کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج6، ص: 89
ما يجمع مقوّماتها.
و أحسب أنّ لفظ أمّة خاصّ بالجماعة العظيمة من البشر، فلا يقال في اللغة أمّة الملائكة و لا أمّة السباع. فأمّا إطلاق الأمم على الدّوابّ و الطير في هذه الآية فهو مجاز، أي مثل الأمم لأنّ كلّ نوع منها تجتمع أفراده في صفات متّحدة بينها أمما واحدة، و هو ما يجمعها و أحسب أنّها خاصّة بالبشر.
و دَابَّةٍ و طائِرٍ في سياق النفي يراد بهما جميع أفراد النوعين كما هو شأن الاستغراق، فالإخبار عنهما بلفظ أُمَمٌ و هو جمع على تأويله بجماعاتها، أي إلّا جماعاتها أمم، أو إلّا أفراد أمم.
و تشمل الأرض البحر لأنّه من الأرض و لأنّ مخلوقاته يطلق عليها لفظ الدابّة، كما ورد في حديث سرية سيف البحر قول جابر بن عبد اللّه: فألقى لنا البحر دابّة يقال لها العنبر.
و المماثلة في قوله: أَمْثالُكُمْ التشابه في فصول الحقائق و الخاصّات التي تميّز كلّ نوع من غيره، و هي النظم الفطرية التي فطر اللّه عليها أنواع المخلوقات. فالدّواب و الطير تماثل الأناسي في أنّها خلقت على طبيعة تشترك فيها أفراد أنواعها و أنّها مخلوقة للّه معطاة حياة مقدّرة مع تقدير أرزاقها و ولادتها و شبابها و هرمها، و لها نظم لا تستطيع تبديلها.
و ليست المماثلة براجعة إلى جميع الصفات فإنّها لا تماثل الإنسان في التفكير و الحضارة المكتسبة من الفكر الذي اختصّ به الإنسان. و لذلك لا يصحّ أن يكون لغير الإنسان نظام دولة و لا شرائع و لا رسل ترسل إليهن لانعدام عقل التكليف فيهنّ، و كذلك لا يصحّ أن توصف بمعرفة اللّه تعالى. و أما قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] فذلك بلسان الحال في العجماوات حين نراها بهجة عند حصول ما يلائمها فنراها مرحة فرحة. و إنّما ذلك بما ساق اللّه إليها من النعمة و هي لا تفقه أصلها و لكنّها تحسّ بأثرها فتبتهج، و لأنّ في كل نوع منها خصائص لها دلالة على عظيم قدرة اللّه و علمه تختلف عن بقية الأنواع من جنسه و المقصد من هذا صرف الأفهام إلى الاعتبار بنظام الخلق الذي أودعه اللّه في كلّ نوع، و الخطاب في قوله: أَمْثالُكُمْ موجّه إلى المشركين.
و جملة: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ معترضة لبيان سعة علم اللّه تعالى و عظيم قدرته. فالكتاب هنا بمعنى المكتوب، و هو المكنّى عنه بالقلم المراد به ما سبق في علم اللّه و إرادته الجارية على، وفقه كما تقدّم في قوله تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
التحرير و التنوير، ج6، ص: 90
[الأنعام: 12].
و قيل الكتاب القرآن. و هذا بعيد إذ لا مناسبة بالغرض على هذا التفسير، فقد أورد كيف يشتمل القرآن على كلّ شيء. و قد بسط فخر الدين بيان ذلك لاختيار هذا القول و كذلك أبو إسحاق الشاطبي في «الموافقات».
و التفريط: الترك و الإهمال، و تقدّم بيانه آنفا عند قوله تعالى: قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها [الأنعام: 31].
و الشيء هو الموجود. و المراد به هنا أحوال المخلوقات كما يدلّ عليه السياق فشمل أحوال الدّواب و الطير فإنّها معلومة للّه تعالى مقدّرة عنده بما أودع فيها من حكمة خلقه تعالى.
و قوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ تقدّم تفسيره آنفا في أوّل تفسير هذه الآية. و في الآية تنبيه للمسلمين على الرفق بالحيوان فإنّ الإخبار بأنّها أمم أمثالنا تنبيه على المشاركة في المخلوقية و صفات الحيوانية كلّها. و في قوله: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ إلقاء للحذر من الاعتداء عليها بما نهى الشرع عنه من تعذيبها و إذا كان يقتصّ لبعضها من بعض و هي غير مكلّفة، فالاقتصاص من الإنسان لها أولى بالعدل. و قد
ثبت في الحديث الصحيح: أنّ اللّه شكر للذي سقى الكلب العطشان، و أنّ اللّه أدخل امرأة النار في هرّة حبستها فماتت جوعا.
[39]
[سورة الأنعام (6): آية 39]
يجوز أن تكون الواو للعطف، و المعطوف عليه جملة: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ . و المعنى: و الذين كذّبوا بآياتنا و لم يستمعوا لها، أي لا يستجيبون بمنزلة صمّ و بكم في ظلمات لا يهتدون.
و يجوز أن تكون الجملة مستأنفة و الواو استئنافية، أي عاطفة كلاما مبتدأ ليس مرتبطا بجملة معيّنة من الكلام السابق و لكنّه ناشيء عن جميع الكلام المتقدّم. فإنّ اللّه لمّا ذكر من مخلوقاته و آثار قدرته ما شأنه أن يعرّف الناس بوحدانيته و يدلّهم على آياته و صدق رسوله أعقبه ببيان أنّ المكذّبين في ضلال مبين عن الاهتداء لذلك، و عن التأمّل و التفكير
التحرير و التنوير، ج6، ص: 91
فيه، و على الوجهين فمناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [الأنعام: 38] الآية قد تعرّضنا إليها آنفا.
و المراد بالذين كذّبوا المشركون الذين مضى الكلام على أحوالهم عموما و خصوصا.
و قوله: صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ تمثيل لحالهم في ضلال عقائدهم و الابتعاد عن الاهتداء بحال قوم صمّ و بكم في ظلام. فالصّمم يمنعهم من تلقّي هدى من يهديهم، و البكم يمنعهم من الاسترشاد ممّن يمرّ بهم، و الظلام يمنعهم من التبصّر في الطريق أو المنفذ المخرج لهم من مأزقهم.
و إنّما قيل في الظُّلُماتِ و لم يوصفوا بأنّهم عمّي كما في قوله: عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا [الإسراء: 97] ليكون لبعض أجزاء الهيئة المشبّهة بها ما يصلح لشبه بعض أجزاء الهيئة المشبّهة، فإنّ الكفر الذي هم فيه و الذي أصارهم إلى استمرار الضلال يشبه الظلمات في الحيلولة بين الداخل فيه و بين الاهتداء إلى طريق النجاة. و
في الحديث: الظلم ظلمات يوم القيامة
. فهذا التمثيل جاء على أتمّ شروط التمثيل. و هو قبوله لتفكيك أجزاء الهيئتين إلى تشبيهات مفردة، كقول بشّار:
كأنّ مثار النّقع فوق رؤوسنا
و أسيافنا ليل تهادى كواكبه
و جمع الظلمات جار على الفصيح من عدم استعمال الظلمة مفردا. و قد تقدّم في صدر السورة، و قيل: للإشارة إلى ظلمة الكفر، و ظلمة الجهل، و ظلمة العناد.
و قوله: صُمٌّ وَ بُكْمٌ خبر و معطوف عليه. و قوله: فِي الظُّلُماتِ خبر ثالث لأنّه يجوز في الأخبار المتعددة ما يجوز في النعوت المتعدّدة من العطف و تركه.
و قوله: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ استئناف بياني لأنّ حالهم العجيبة تثير سؤالا و هو أن يقول قائل ما بالهم لا يهتدون مع وضوح هذه الدلائل البيّنات، فأجيب بأنّ اللّه أضلّهم فلا يهتدون، و أنّ اللّه يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء، فدلّ قوله: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ على أنّ هؤلاء المكذّبين الضالّين هم ممّن شاء اللّه إضلالهم على طريقة الإيجاز بالحذف لظهور المحذوف، و هذا مرتبط بما تقدّم من قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام: 35].
