الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة، و أن (لا ريب) فإنه الكتاب الكامل، و إن كان الوقف على قوله: فِيهِ كان تعريضا بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما فيهما من مثار الريب و الشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس، قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82].
و قال في «الكشاف»: ثم لم تخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن نظمت هذا التنظيم السري من نكتة ذات جزالة: ففي الأولى الحذف و الرمز إلى الغرض بألطف وجه، و في الثانية ما في التعريف من الفخامة، و في الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، و في الرابعة الحذف و وضع المصدر- و هو الهدى- موضع الوصف و إيراده منكرا و الإيجاز في ذكر المتقين ا ه. فالتقوى إذن بهذا المعنى هي أساس الخير، و هي بالمعنى الشرعي الذي هو غاية المعنى اللغوي جماع الخيرات. قال ابن العربي لم يتكرر لفظ في القرآن مثلما تكرر لفظ التقوى اهتماما بشأنها.
[3]
[سورة البقرة (2): آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .
يتعين أن يكون كلاما متصلا بقوله: لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] على أنه صفة لإرداف صفتهم الإجمالية بتفصيل يعرف به المراد، و يكون مع ذلك مبدأ استطراد لتصنيف أصناف الناس بحسب اختلاف أحوالهم في تلقي الكتاب المنوّه به إلى أربعة أصناف بعد أن كانوا قبل الهجرة صنفين، فقد كانوا قبل الهجرة صنفا مؤمنين و صنفا كافرين مصارحين، فزاد بعد الهجرة صنفان: هما المنافقون و أهل الكتاب، فالمشركون الصرحاء هم أعداء الإسلام
التحرير و التنوير، ج1، ص: 226
الأولون، و المنافقون ظهروا بالمدينة فاعتز بهم الأولون الذين تركهم المسلمون بدار الكفر، و أهل الكتاب كانوا في شغل عن التصدي لمناوأة الإسلام، فلما أصبح الإسلام في المدينة بجوارهم أوجسوا خيفة فالتفّوا مع المنافقين و ظاهروا المشركين. و قد أشير إلى أن المؤمنين المتقين فريقان: فريق هم المتقون الذين أسلموا ممن كانوا مشركين و كان القرآن هدى لهم بقرينة مقابلة هذا الموصول بالموصول الآخر المعطوف بقوله: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4] إلخ. فالمثنيّ عليهم هنا هم الذين كانوا مشركين فسمعوا الدعوة المحمدية فتدبروا في النجاة و اتقوا عاقبة الشرك فآمنوا، فالباعث الذي بعثهم على الإسلام هو التقوى دون الطمع أو التجربة، فوائل بن حجر مثلا لما جاء من اليمن راغبا في الإسلام هو من المتقين، و مسيلمة حين وفد مع بني حنيفة مضمر العداء طامعا في الملك هو من غير المتقين. و فريق آخر يجيء ذكره بقوله:
وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة: 4] الآيات.
و قد أجريت هذه الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى و النظر في العاقبة، و لذلك وصفهم بقوله: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث و المعاد كما حكى عنهم القرآن في آيات كثيرة، و لذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصّلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدّد إيذانا بتجدد إيمانهم بالغيب و تجدد إقامتهم الصلاة و الإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن.
و جوز صاحب «الكشاف» كونه كلاما مستأنفا مبتدأ و كون: أُولئِكَ عَلى هُدىً [البقرة: 5] خبره. و عندي أنه تجويز لما لا يليق، إذ الاستئناف يقتضي الانتقال من غرض إلى آخر، و هو المسمى بالاقتضاب و إنما يحسن في البلاغة إذا أشيع الغرض الأول و أفيض فيه حتى أوعب أو حتى خيفت سآمة السامع، و ذلك موقع أما بعد أو كلمة هذا و نحوهما، و إلا كان تقصيرا من الخطيب و المتكلم لا سيما و أسلوب الكتاب أوسع من أسلوب الخطابة لأن الإطالة في أغراضه أمكن.
الغيب مصدر بمعنى الغيبة: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف: 52] لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة: 94] و ربما قالوا بظهر الغيب قال الحطيئة:
كيف الهجاء و ما تنفك صالحة
من آل لام بظهر الغيب تأتيني
و
في الحديث: «دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة»