کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج7، ص: 125
الباطل، و إذا مدح أحدا مدحه بما فيه، و أمّا الشّتم فالإمساك عنه واجب و لو كان حقّا فذلك الإمساك هو العدل لأنّ اللّه أمر به.
و في التّعليق بأداة الشّرط في قوله: وَ إِذا قُلْتُمْ إشارة إلى أنّ المرء في سعة من السكوت إن خشي قول العدل. و أمّا أن يقول الجور و الظّلم و الباطل فليس له سبيل إلى ذلك، و الكذب كلّه من القول بغير العدل، على أنّ من السكوت ما هو واجب. و في «الموطأ» أنّ رجلا خطب إلى رجل أخته فذكر الأخ أنّها قد كانت أحدثت فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب فضربه أو كاد يضربه ثمّ قال: «مالك و للخبر».
و الواو في قوله: وَ لَوْ كانَ واو الحال، و لو وصلية تفيد المبالغة في الحال التي من شأنها أن يظنّ السّامع عدم شمول الحكم إيّاها لاختصاصها من بين بقيّة الأحوال التي يشملها الحكم، و قد تقدّم بيانها عند قوله تعالى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدى بِهِ في سورة آل عمران [91]، فإنّ حالة قرابة المقول لأجله القول قد تحمل القائل على أن يقول غير العدل، لنفع قريبه أو مصانعته، فنّبهوا على وجوب التزام العدل في القول في تلك الحالة، فالضّمير المستتر في (كان) كائد إلى شيء معلوم من الكلام:
أي و لو كان الذي تعلّق به القول ذا قربى.
و القربى: القرابة و يعلم أنّه ذو قرابة من القائل، أي إذا قلتم قولا لأجله أو عليه فاعدلوا و لا تقولوا غير الحقّ، لا لدفع ضرّه بأن تغمصوا الحقّ الذي عليه، و لا لنفعه بأن تختلقوا له حقّا على غيره أو تبرءوه ممّا صدر منه على غيره، و قد قال اللّه تعالى في العدل في الشّهادة و القضاء: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ [النساء: 135].
و قد جاء طلب الحقّ في القول بصيغة الأمر بالعدل، دون النّهي عن الظلم أو الباطل: لأنّه قيّده بأداة الشّرط المقتضي لصدور القول: فالقول إذا صدر لا يخلو عن أن يكون حقّا أو باطلا، و الأمر بأن يكون حقّا أوفى بمقصد الشّارع لوجهين:
أحدهما: أنّ اللّه يحبّ إظهار الحقّ بالقول، ففي الأمر بأن يكون عدلا أمر بإظهاره و نهي عن السّكوت بدون موجب. الثّاني: أنّ النّهي عن قول الباطل أو الزّور يصدق بالكلام الموجّه الذي ظاهره ليس بحقّ، و ذلك مذموم إلّا عند الخوف أو الملاينة، أو فيما لا يرجع إلى إظهار حقّ، و تلك هي المعاريض التي
ورد فيها حديث: «إنّ في
التحرير و التنوير، ج7، ص: 126
المعاريض لمندوحة عن الكذب»
«1» .
وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا .
ختم هذه المتلوات بالأمر بإيفاء العهد بقوله: وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا . و عهد اللّه المأمور بالإيفاء به هو كلّ عهد فيه معنى الانتساب إلى اللّه الذي اقتضته الإضافة، إذ الإضافة هنا يصحّ أن تكون إضافة المصدر إلى الفاعل، أي ما عهد اللّه به إليكم من الشّرائع، و يصحّ أن تكون إضافة المصدر إلى مفعوله، أي ما عاهدتم اللّه أن تفعلوه، و التزمتموه و تقلّدتموه، و يصحّ أن تكون الإضافة لأدنى ملابسة، أي العهد الذي أمر اللّه بحفظه، و حذر من ختره، و هو العهود التي تنعقد بين الناس بعضهم مع بعض سواء كان بين القبائل أم كان بين الآحاد. و لأجل مراعاة هذه المعاني النّاشئة عن صلاحيّة الإضافة لإفادتها عدل إلى طريق إسناد اسم العهد إلى اسم الجلالة بطريق الإضافة دون طريق الفعل، بأن يقال: و بما عاهدتم اللّه عليه، أو نحن ذلك ما لا يحتمل إلّا معنى واحدا. و إذ كان الخطاب بقوله: تَعالَوْا [الأنعام: 151] للمشركين تعيّن أن يكون العهد شيئا قد تقرّرت معرفته بينهم، و هو العهود التي يعقدونها بالموالاة و الصّلح أو نحو ذلك فهو يدعوهم إلى الوفاء بما عاقدوا عليه. و أضيف إلى اللّه لأنّهم كانوا يتحالفون عند التّعاقد و لذلك يسمّون العهد حلفا، قال الحارث بن حلّزة:
و اذكروا حلف ذي المجاز و ما
قدم فيه العهود و الكفلاء
و قال عمرو بن كلثوم:
و نوجد نحن أمنعهم ذمارا
و أوفاهم إذا عقدوا يمينا
فالآية آمرة لهم بالوفاء، و كان العرب يتمادحون به. و من العهود المقرّرة بينهم:
حلف الفضول، و حلف المطيّبين، و كلاهما كان في الجاهليّة على نفي الظّلم و الجور عن القاطنين بمكّة، و ذلك تحقيق لعهد اللّه لإبراهيم عليه السّلام أن يجعل مكّة بلدا آمنا و من دخله كان آمنا، و قد اعتدى المشركون على ضعفاء المؤمنين و ظلموهم مثل عمار، و بلال، و عامر بن فهيرة، و نحوهم، فهو يقول لهم فيما يتلو عليهم أنّ خفر عهد اللّه بأمان مكّة، و خفر عهودكم بذلك، أولى بأن تحرّموه من مزاعمكم الكاذبة فيما حرّمتم و فصّلتم، فهذا
(1) رواه البيهقي في «سننه» و ابن عدي في «الكامل» عن عمران بن حصين. قيل: هو مرفوع و الأصح موقوف.
التحرير و التنوير، ج7، ص: 127
هو الوجه في تفسير قوله: وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا .
و تقديم المجرور على عامله للاهتمام بأمر العهد و صرف ذهن السّامع عند، ليتقرّر في ذهنه ما يرد بعده من الأمر بالوفاء، أي إن كنتم ترون الوفاء بالعهد مدحة فعهد اللّه أولى بالوفاء و أنتم قد اخترتموه، فهذا كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ - ثمّ قال- وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 217].
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .
تكرار لقوله المماثل له قبله، و قد علمت أنّ هذا التّذييل ختم به صنف من أصناف الأحكام. و جاء مع هذه الوصيّة بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لأنّ هذه المطالب الأربعة عرف بين العرب أنّها محامد، فالأمر بها، و التّحريض عليها تذكير بما عرفوه في شأنها و لكنّهم تناسوه بغلبة الهوى و غشاوة الشّرك على قلوبهم.
و قرأ نافع، و ابن كثير، و أبو عمرو، و ابن عامر، و عاصم في رواية أبي بكر، و أبو جعفر، و يعقوب: تذكرون- بتشديد الذال لإدغام التّاء الثّانية في الذال بعد قلبها-، و قرأ حمزة، و الكسائي، و عاصم في رواية حفص، و خلف- بتخفيف الذال على حذف التّاء الثّانية تخفيفا-.
[153]
[سورة الأنعام (6): آية 153]
الواو عاطفة على جملة: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الأنعام: 151] لتماثل المعطوفات في أغراض الخطاب و ترتيبه، و في تخلّل التّذييلات التي عقبت تلك الأغراض بقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: 151]- لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: 152]- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ و هذا كلام جامع لاتباع ما يجيء إلى الرسول صلى اللّه عليه و سلّم من الوحي في القرآن.
و قرأ نافع، و ابن كثير، و أبو عمرو، و عاصم، و أبو جعفر: أن- بفتح الهمزة و تشديد النّون-.