و معنى إضلال اللّه تقديره الضلال؛ بأن يخلق الضّالّ بعقل قابل للضلال مصرّ على ضلاله عنيد عليه فإذا أخذ في مبادئ الضلال كما يعرض لكثير من الناس فوعظه واعظ أو
التحرير و التنوير، ج6، ص: 92
خطر له في نفسه خاطر أنّه على ضلال منعه إصراره من الإقلاع عنه فلا يزال يهوي به في مهاوي الضلالة حتّى يبلغ به إلى غاية التخلّق بالضلال فلا ينكفّ عنه. و هذا ممّا أشار إليه قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين: 4، 5]، و دلّ عليه
قول النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم «إنّ الرجل ليصدق حتّى يكون صدّيقا و إنّ الرجل ليكذب حتّى يكتب عند اللّه كذّابا»
. و كلّ هذا من تصرّف اللّه تعالى بالتكوين و الخلق و هو تصرّف القدر.
و له اتّصال بناموس التسلسل في تطوّر أحوال البشر في تصرّفات بعقولهم و عوائدهم، و هي سلسلة بعيدة المدى اقتضتها حكمة اللّه تعالى في تدبير نظام هذا العالم، و لا يعلم كنهها إلّا اللّه تعالى، و ليس هذا الإضلال بالأمر بالضلال فإنّ اللّه لا يأمر بالفحشاء و لا بتلقينه و الحثّ عليه و تسهيله فإنّ ذلك من فعل الشيطان، كما أنّ اللّه قد حرم من أراد إضلاله من انتشاله و اللطف به لأنّ ذلك فضل من هو أعلم بأهله. و مفعول يَشَأِ محذوف لدلالة جواب الشرط عليه، كما هو الشائع في مفعول فعل المشيئة الواقع شرطا.
و الصراط هو الطريق البيّن. و معنى المستقيم أنّه لا اعوجاج فيه، لأنّ السّير في الطريق المستقيم أيسر على السائر و أقرب وصولا إلى المقصود.
و معنى (على) الاستعلاء، و هو استعلاء السائر على الطريق. فالكلام تمثيل لحال الذي خلقه اللّه فمنّ عليه بعقل يرعوي من غيّه و يصغي إلى النصيحة فلا يقع في الفساد فاتّبع الدين الحقّ، بحال السائر في طريق واضحة لا يتحيّر و لا يخطىء القصد، و مستقيمة لا تطوح به في طول السير. و هذا التمثيل أيضا صالح لتشبيه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّه بها، كما تقدّم في نظيره. و قد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6]. فالدين يشبه الصراط الموصّل بغير عناء، و الهدي إليه شبيه الجعل على الصراط.
[40، 41]
[سورة الأنعام (6): الآيات 40 الى 41]
استئناف ابتدائي يتضمّن تهديدا بالوعيد طردا للأغراض السابقة، و تخلّله تعريض بالحثّ على خلع الشرك إذ ليس لشركائهم نفع بأيديهم، فذكّروا بأحوال قد تعرض لهم يلجأون فيها إلى اللّه. و ألقي عليهم سأل أ يستمرون على الإشراك باللّه في تلك الحالة و هل
التحرير و التنوير، ج6، ص: 93
يستمرّون من الآن على الشرك إلى أن يأتيهم العذاب أو تأتيهم القيامة حين يلجأون إلى الإيمان بوحدانيته، و لات حين إيمان.
و افتتح هذا التهديد بالأمر بالقول اهتماما به و إلّا فإنّ معظم ما في القرآن مأمور الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بأن يقوله لهم. و قد تتابع الأمر بالقول في الآيات بعد هذه إلى قوله: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الأنعام: 67] اثنتي عشرة مرّة. و ورد نظيره في سورة يونس.
و قوله: أَ رَأَيْتَكُمْ تركيب شهير الاستعمال، يفتتح بمثله الكلام الذي يراد تحقيقه و الاهتمام به. و همزة الاستفهام فيه للاستفهام التقريري.
