کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج4، ص: 324
السامع تلك الأخبار الماضية و المحاورات، فوجب عليه وجوبا اضطراريا استماعه و النظر في الأمر المقرّر في نفوس البشر، و لذلك أخذ اللّه أهل الفترة بالإشراك كما دلّت عليه نصوص كثيرة من الكتاب و السنّة. و لذلك فلو قدرّنا أحدا لم يخالط جماعات البشر، و لم يسبق له شعور بأنّ النّاس آمنوا و كفروا و أثبتوا و عطّلوا، لما وجب عليه الإصغاء إلى الرسول لأنّ ذلك الانسياق الضروري مفقود عنده. و على هذا الوجه يكون الوجوب غير شرعي، و لا عقلي نظري، بل هو من الأمور الضرورية التي لا يستطاع دفعها فلا عجب أن تقع المؤاخذة بتعمّد مخالفتها.
و ثاني الجوابين: بالتسليم، غير أنّ ما وقر في جبلّة البشر من استطلاع الحوادث و الأخبار الجديدة، و الإصغاء لكلّ صاحب دعوة، أمر يحمل كلّ من دعاه الرسول إلى الدين على أن يستمع لكلامه، و يتلقّى دعوته و تحدّيه و معجزته، فلا يشعر إلّا و قد سلكت دعوته إلى نفس المدعوّ، فحرّكت فيه داعية النظر، فهو ينجذب إلى تلقّي الدعوة، رويدا رويدا، حتّى يجد نفسه قد وعاها و علمها علما لا يستطيع بعده أن يقول: إنّي لا أنظر المعجزة، أو لا أصغي إلى الدعوة. فإن هو أعرض بعد ذلك فقد اختار العمى على الهدى، فكان مؤاخذا، فلو قدّرنا أحدا مرّ برسول يدعو فشغله شاغل عن تعرّف أمره و الإصغاء لكلامه و النظر في أعماله، لسلّمنا أنّه لا يكون مخاطبا، و أنّ هذا الواحد و أمثاله إذا أفحم الرسول لا تتعطّل الرسالة، و لكنّه خسر هديه، و سفه نفسه.
و لا يرد علينا أنّ من سمع دعوة الرسول فجعل أصابعه في أذنيه و أعرض هاربا حينئذ، لا يتوجّه إليه وجوب المعرفة، لأنّ هذا ما صنع صنعه إلّا بعد أن علم أنّه قد تهيّأ لتوجّه المؤاخذة عليه إذا سمع فعصى، و كفى بهذا شعورا منه بتوجّه التكليف إليه فيكون مؤاخذا على استحبابه العمى على الهدى، كما قال تعالى في قوم نوح: وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ - أي إلى الإيمان- لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح: 7].
و الإظهار في مقام الإضمار في قوله: بَعْدَ الرُّسُلِ دون أن يقال: بعدهم، للاهتمام بهذه القضيّة و استقلالها في الدلالة على معناها حتّى تسير مسرى الأمثال.
و مناسبة التذييل بالوصفين في قوله: عَزِيزاً حَكِيماً : أمّا بوصف الحكيم فظاهرة، لأنّ هذه الأخبار كلّها دليل حكمته تعالى، و أمّا بوصف العزيز فلأنّ العزيز يناسب عزّته أن يكون غالبا من كلّ طريق فهو غالب من طريق المعبوديّة، لا يسأل عما يفعل، و غالب من طريق المعقوليّة إذ شاء أن لا يؤاخذ عبيده إلّا بعد الأدلّة و البراهين و الآيات. و تأخير
التحرير و التنوير، ج4، ص: 325
وصف الحكيم لأنّ إجراء عزّته على هذا التمام هو أيضا من ضروب الحكمة الباهرة.
[166]
[سورة النساء (4): آية 166]
هذا استدراك على معنى أثاره الكلام: لأنّ ما تقدّم من قوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ [النساء: 153] مسوق مساق بيان تعنّتهم و مكابرتهم عن أن يشهدوا بصدق الرسول صلى اللّه عليه و سلم و صحّة نسبة القرآن إلى اللّه تعالى، فكان هذا المعنى يستلزم أنّهم يأبون من الشهادة بصدق الرسول، و أنّ ذلك يحزن الرسول صلى اللّه عليه و سلم، فجاء الاستدراك بقوله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ . فإنّ الاستدراك تعقيب الكلام برفع ما يتوهّم ثبوته أو نفيه. و المعنى: لم يشهد أهل الكتاب لكن اللّه شهد و شهادة اللّه خير من شهادتهم.
و قد مضى عند قوله تعالى: وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ في سورة البقرة [282]، أنّ حقيقة الشهادة إخبار لتصديق مخبر، و تكذيب مخبر آخر. و تقدّم أنّها تطلق على الخبر المحقّق الذي لا يتطرّقه الشكّ عند قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ في سورة آل عمران [18]. فالشهادة في قوله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ أطلقت على الإخبار بنزول القرآن من اللّه إطلاقا مجازيا، لأنّ هذا الخبر تضمّن تصديق الرسول و تكذيب معانديه، و هو إطلاق على وجه الاستعارة من الإطلاق الحقيقي هو غير الإطلاق الذي في قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 18] فإنّه على طريقة المجاز المرسل. و عطف شهادة الملائكة على شهادة اللّه: لزيادة تقرير هذه الشهادة بتعدّد الشهود، و لأنّ شهادة اللّه مجاز في العلم و شهادة الملائكة حقيقة. و إظهار فعل يَشْهَدُونَ مع وجود حرف العطف للتّأكيد. و حرف (لكن) بسكون النون مخفّف لكنّ المشدّدة النون التي هي من أخوات (إنّ) و إذا خفّفت بطل عملها.
و قوله: وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً يجري على الاحتمالين.
و قوله: بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وقع تحويل في تركيب الجملة لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل، ليكون أوقع في النفس. و أصل الكلام: يشهد بإنزال ما أنزله إليك بعلمه؛ لأنّ قوله: بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ لم يفد المشهود به إلّا ضمنا مع المشهود فيه إذ جيء باسم الموصول ليوصل بصلة فيها إيماء إلى المقصود، و مع ذلك لم يذكر المقصود من الشهادة الذي هو حقّ مدخول الباء بعد مادّة شهد، فتكون جملة أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ مكمّلة معنى الشهادة. و هذا قريب من التحويل الذي يستعمله العرب في تمييز النسبة. و قال
التحرير و التنوير، ج4، ص: 326
الزمخشري: «موقع قوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ من قوله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ موقع الجملة المفسّرة لأنّه بيان للشهادة و أنّ شهادته بصحّته أنّه أنزله بالنظم المعجز». فلعلّه يجعل جملة لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ مستقلة بالفائدة، و أنّ معنى بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ بصحّة ما أنزل إليك، و ما ذكرته أعرق في البلاغة.
و معنى أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي متلبّسا بعلمه، أي بالغا الغاية في باب الكتب السماوية، شأن ما يكون بعلم من اللّه تعالى، و معنى ذلك أنّه معجز لفظا و معنى، فكما أعجز البلغاء من أهل اللّسان أعجز العلماء من أهل الحقائق العالية.
و الباء في قوله: وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً زائدة للتّأكيد، و أصله: كفى اللّه شهيدا كقوله:
كفى الشيب و الإسلام للمرء ناهيا أو يضمّن (كفى) معنى اقتنعوا، فتكون الباء للتعدية.
[167]
[سورة النساء (4): آية 167]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167)
يجوز أن يكون المراد بالذين كفروا هنا أهل الكتاب، أي اليهود، فتكون الجملة بمنزلة الفذلكة للكلام السابق الرّادّ على اليهود من التحاور المتقدّم. و صدّهم عن سبيل اللّه يحتمل أن يكون من صدّ القاصر الذي قياس مضارعه يصدّ- بكسر الصاد-، أي أعرضوا عن سبيل اللّه. أي الإسلام، أو هو من صدّ المتعدي الذي قياس مضارعه- بضمّ الصاد-، أي صدّوا النّاس. و حذف المفعول لقصد التكثير. فقد كان اليهود يتعرّضون للمسلمين بالفتنة، و يقوون أوهام المشركين بتكذيبهم النبيء صلى اللّه عليه و سلم. و يجوز أن يكون المراد بالذين كفروا المشركين، كما هو الغالب في إطلاق هذا الوصف في القرآن، فتكون الجملة استئنافا ابتدائيا، انتقل إليه بمناسبة الخوض في مناواة أهل الكتاب للإسلام. و صدّهم عن سبيل اللّه، أي صدّهم النّاس عن الدخول في الإسلام مشهور.
