کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج2، ص: 10
بيت المقدس أو أن أنبياءهم الموجودين بعد خروجهم أمروهم بذلك بوحي من اللّه.
و قد قال ابن عباس و مجاهد: كان اليهود يظنون أن موافقة الرسول لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقا لهم بالكلية، و جرى كلام ابن العربي في «أحكام القرآن» على الجزم بأن اليهود كانوا يستقبلون بيت المقدس بناء على كلام ابن عباس و مجاهد، و لم يثبت هذا من دين اليهود، كما علمت، و ذكر الفخر عن أبي مسلم ما فيه أن اليهود كانوا يستقبلون جهة المغرب و أن النصارى يستقبلون المشرق، و قد علمت آنفا أن اليهود لم تكن لهم في صلاتهم جهة معينة يستقبلونها و أنهم كانوا يتيمنون في دعائهم بالتوجه إلى صوب بيت المقدس على اختلاف موقع جهته من البلاد التي هم بها فليس لهم جهة معينة من جهات مطلع الشمس و مغربها و ما بينهما فلما تقرر ذلك عادة عندهم توهموه من الدين و تعجبوا من مخالفة المسلمين في ذلك. و أما النصارى فإنهم لم يقع في إنجيلهم تغيير لما كان عليه اليهود في أمر الاستقبال في الصلاة و لا تعيين جهة معينة و لكنهم لما وجدوا الروم يجعلون أبواب هياكلهم مستقبلة لمشرق الشمس بحيث تدخل أشعة الشمس عند طلوعها من باب الهيكل و تقع على الصّنم صاحب الهيكل الموضوع في منتهى الهيكل عكسوا ذلك فجعلوا أبواب الكنائس إلى الغرب و بذلك يكون المذبح إلى الغرب و المصلون مستقبلين الشرق، و ذكر الخفاجي أن بولس هو الذي أمرهم بذلك، فهذه حالة النصارى في وقت نزول الآية ثم إن النصارى من العصور الوسطى إلى الآن توسعوا فتركوا استقبال جهة معينة فلذلك تكون كنائسهم مختلفة الاتجاه و كذلك المذابح المتعددة في الكنيسة الواحدة.
و أما استقبال الكعبة في الحنيفية فالظاهر أن إبراهيم عليه السلام لما بنى الكعبة استقبلها عند الدعاء و عند الصلاة و أنه بناها للصلاة حولها فإن داخلها لا يسع الجماهير من الناس و إذا كان بناؤها للصلاة حولها فهي أول قبلة وضعت للمصلي تجاهها و بذلك اشتهرت عند العرب و يدل عليه قول زيد بن عمرو بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهم
مستقبل المعبة و هو قائم
أما توجهه إلى جهتها من بلد بعيد عنها فلا دليل على وقوعه فيكون الأمر بالتزام الاستقبال في الصلاة من خصائص هذه الشريعة و من جملة معاني إكمال الدين بها كما سنبينه.
و قد دلت هذه الآية على أن المسلمين كانوا يستقبلون جهة ثم تحولوا عنها إلى جهة
التحرير و التنوير، ج2، ص: 11
أخرى و ليست التي تحول إليها المسلمون إلّا جهة الكعبة فدل على أنهم كانوا يستقبلون بيت المقدس و بذلك جاءت الآثار. و الأحاديث الصحيحة في هذا ثلاثة، أولها و أصحها
حديث «الموطأ» عن ابن دينار عن ابن عمر «بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد أنزل عليه الليلة [قرآن] «1» و قد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها و كانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة» و رواه أيضا البخاري من طريق مالك، و مسلم من طريق مالك و من طريق عبد العزيز بن مسلم و موسى بن عقبة،
و فيه أن نزول آية تحويل القبلة كان قبل صلاة الصبح و أنه لم يكن في أثناء الصلاة و أنه صلى الصبح للكعبة و هذا الحديث هو أصل الباب و هو فصل الخطاب.