و عن الفراء و الكسائي أنّه معطوف على: ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ [الأنعام: 151]، فهو في موضع نصب بفعل: أَتْلُ و التّقدير: و أتل عليكم أنّ هذا صراطي مستقيما.
التحرير و التنوير، ج7، ص: 128
و عن أبي عليّ الفارسي: أنّ قياس قول سيبويه أن تحمل (أنّ)، أي تعلّق على قوله:
فَاتَّبِعُوهُ ، و التّقدير: و لأنّ هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه، على قياس قول سيبويه في قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش: 1]. و قال في قوله تعالى: وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن: 18] المعنى: و لأنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحدا اه.
ف أَنَ مدخولة للام التّعليل محذوفة على ما هو المعروف من حذفها مع (أنّ) و (أن). و تقدير النّظم: و اتّبعوا صراطي لأنّه صراط مستقيم، فوقع تحويل في النّظم بتقدير التّعليل على الفعل الذي حقّه أن يكون معطوفا، فصار التّعليل معطوفا لتقديمه ليفيد تقديمه تفرّع المعلّل و تسبّبه، فيكون التّعليل بمنزلة الشّرط بسبب هذا التّقديم، كأنّه قيل: لمّا كان هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه.
و قرأ حمزة، و الكسائي، و خلف: و إن- بكسر الهمزة و تشديد النّون- فلا تحويل في نظم الكلام، و يكون قوله: فَاتَّبِعُوهُ تفريعا على إثبات الخبر بأنّ صراطه مستقيم.
و قرأ ابن عامر، و يعقوب: «و أن»- بفتح الهمزة و سكون النّون- على أنّها مخفّفة من الثّقيلة و اسمها ضمير شأن مقدر و الجملة بعده خبره، و الأحسن تخريجها بكون أَنَ تفسيرية معطوفة على: أَلَّا تُشْرِكُوا [الأنعام: 151]. و وجه إعادة أَنَ اختلاف أسلوب الكلام عمّا قبله.
و الإشارة إلى الإسلام: أي و أنّ الإسلام صراطي؛ فالإشارة إلى حاضر في أذهان المخاطبين من أثر تكرّر نزول القرآن و سماع أقوال الرّسول عليه الصّلاة و السّلام، بحيث عرفه النّاس و تبيّنوه، فنزّل منزلة المشاهد، فاستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع لتعيين ذات بطريق المشاهدة مع الإشارة، و يجوز أن تكون الإشارة إلى جميع التّشريعات و المواعظ التي تقدّمت في هذه السّورة، لأنّها صارت كالشّيء الحاضر المشاهد، كقوله تعالى:
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ* [آل عمران: 44].
و الصّراط: الطّريق الجادة الواسعة، و قد مرّ في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] و المراد الإسلام كما دلّ عليه قوله في آخر السّورة: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [الأنعام: 161] لأنّ المقصود منها تحصيل الصّلاح في الدّنيا و الآخرة فشبّهت بالطّريق الموصل السّائر فيه إلى غرضه و مقصده.
و لمّا شبّه الإسلام بالصّراط و جعل كالشّيء المشاهد صار كالطّريق الواضحة البيّنة فادّعي أنّه مستقيم، أي لا اعوجاج فيه لأنّ الطّريق المستقيم أيسر سلوكا على السائر
التحرير و التنوير، ج7، ص: 129
و أسرع وصولا به.
و الياء المضاف إليها (صراط) تعود على اللّه، كما بيّنه قوله: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ [الشورى: 52، 53] على إحدى طريقتين في حكاية القول إذا كان في المقول ضمير القائل أو ضمير الآمر بالقول، كما تقدّم عند قوله تعالى: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ في سورة العقود [117]، و قد عدل عن طريقة الغيبة، التي جرى عليها الكلام من قوله: ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ [الأنعام: 151] لغرض الإيماء إلى عصمة هذا الصّراط من الزلل، لأنّ كونه صراط اللّه يكفي في إفادة أنّه موصل إلى النّجاح، فلذلك صحّ تفريع الأمر باتّباعه على مجرّد كونه صراط اللّه. و يجوز عود الياء إلى النّبيء المأمور بالقول، إلّا أنّ هذا يستدعي بناء التّفريع بالأمر باتّباعه على ادّعاء أنّه واضح الاستقامة، و إلّا فإنّ كونه طريق النّبيء لا يقتضي تسبّب الأمر باتّباعه عنه بالنّسبة إلى المخاطبين المكذّبين.