و الضلال الكفر لأنّه ضياع عن الإيمان، الذي هو طريق الخير و السعادة، فإطلاق الضلال على الكفر استعارة مبنيّة على استعارة الطريق المستقيم للإيمان. و وصف الضلال بالبعيد مع أنّ البعد من صفات المسافات هو استعارة البعد لشدّة الضلال و كماله في نوعه، بحيث لا يدرك مقداره، و هو تشبيه شائع في كلامهم: أن يشبّهوا بلوغ الكمال بما يدلّ على المسافات و النهايات كقولهم: بعيد الغور، و بعيد القعر، و لا نهاية له، و لا غاية له، و رجل بعيد الهمّة، و بعيد المرمى، و لا منتهى لكبارها، و بحر لا ساحل له، و قولهم:
التحرير و التنوير، ج4، ص: 327
هذا إغراق في كذا.
و من بديع مناسبته هنا أنّ الضلال الحقيقي يكون في الفيافي و الموامي، فإذا اشتدّ التيه و الضلال بعد صاحبه عن المعمور، فكان في وصفه بالبعيد تعاهد للحقيقة، و إيماء إلى أنّ في إطلاقه على الكفر و الجهل نقلا عرفيا.
[168، 169]
[سورة النساء (4): الآيات 168 الى 169]
الجملة بيان لجملة قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً [النساء: 167]، لأنّ السامع يترقّب معرفة جزاء هذا الضلال قبيّنته هذه الجملة.
و إعادة الموصول و صلته دون أن يذكر ضميرهم لتبنى عليه صلة وَ ظَلَمُوا ، و لأنّ في تكرير الصّلة تنديدا عليهم. و يجيء على الوجهين في المراد من الذين كفروا في الآية الّتي قبلها أن يكون عطف الظلم على الكفر في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا إمّا أن يراد به ظلم النّفس، و ظلم النبيء و المسلمين، و ذلك اللائق بأهل الكتاب؛ و إمّا أن يراد به الشرك، كما هو شائع في استعمال القرآن كقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]، فيكون من عطف الأخصّ على الأعمّ في الأنواع؛ و إمّا أن يراد به التعدّي على النّاس، كظلمهم النبيء صلى اللّه عليه و سلم بإخراجه من أرضه، و تأليب النّاس عليه، و غير ذلك، و ظلمهم المؤمنين بتعذيبهم في اللّه، و إخراجهم، و مصادرتهم في أموالهم، و معاملتهم بالنفاق و السخريّة و الخداع؛ و إمّا أن يراد به ارتكاب المفاسد و الجرائم ممّا استقرّ عند أهل العقول أنّه ظلم و عدوان.
و قوله: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ صيغة جحود، و قد تقدّم بيانها عند قوله تعالى:
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ في سورة آل عمران [79]، فهي تقتضي تحقيق النفي، و قد نفي عن اللّه أن يغفر لهم تحذيرا من البقاء على الكفر و الظلم، لأنّ هذا الحكم نيط بالوصف و لم ينط بأشخاص معروفين، فإن هم أقلعوا عن الكفر و الظلم لم يكونوا من الّذين كفروا و ظلموا. و معنى نفي أن يهديهم طريقا: إن كان طريقا يوم القيامة فهو واضح: أي لا يهديهم طريقا بوصلهم إلى مكان إلّا طريقا يوصل إلى جهنّم. و يجوز أن يراد من الطريق الآيات في الدنيا، كقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6]. فنفي هديهم إليه إنذار بأنّ الكفر و الظلم من شأنهما أن يخيّما على القلب بغشاوة تمنعه من وصول الهدي إليه، ليحذر المتلبّس بالكفر و الظلم من التوغّل فيهما، فلعلّه أن يصبح و لا
التحرير و التنوير، ج4، ص: 328
مخلّص له منهما. و نفي هدى اللّه إيّاهم على هذا الوجه مجاز عقلي في نفي تيسير أسباب الهدى بحسب قانون حصول الأسباب و حصول آثارها بعدها. و على أي الاحتمالين فتوبة الكافر الظالم بالإيمان مقبولة، و كثيرا ما آمن الكافرون الظالمون و حسن إيمانهم، و آيات قبول التّوبة، و كذلك مشاهدة الواقع، ممّا يهدي إلى تأويل هذه الآية، و تقدّم نظير هذه الآية قريبا، أي الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النساء: 137] الآية.