و (رأى) فيه بمعنى الظنّ. يسند إلى تاء خطاب تلازم حالة واحدة ملازمة حركة واحدة، و هي الفتحة لا تختلف باختلاف عدد المخاطب و صنفه سواء كان مفردا أو غيره، مذكّرا أو غيره، و يجعل المفعول الأول في هذا التركيب غالبا ضمير خطاب عائدا إلى فاعل الرؤية القلبية و مستغنى به لبيان المراد بتاء الخطاب. و المعنى أنّ المخاطب يعلم نفسه على الحالة المذكورة بعد ضمير الخطاب، فالمخاطب فاعل و مفعول باختلاف الاعتبار، فإنّ من خصائص أفعال باب الظنّ أنّه يجوز أن يكون فاعلها و مفعولها واحدا (و ألحق بأفعال العلم فعلان: فقد، و عدم في الدعاء نحو فقدتني)، و تقع بعد الضمير المنصوب جملة في موضع مفعوله الثاني، و قد يجيء في تلك الجملة ما يعلق فعل الرؤية عن العمل.
هذا هو الوجه في تحليل هذا التركيب. و بعض النحاة يجعل تلك الجملة سادّة مسدّ المفعولين تفصّيا من جعل ضمائر الخطاب مفاعيل إذ يجعلونها مجرّد علامات خطاب لا محلّ لها من الإعراب، و ذلك حفاظا على متعارف قواعد النحو في الاستعمال الأصلي المتعارف مع أنّ لغرائب الاستعمال أحوالا خاصّة لا ينبغي غضّ النظر عنها إلّا إذا قصد بيان أصل الكلام أو عدم التشويش على المتعلّمين. و لا يخفى أنّ ما ذهبوا إليه هو أشدّ غرابة و هو الجمع بين علامتي خطاب مختلفتين في الصورة و مرجعهما متّحد. و على الوجه الذي اخترناه فالمفعول الثاني في هذا التركيب هو جملة: أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ .
و إنّما تركت التاء على حالة واحدة لأنّه لمّا جعلت ذات الفاعل ذات المفعول إعرابا و راموا أن يجعلوا هذا التركيب جاريا مجرى المثل في كونه قليل الألفاظ وافر المعنى تجنّبوا ما يحدثه الجمع بين ضميري خطاب مرفوع و منصوب من الثقل في نحو أرأيتما كما، و أ رأيتكم و أريتنّكنّ، و نحو ذلك، سلكوا هذه الطريقة الغريبة فاستغنوا بالاختلاف
التحرير و التنوير، ج6، ص: 94
حالة الضمير الثاني عن اختلاف حالة الضمير الأول اختصارا و تخفيفا، و بذلك تأتّى أن يكون هذا التركيب جاريا مجرى المثل لما فيه من الإيجاز تسهيلا لشيوع استعماله استعمالا خاصّا لا يغيّر عنه، فلذلك لا تكسر تلك التاء في خطاب المؤنّث و لا تضمّ في خطاب المثنّى و المجموع.
و عن الأخفش: أخرجت العرب هذا اللفظ من معناه بالكلية فألزمته الخطاب، و أخرجته عن موضوعه إلى معنى (أمّا) بفتح الهمزة، فجعلت الفاء بعده في بعض استعمالاته كقوله تعالى: أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الكهف: 63] فما دخلت الفاء إلّا و قد أخرجت (أ رأيت) لمعنى (أمّا)؛ و أخرجته أيضا إلى معنى (أخبرني) فلا بد بعده من اسم المستخبر عنه؛ و تلزم الجملة بعد الاستفهام، و قد يخرج لهذا المعنى و بعده الشرط و ظرف الزمان. ا ه.
في «الكشاف»: متعلّق الاستخبار محذوف، تقديره: إن أتاكم عذاب اللّه أو أتتكم الساعة من تدعون، ثم بكتهم بقوله أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ، أي أ تخصّون آلهتكم بالدعوة أم تدعون اللّه دونها بل إيّاه تدعون ا ه. و جملة: أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ هي المفعول الثاني لفعل أَ رَأَيْتَكُمْ .