و قوله: مُسْتَقِيماً حال من اسم الإشارة، و حسّن وقوعه حالا أنّ الإشارة بنيت على ادّعاء أنّه مشاهد، فيقتضي أنّه مستحضر في الذّهن بمجمل كلياته و ما جرّبوه منه و عرفوه، و أنّ ذلك يريهم أنّه في حال الاستقامة كأنّه أمر محسوس، و لذلك كثر مجيء الحال من اسم الإشارة نحو: وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] و لم يأتوا به خبرا.
و السبل: الطّرق، و وقوعها هنا في مقابلة الصّراط المستقيم يدلّ على صفة محذوفة، أي السّبل المتفرّقة غير المستقيمة، و هي التي يسمّونها: بنيات الطّريق، و هي طرق تتشعّب من السبيل الجادّة ذاهبة، يسلكها بعض المارّه فرادى إلى بيوتهم أو مراعيهم فلا تبلغ إلى بلد و لا إلى حيّ، و لا يستطيع السّير فيها إلّا من عقلها و اعتادها، فلذلك سبب عن النّهي قوله: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، أي فإنّها طرق متفرّقة فهي تجعل سالكها متفرّقا عن السّبيل الجادّة، و ليس ذلك لأنّ السّبيل اسم للطّريق الضيقة غير الموصّلة، فإنّ السّبيل يرادف الصّراط ألا ترى إلى قوله: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [يوسف: 108]، بل لأنّ المقابلة و الإخبار عنها بالتّفرق دلّ على أنّ المراد سبل خاصّة موصوفة بغير الاستقامة.
و الباء في قوله: بِكُمْ للمصاحبة: أي فتتفرّق السّبل مصاحبة لكم، أي تتفرّقون مع تفرّقها، و هذه المصاحبة المجازية تجعل الباء بمنزلة همزة التّعدية كما قاله النّحاة، في نحو: ذهبت بزيد، أنّه بمعنى أذهبته، فيكون المعنى فتفرّقكم عن سبيله، أي لا تلاقون
التحرير و التنوير، ج7، ص: 130
و الضّمير المضاف إليه في: سَبِيلِهِ يعود إلى اللّه تعالى بقرينة المقام، فإذا كان ضمير المتكلّم في قوله: صِراطِي عائدا للّه كان في ضمير سَبِيلِهِ التفاتا عن سبيلي.
روى النّسائي في «سننه»، و أحمد، و الدارمي في «مسنديهما»، و الحاكم في «المستدرك»، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: خطّ لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم يوما خطّا ثمّ قال: هذا سبيل اللّه، ثم خطّ خطوطا عن يمينه و عن شماله (أي عن يمين الخطّ المخطوط أوّلا و عن شماله) ثمّ قال: «هذه سبل على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليها» ثمّ قرأ: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
. و
روى أحمد، و ابن ماجة، و ابن مردويه، عن جابر بن عبد اللّه قال: «كنّا عند النّبيء صلى اللّه عليه و سلّم فخطّ خطّا و خطّ خطّين عن يمينه و خطّ خطيّن عن يساره ثمّ وضع يده في الخطّ الأوسط (أي الذي بين الخطوط الأخرى) فقال: هذه سبيل اللّه، ثم تلا هذه الآية: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »
و ما وقع في الرّواية الأولى (و خطّ خطوطا) هو باعتبار مجموع ما على اليمين و الشّمال. و هذا رسمه على سبيل التّقريب:
و قوله: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تذييل تكرير لمثليه السّابقين، فالإشارة ب ذلِكُمْ إلى الصّراط، و الوصاية به معناها الوصاية بما يحتوي عليه.