و قوله: إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ استثناء متّصل إن كان الطريق الذي نفي هديهم إليه الطريق الحقيقي، و منقطع إن أريد بالطريق الأوّل الهدى. و في هذا الاستثناء تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه: لأنّ الكلام مسوق للإنذار، و الاستثناء فيه رائحة إطماع، ثمّ إذا سمع المستثنى تبيّن أنّه من قبيل الإنذار. و فيه تهكّم لأنّه استثنى من الطريق المعمول لِيَهْدِيَهُمْ ، و ليس الإقحام بهم في طريق جهنّم بهدي لأنّ الهدي هو إرشاد الضالّ إلى المكان المحبوب.
و لذلك عقّبه بقوله: وَ كانَ ذلِكَ أي الإقحام بهم في طريق النّار على اللّه يسيرا إذ لا يعجزه شيء، و إذ هم عبيده يصرفهم إلى حيث يشاء.
[170]
[سورة النساء (4): آية 170]
بعد استفراغ الحوار مع أهل الكتاب، ثمّ خطاب أهل الكفر بما هو صالح لأن يكون شاملا لأهل الكتاب، وجّه الخطاب إلى النّاس جميعا: ليكون تذييلا و تأكيدا لما سبقه، إذ قد تهيّأ من القوارع السالفة ما قامت به الحجّة، و اتّسعت المحجّة، فكان المقام للأمر باتّباع الرسول و الإيمان. و كذلك شأن الخطيب إذا تهيّأت الأسماع، و لانت الطباع.
و يسمّى هذا بالمقصد من الخطاب، و ما يتقدّمه بالمقدّمة. على أنّ الخطاب بيا أيّها النّاس يعني خصوص المشركين في الغالب، و هو المناسب لقوله: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ .
و التعريف في الرَّسُولُ للعهد، و هو المعهود بين ظهرانيهم. (و الحقّ) هو الشريعة و القرآن، و مِنْ رَبِّكُمْ متعلّق ب جاءَكُمُ ، أو صفة للحقّ، و (من) للابتداء المجازي فيهما، و تعدية جاء إلى ضمير المخاطبين ترغيب لهم في الإيمان لأنّ الذي يجيء مهتمّا بناس يكون حقّا عليهم أن يتّبعوه، و أيضا في طريق الإضافة من قوله رَبِّكُمْ ترغيب ثان لما تدلّ عليه من اختصاصهم بهذا الدّين الذي هو آت من ربّهم، فلذلك أتي بالأمر
التحرير و التنوير، ج4، ص: 329
بالإيمان مفرّعا على هاته الجمل بقوله: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ .
و انتصب خَيْراً على تعلّقه بمحذوف لازم الحذف في كلامهم لكثرة الاستعمال، فجرى مجرى الأمثال، و ذلك فيما دلّ على الأمر و النهي من الكلام نحو انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النساء: 171]، و وراءك أوسع لك، أي تأخّر، و حسبك خيرا لك، و قول عمر بن أبي ربيعة:
فواعديه سرحتي مالك
أو الرّبى بينهما. أسهلا
فنصبه ممّا لم يختلف فيه عن العرب، و اتّفق عليه أئمّة النحو، و إنّما اختلفوا في المحذوف: فجعله الخليل و سيبويه فعلا أمرا مدلولا عليه من سياق الكلام، تقديره: ايت أو اقصد، قالا: لأنّك لمّا قلت له: انته، أو افعل، أو حسبك، فأنت تحمله على شيء آخر أفضل له. و قال الفرّاء من الكوفيّين: هو في مثله صفة مصدر محذوف، و هو لا يتأتّى فيما كان منتصبا بعد نهي، و لا فيما كان منتصبا بعد غير متصرّف، نحو: وراءك و حسبك.