ثانيها: حديث مسلم عن أنس بن مالك و فيه «فمر رجل من بني سلمة و هم ركوع في صلاة الفجر و قد صلوا ركعة فنادى ألا إن القبلة قد حوّلت فمالوا كما هم نحو القبلة».
الثالث
حديث البخاري و مسلم و اللفظ للبخاري في كتاب التفسير عن البراء بن عازب قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، و كان رسول اللّه يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل اللّه تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] فتوجه نحو الكعبة- ثم قال- فصلى مع النبيء رجل ثم خرج بعد ما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول اللّه و أنه توجه نحو الكعبة فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة»
، و حمل ذكر صلاة الصبح في روايتي ابن عمر و أنس بن مالك و ذكر صلاة العصر في رواية البراء كلّ على أهل مكان مخصوص، و هنالك آثار أخرى تخالف هذه لم يصح سندها ذكرها القرطبي. فتحويل القبلة كان في رجب سنة اثنتين من الهجرة قبل بدر بشهرين و قيل يوم الثلاثاء نصف شعبان منها.
و اختلفوا في أن استقباله صلّى اللّه عليه و سلّم بيت المقدس هل كان قبل الهجرة أو بعدها؟ فالجمهور على أنه لما فرضت عليه الصلاة بمكة كان يستقبل الكعبة فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس تألّفا لليهود قاله بعضهم و هو ضعيف، و قيل كان يستقبل بيت المقدس و هو في
(1) زيادة من «الموطأ» (1/ 195) تحقيق عبد الباقي، «كتاب القبلة» باب ما جاء في القبلة، و من «صحيح البخاري»، انظر «فتح الباري» (1/ 506)، دار المعرفة، كتاب الصلاة (32) باب ما جاء في القبلة، و هذه الزيادة ليست في «صحيح مسلم» و هو من رواته كما سيذكر المصنف.
التحرير و التنوير، ج2، ص: 12
مكان يجعل الكعبة أمامه من جهة الشرق فيكون مستقبلا الكعبة و بيت المقدس معا، و لم يصح هذا القول.
و اختلفوا هل كان استقبال بيت المقدس بأمر من اللّه؟ فقال ابن عباس و الجمهور أوجبه اللّه عليه بوحي ثم نسخه باستقبال الكعبة و دليلهم قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها [البقرة: 143] الآية، و قال الطبري كان مخيرا بين الكعبة و بيت المقدس و اختار بيت المقدس استئلافا لليهود، و قال الحسن و عكرمة و أبو العالية: كان ذلك عن اجتهاد من النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم و على هذا القول يكون قوله تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [البقرة:
144] دالا على أنه اجتهد فرأى أن يتبع قبلة الدينين اللذين قبله و مع ذلك كان يود أن يأمره اللّه باستقبال الكعبة، فلما غيرت القبلة قال السفهاء و هم اليهود أو المنافقون على اختلاف الروايات المتقدمة و قيل كفار قريش قالوا اشتاق محمد إلى بلده و عن قريب يرجع إلى دينكم ذكره الزجاج و نسب إلى البراء بن عازب و ابن عباس و الحسن، و روى القرطبي أن أول من صلى نحو الكعبة من المسلمين أبو سعيد بن المعلى و في الحديث ضعف.
و قوله: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ جواب قاطع معناه أن الجهات كلها سواء في أنها مواقع لبعض المخلوقات المعظمة فالجهات ملك للّه تبعا للأشياء الواقعة فيها المملوكة له، و ليست مستحقة للتوجه و الاستقبال استحقاقا ذاتيا.