و اعلم أنّ هذا استعمال خاصّ بهذا التركيب الخاصّ الجاري مجرى المثل، فأمّا إذا أريد جريان فعل الرؤية العلمية على أصل بابه فإنّه يجري على المتعارف في تعدية الفعل إلى فاعله و مفعوليه. فمن قال لك: رأيتني عالما بفلان. فأردت التحقّق فيه تقول: أ رأيتك عالما بفلان. و تقول للمثنّى: أ رأيتماكما عالمين بفلان، و للجمع أ رأيتموكم و للمؤنثة أ رأيتك- بكسر التاء-.
و قرأه نافع في المشهور- بتسهيل الهمزة ألفا-؛ و عنه رواية بجعلها بين الهمزة و الألف. و قرأه الكسائي- بإسقاط الهمزة- التي هي عين الكلمة، فيقول: أريت و هي لغة. و قرأه الباقون- بتحقيق الهمزة-.
و جملة: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ إلخ معترضة بني مفعولي فعل الرؤية، و هي جملة شرطية حذف جوابها لدلالة جملة المفعول الثاني عليه.
و إتيان العذاب: حلوله و حصوله، فهو مجاز لأن حقيقة الإتيان المجيء، و هو الانتقال من موضع بعيد إلى الموضع الذي استقر فيه مفعول الإتيان، فيطلق مجازا على
التحرير و التنوير، ج6، ص: 95
حصول شيء لم يكن حاصلا. و كذلك القول في إتيان الساعة سواء.
و وجه إعادة فعل أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ مع كون حرف العطف مغنيا عن إعادة العامل بأن يقال: إن أتاكم عذاب اللّه أو الساعة، هو ما يوجّه به الإظهار في مقام الإضمار من إرادة الاهتمام بالمظهر بحيث يعاد لفظه الصريح لأنّه أقوى استقرارا في ذهن السامع.
و الاهتمام هنا دعا إليه التهويل و إدخال الروع في ضمير السامع بأن يصرّح بإسناد هذا الإتيان لاسم المسند إليه الدّالّ على أمر مهول ليدلّ تعلّق هذا الفعل بالمفعول على تهويله و إراعته.
و قد استشعر الاحتياج إلى توجيه إعادة الفعل هنا الشيخ محمد بن عرفة في درس تفسيره، و لكنّه وجّهه بأنّه إذا كان العاملان متفاوتين في المعنى لكون أحدهما أشدّ يعاد العامل بعد حرف العطف إشعارا بالتفاوت، فإنّ إتيان العذاب أشدّ من إتيان الساعة (أي بناء على أنّ المراد بعذاب اللّه عذاب الآخرة) أو كان العاملان متباعدين، فإن أريد بالساعة القيامة و بعذاب اللّه المحق و الرزايا في الدنيا فيعقبه بعد مهلة تامّة. و إن أريد بالساعة المدّة فالمحق الدنيوي كثير، منه متقدّم و منه متأخّر إلى الموت، فالتقدّم ظاهر ا ه.
و في توجيهه نظر إذ لا يشهد له الاستعمال.
و إضافة العذاب إلى اسم الجلالة لتهويله لصدوره من أقدر القادرين. و المراد عذاب يحصل في الدنيا يضرعون إلى اللّه لرفعه عنهم بدليل قوله أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ، فإنّ الدعاء لا يكون بطلب رفع عذاب الجزاء. و هذا تهديد و إنذار.
و الساعة: علم بالغلبة على ساعة انقراض الدنيا، أي إن أدركتكم الساعة.
و تقديم أَ غَيْرَ اللَّهِ على عامله و هو تَدْعُونَ لتكون الجملة المستفهم عنها جملة قصر، أي أ تعرضون عن دعاء اللّه فتدعون غيره دونه كما هو دأبكم الآن، فالقصر لحكاية حالهم لا لقصد الردّ على الغير. و قد دلّ الكلام على التعجّب، أي تستمرّون على هذه الحال. و الكلام زيادة في الإنذار.