و جعل الرّجاء للتّقوى لأنّ هذه السّبيل تحتوي على ترك المحرّمات، و تزيد بما تحتوي عليه من فعل الصّالحات، فإذا اتّبعها السّالك فقد صار من المتّقين أي الذين اتّصفوا بالتّقوى بمعناها الشّرعي كقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2].
[154]
[سورة الأنعام (6): آية 154]
ثُمَ هنا عاطفة على جملة: قُلْ تَعالَوْا [الأنعام: 151] فليست عاطفة للمفردات، فلا يتوهّم أنّها لتراخي الزّمان، بل تنسلخ عنه حين تعطف الجمل فتدل على التّراخي في الرّتبة، و هو مهلة مجازيّة، و تلك دلالة (ثم) إذا عطفت الجمل. و قد استصعب على بعض المفسّرين مسلك (ثمّ) في هذه الآية لأنّ إتيان موسى عليه السّلام الكتاب ليس برتبة أهمّ
التحرير و التنوير، ج7، ص: 131
من رتبة تلاوة ما حرّمه اللّه من المحرّمات و ما فرضه من اتّباع صراط الإسلام. و تعدّدت آراء المفسّرين في محمل (ثمّ) هنا إلى آراء: للفراء، و الزجاج، و الزّمخشري، و أبي مسلم، و غيرهم، كلّ يروم التخلّص من هذا المضيق.
و الوجه عندي: أنّ (ثمّ) ما فارقت المعروف من إفادة التّراخي الرّتبي، و أنّ تراخي رتبة إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب عن تلاوة ما حرّم اللّه في القرآن، و ما أمر به من ملازمة صراط الإسلام، إنّما يظهر بعد النّظر إلى المقصود من نظم الكلام، فإنّ المقصود من ذكر إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب ليس لذاته بل هو التّمهيد لقوله: وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الأنعام: 92] ليرتّب عليه قوله: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا - إلى قوله: وَ هُدىً وَ رَحْمَةً [الأنعام: 156، 157]، فمعنى الكلام: و فوق ذلك فهذا كتاب أنزلناه مبارك جمع فيه ما أوتيه موسى عليه السّلام (و هو أعظم ما أوتيه الأنبياء من قبله) و ما في القرآن: الذي هو مصدّق لما بين يديه و مهيمن عليه؛ إن اتّبعتموه و اتّقيتم رحمناكم و لا معذرة لكم أن تقولوا لو أنزل لنا كتاب لكنّا أفضل اهتداء من أهل الكتابين، فهذا غرض أهمّ جمعا لاتّباع جميع ما اشتمل عليه القرآن، و أدخل في إقناع المخاطبين بمزية أخذهم بهذا الكتاب.
و مناسبة هذا الانتقال: ما ذكر من صراط اللّه الذي هو الإسلام، فإنّ المشركين لمّا كذّبوا دعوة الإسلام ذكّرهم اللّه بأنّه آتى موسى عليه السّلام الكتاب كما اشتهر بينهم حسبما بيّناه عند قوله تعالى: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى [91] الآية، في هذه السّورة، لينتقل إلى ذكر القرآن و التّحريض على اتّباعه فيكون التّذكير بكتاب موسى عليه السّلام تمهيدا لذلك الغرض.
و الْكِتابُ هو المعهود، أي التّوراة، و تَماماً حال من الكتاب، و التّمام الكمال، أي كان ذلك الكتاب كمالا لما في بني إسرائيل من الصّلاح الذي هو بقيّة ممّا تلقّوه عن أسلافهم: من صلاح إبراهيم، و ما كان عليه إسحاق و يعقوب و الأسباط عليهم السّلام، فكانت التّوراة مكمّلة لصلاحهم، و مزيلة لما اعتراهم من الفساد، و أنّ إزالة الفساد تكملة للصّلاح. و وصف التّوراة بالتّمام مبالغة في معنى المتمّ.