و ذكر المشرق و المغرب مراد به تعميم الجهات كما تقدم عند قوله تعالى: وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ [البقرة: 115]، و يجوز أن يكون المراد من المشرق و المغرب الكناية عن الأرض كلها لأن اصطلاح الناس أنهم يقسمون الأرض إلى جهتين شرقية و غربية بحسب مطلع الشمس و مغربها، و المقصود أن ليس لبعض الجهات اختصاص بقرب من اللّه تعالى لأنه منزه عن الجهة و إنما يكون أمره باستقبال بعض الجهات لحكمة يريدها كالتيمن أو التذكر فلا بدع في التولي لجهة دون أخرى حسب ما يأمر به اللّه تعالى، فقوله تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ ، إشارة إلى وجه صحة التولية إلى الكعبة و قوله: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إشارة إلى وجه ترجيح التولية إلى الكعبة على التولية إلى غيرها لأن قوله: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ تعريض بأن الذي أمر اللّه به المسلمين هو الهدى دون قبلة اليهود إلّا أن هذا التعريض جيء به على طريقة الكلام المنصف من حيث ما في قوله مَنْ يَشاءُ من الإجمال الذي يبينه المقام فإن المهدي من فريقين كانا في حالة واحدة هو الفريق الذي أمره من بيده الهدى بالعدول عن الحالة التي شاركه فيها الفريق الآخر إلى حالة اختص هو
التحرير و التنوير، ج2، ص: 13
بها، فهذه الآية بهذا المعنى فيها إشارة إلى ترجيح أحد المعنيين من الكلام الموجه أقوى من آية: وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24].
و قد سلك في هذا الجواب لهم طريق الإعراض و التبكيت لأن إنكار هم كان عن عناد لا عن طلب الحق فأجيبوا بما لا يدفع عنهم الحيرة و لم تبين لهم حكمة تحويل القبلة و لا أحقية الكعبة بالاستقبال و ذلك ما يعلمه المؤمنون.
فأما إذا جرينا على قول الذين نسبوا إلى اليهود استقبال جهة المغرب و إلى النصارى استقبال جهة المشرق من المفسرين فيأتي على تفسيرهم أن تقول إن ذكر المشرق و المغرب إشارة إلى قبلة النصارى و قبلة اليهود، فيكون الجواب جوابا بالإعراض عن ترجيح قبلة المسلمين لعدم جدواه هنا، أو يكون قوله: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إيماء إلى قبلة الإسلام، و المراد بالصراط المستقيم هنا وسيلة الخير و ما يوصل إليه كما تقدم في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] فيشمل ذلك كل هدي إلى خير و منه الهدى إلى استقبال أفضل جهة. فجملة: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ حال من اسم الجلالة و لا يحسن جعلها بدل اشتمال من جملة: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ لعدم وضوح اشتمال جملة: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ على معنى جملة: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إذ مفاد الأولى أن الأرض جميعها للّه أي فلا تتفاضل الجهات و مفاد الثانية أن الهدى بيد اللّه.
و اتفق علماء الإسلام على أن استقبال الكعبة أي التوجه إليها شرط من شروط صحة الصلاة المفروضة و النافلة إلّا لضرورة في الفريضة كالقتال و المريض لا يجد من يوجهه إلى جهة القبلة أو لرخصة في النافلة للمسافر إذا كان راكبا على دابة أو في سفينة لا يستقر بها. فأما الذي هو في المسجد الحرام ففرض عليه استقبال عين الكعبة من أحد جوانبها و من كان بمكة في موضع يعاين منه الكعبة فعليه التوجه إلى جهة الكعبة التي يعاينها فإذا طال الصف من أحد جوانب الكعبة وجب على من كان من أهل الصف غير مقابل لركن من أركان الكعبة أن يستدير بحيث يصلون دائرين بالكعبة صفا وراء صف بالاستدارة، و أما الذي تغيب ذات الكعبة عن بصره فعليه الاجتهاد بأن يتوخى أن يستقبل جهتها فمن العلماء من قال يتوخّى المصلي جهة مصادفة عين الكعبة بحيث لو فرض خط بينه و بين الكعبة لوجد وجهه قبالة جدارها، و هذا شاق يعسر تحققه إلّا بطريق أرصاد علم الهيئة «1» و يعبر
(1) قاله ابن رشد في «البداية» (1/ 111)، دار المعرفة، و فيه: «إن إصابة العين شيء لا يدرك إلا
التحرير و التنوير، ج2، ص: 14
عن هذا باستقبال العين و باستقبال السمت و هذا قول ابن القصار و اختاره أحد أشياخ أبي الطيب عبد المنعم الكندي و نقله المالكية عن الشافعي، و من العلماء من قال يتوخى المصلى أن يستقبل جهة أقرب ما بينه و بين الكعبة بحيث لو مشى باستقامة لوصل حول الكعبة و يعبر عن هذا باستقبال الجهة أي جهة الكعبة و هذا قول أكثر المالكية و اختاره الأبهري و الباجي و هو قول أبي حنيفة و أحمد بن حنبل و هو من التيسير و رفع الحرج، و من كان بالمدينة يستدل بموضع صلاة النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم في مسجده لأن اللّه أذن لرسوله بالصلاة فيه، و روى ابن القاسم عن مالك أن جبريل هو الذي أقام للنبيء صلّى اللّه عليه و سلّم قبلة مسجده.