و قال الكسائي و الكوفيّون: نصب بكان محذوفة مع خبرها، و التقدير: يكن خيرا. و عندي:
أنّه منصوب على الحال من المصدر الذي تضمّنه الفعل، وحده، أو مع حرف النهي، و التقدير: فآمنوا حال كون الإيمان خيرا، و حسبك حال كون الاكتفاء خيرا، و لا تفعل كذا حال كون الانتهاء خيرا. و عود الحال إلى مصدر الفعل في مثله كعود الضمير إليه في قوله: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8]، لا سيما و قد جرى هذا مجرى الأمثال، و شأن الأمثال قّوة الإيجاز. و قد قال بذلك بعض الكوفيين و أبو البقاء.
و قوله وَ إِنْ تَكْفُرُوا أريد به أن تبقوا على كفركم.
و قوله: فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ هو دليل على جواب الشرط، و الجواب محذوف لأنّ التقدير: إن تكفروا فإنّ اللّه غنيّ عن إيمانكم لأنّ للّه ما في السموات و ما في الأرض، و صرّح بما حذف هنا في سورة الزمر [7] في قوله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ و فيه تعريض بالمخاطبين، أي أنّ كفركم لا يفلتكم من عقابه، لأنّكم عبيده، لأنّ له ما في السموات و ما في الأرض.
[171]
التحرير و التنوير، ج4، ص: 330
[سورة النساء (4): آية 171]
استئناف ابتدائي بخطاب موجّه إلى النصارى خاصّة. و خوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضا بأنّهم خالفوا كتابهم. و قرينة أنّهم المراد هي قوله: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ إلى قوله: أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ [النساء: 172] فإنّه بيان للمراد من إجمال قوله:
لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ و ابتدئت موعظتهم بالنّهي عن الغلوّ لأنّ النّصارى غلوا في تعظيم عيسى- فادّعوا له بنوّة اللّه، و جعلوه ثالث الآلهة.
و الغلوّ: تجاوز الحدّ المألوف، مشتقّ من غلوة السهم، و هي منتهى اندفاعه، و استعير للزيادة على المطلوب من المعقول، أو المشروع في المعتقدات، و الإدراكات، و الأفعال. و الغلوّ في الدّين أن يظهر المتديّن ما يفوت الحدّ الّذي حدّد له الدين. و نهاهم عن الغلوّ لأنّه أصل لكثير من ضلالهم و تكذيبهم للرسل الصّادقين. و غلوّ أهل الكتاب تجاوزهم الحدّ الذي طلبه دينهم منهم: فاليهود طولبوا باتّباع التّوراة و محبّة رسولهم، فتجاوزوه إلى بغضة الرسل كعيسى و محمّد- عليهما السّلام-، و النّصارى طولبوا باتّباع المسيح فتجاوزوا فيه الحدّ إلى دعوى إلهيّته أو كونه ابن اللّه، مع الكفر بمحمّد صلى اللّه عليه و سلم.
و قوله: وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ عطف خاصّ على عامّ للاهتمام بالنهي عن الافتراء الشنيع. و فعل القول إذا عدّي بحرف (على) دلّ على أنّ نسبة القائل القول إلى المجرور ب (على) نسبة كاذبة، قال تعالى: وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ* [آل عمران: 78].
و معنى القول على اللّه هنا: أن يقولوا شيئا يزعمون أنّه من دينهم، فإنّ الدين من شأنه أن يتلقّى من عند اللّه.
و قوله: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ جملة مبيّنة للحدّ الذي كان الغلوّ عنده، فإنّه مجمل؛ و مبيّنة للمراد من قول الحقّ.