و بين المازري معنى المسامتة بأن يكون جزء من سطح وجه المصلي و جزء من سمت الكعبة طرفي خط مستقيم و ذلك ممكن بكون صف المصلين كالخط المستقيم الواصل بين طرفي خطين متباعدين خرجا من المركز إلى المحيط في جهته لأن كل نقطة منه ممر لخارج من المركز إلى المحيط ا ه، و استبعد عز الدين بن عبد السلام هذا الكلام بأن تكليف البعيد استقبال عين البيت لا يطاق، و بإجماعهم على صحة ذوي صفّ مائة ذراع و عرض البيت خمسة أذرع فبعض هذا الصف خارج عن سمت البيت قطعا و وافقه القرافي ثم أجاب بأن البيت لمستقبليه كمركز دائرة لمحيطها و الخطوط الخارجة من مركز لمحيطه كلما قربت منه اتسعت و لا سيما في البعد. فإذا طالت الصفوف فلا حرج عليهم لأنهم إنما يجب عليهم أن يكونوا متوجهين نحو الجهة التي يعبرون عنها بأنها قبلة الصلاة.
و من أخطأ القبلة أو نسي الاستقبال حتى فرغ من صلاته لا يجب عليه إعادة صلاته عند مالك و أبي حنيفة و أحمد إلّا أن مالكا استحب له أن يعيدها ما لم يخرج الوقت و لم ير ذلك أبو حنيفة و أحمد و هذا بناء على أن فرض المكلف هو الاجتهاد في استقبال الجهة و أما الشافعي فأوجب عليه الإعادة أبدا بناء على أنه يرى أن فرض المكلف هو إصابة سمت الكعبة.
[143]
[سورة البقرة (2): آية 143]
بتقريب و تسامح بطريق الهندسة و استعمال الأرصاد في ذلك .... و نحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسية المبني على الأرصاد المستنبط منها طول البلاد و عرضها» انظر هذه المسألة أيضا في «الإحياء» للغزالي (2/ 265)، دار المعرفة، «كتاب آداب السفر». ما يتجدد من الوظيفة بسبب السفر.
التحرير و التنوير، ج2، ص: 15
هذه الجملة معترضة بين جملة: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ [البقرة: 142] إلخ و جملة: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إلخ، و الواو اعتراضية و هي من قبيل الواو الاستئنافية، فالآية السابقة لما أشارت إلى أن الذين هدوا إلى صراط مستقيم هم المسلمون و أن ذلك فضل لهم ناسب أن يستطرد لذكر فضيلة أخرى لهم هي خير مما تقدم و هي فضيلة كون المسلمين عدولا خيارا ليشهدوا على الأمم لأن الآيات الواقعة بعدها هي في ذكر أمر القبلة و هذه الآية لا تتعلق بأمر القبلة.
و قوله: وَ كَذلِكَ مركب من كاف التشبيه و اسم الإشارة فيتعيّن تعرّف المشار إليه و ما هو المشبه به قال صاحب «الكشاف»: «أي مثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا» فاختلف شارحوه في تقرير كلامه و تبين مراده، فقال البيضاوي: «الإشارة إلى المفهوم أي ما فهم من قوله: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 142] أي كما جعلناكم أمة وسطا أو كما جعلنا قبلتكم أفضل قبلة جعلناكم أمة وسطا» ا ه. أي إن قوله:
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يومئ إلى أن المهدي هم المسلمون و إلى أن المهدي إليه هو استقبال الكعبة وقت قول السفهاء ما وَلَّاهُمْ [البقرة: 142] على ما قدمناه و هذا يجعل الكاف باقية على معنى التشبيه و لم يعرّج على وصف «الكشاف» الجعل بالعجيب كأنه رأى أن اسم الإشارة لا يتعين للحمل على أكثر من الإشارة و إن كان إشارة البعيد فهو يستعمل غالبا من دون إرادة بعد و فيه نظر، و المشار إليه على هذا الوجه معنى تقدم في الكلام السّابق فالإشارة حينئذ إلى مذكور متقرر في العلم فهي جارية على سنن الإشارات.
و حمل شراح «الكشاف» الكاف على غير ظاهر التشبيه، فأما الطيبي و القطب فقالا الكاف فيه اسم بمعنى مثل منتصب على المفعولية المطلقة لجعلناكم أي مثل الجعل العجيب جعلناكم فليس تشبيها و لكنه تمثيل لحالة و المشار إليه ما يفهم من مضمون قوله:
يَهْدِي و هو الأمر العجيب الشأن أي الهدى التام، و وجه الإتيان بإشارة البعيد التنبيه على تعظيم المشار إليه و هو الذي عناه في «الكشاف» بالجعل العجيب، فالتعظيم هنا
التحرير و التنوير، ج2، ص: 16
لبداعة الأمر و عجابته، ثم إن القطب ساق كلاما نقض به صدر كلامه.
و أما القزويني صاحب «الكشف» و التفتازانيّ فبيناه بأن الكاف مقحمة كالزائدة لا تدل على تمثيل و لا تشبيه فيصير اسم الإشارة على هذا نائبا مناب مفعول مطلق لجعلناكم كأنه قيل ذلك الجعل جعلناكم أي فعدل عن المصدر إلى اسم إشارته النائب عنه لإفادة عجابة هذا الجعل بما مع اسم الإشارة من علامة البعد المتعين فيها لبعد المرتبة. و التشبيه على هذا الوجه مقصود منه المبالغة بإيهام أنه لو أراد المشبّه أن يشبه هذا في غرابته لما وجد له إلّا أن يشبهه بنفسه و هذا قريب من قوله النابغة: «و السفاهة كاسمها» فليست الكاف بزائدة و لا هي للتشبيه و لكنها قريبة من الزائدة، و الإشارة حينئذ إلى ما سيذكر بعد اسم الإشارة.
و كلام «الكشاف» أظهر في هذا المحمل فيدل على ذلك تصريحه في نظائره إذ قال في قوله تعالى: كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: 59] الكاف منصوبة على معنى مثل أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم و أورثناها. و اعلم أن الذي حدا صاحب «الكشاف» إلى هذا المحمل أن استعمال اسم الإشارة في هذا و أمثاله لا يطرد فيه اعتبار مشار إليه مما سبق من الكلام ألا ترى أنه لا يتجه اعتبار مشار إليه في هذه الآية و في آية سورة الشعراء و لكن صاحب «الكشاف» قد خالف ذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام [112] وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا فقال: «كما خلّينا بينك و بين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء و أعدائهم» ا ه و ما قاله في هذه الآية منزع حسن؛ لكنه لم يضرب الناظرون فيه بعطن.
و التحقيق عندي أن أصل: كَذلِكَ أن يدل على تشبيه شيء بشيء و المشبه به ظاهر مشار إليه أو كالظاهر ادعاء، فقد يكون المشبه به المشار إليه مذكورا مثل قوله تعالى:
وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ [هود: 102] إشارة إلى قوله: وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [هود: 101] الآية. و كقول النابغة:
فألفيت الأمانة لم تخنها
كذلك كان نوح لا يخون
و قد يكون المشبه به المشار إليه مفهوما من السياق فيحتمل اعتبار التشبيه و يحتمل اعتبار المفعوليّة المطلقة كقول أبي تمّام:
كذا فليجلّ الخطب و ليفدح الأمر