کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج8، ص: 211
و قوله: أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ قرأه نافع، و ابن كثير، و ابن عامر، و أبو جعفر- بسكون الواو- على أنه عطف بحرف (أو) الذي هو لأحد الشيئين عطفا على التعجيب، أي: هو تعجيب من أحد الحالين. و قرأه الباقون- بفتح الواو- على أنه عطف بالواو مقدمة عليه همزة الاستفهام، فهو عطف استفهام ثان بالواو المفيدة للجمع، فيكون كلا الاستفهامين مدخولا لفاء التعقيب، على قول جمهور النحاة، و أما على رأي الزمخشري فيتعين أن تكون الواو للتقسيم، أي تقسيم الاستفهام إلى استفهامين، و تقدم ذكر الرأيين عند قوله تعالى: أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ في سورة البقرة [87].
و بَياتاً تقدم معناه و وجه نصبه عند قوله تعالى: وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً في أول هذه السورة [4].
و الضحى بالضم مع القصر هو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرق و ارتفع، و فسره الفقهاء بأن ترتفع الشمس قيد رمح، و يرادفه الضحوة و الضّحو.
و الضحى يذكر و يؤنث، و شاع التوقيت به عند العرب و من قبلهم، قال تعالى حكاية عن موسى: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: 59].
و تقييد التعجيب من أمنهم مجيء البأس، بوقتي البيات و الضحى، من بين سائر الأوقات، و بحالي النوم و اللعب، من بين سائر الأحوال، لأن الوقتين أجدر بأن يحذر حلول العذاب فيهما، لأنهما وقتان للدعة، فالبيات للنوم بعد الفراغ من الشغل. و الضحى للعب قبل استقبال الشغل، فكان شأن أولي النهى المعرضين عن دعوة رسل اللّه أن لا يأمنوا عذابه، بخاصة في هذين الوقتين و الحالين.
و في هذا التعجيب تعريض بالمشركين المكذبين للنبيء صلى اللّه عليه و سلّم أن يحل بهم ما حلّ بالأمم الماضية، فكان ذكر وقت البيات، و وقت اللعب، أشد مناسبة بالمعنى التعريضي،.
تهديدا لهم بأن يصيبهم العذاب بأفظع أحواله، إذ يكون حلوله بهم في ساعة دعتهم و ساعة لهوهم نكاية بهم.
و قوله: أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ تكرير لقوله: أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى قصد منه تقرير التعجيب من غفلتهم، و تقرير معنى التعريض بالسامعين من المشركين، مع زيادة التذكير بأن ما حل بأولئك من عذاب اللّه يماثل هيئة مكر الماكر بالممكور فلا يحسبوا الإمهال إعراضا
التحرير و التنوير، ج8، ص: 212
عنهم، و ليحذروا أن يكون ذلك كفعل الماكر بعدوّه.
و المكر حقيقته: فعل يقصد به ضر أحد في هيئة تخفى أو هيئة يحسبها منفعة. و هو هنا استعارة للإمهال و الإنعام في حال الإنعام في حال الإمهال، فهي تمثيلية، شبه حال الإنعام مع الإمهال و تعقيبه بالانتقام بحال المكر، و تقدم في سورة آل عمران [54] عند قوله: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ .
و قوله: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ مترتب و متفرع عن التعجيب في قوله: أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ لأن المقصود منه تفريع أن أهل القرى المذكورين خاسرون لثبوت أنهم أمنوا مكر اللّه، و التقدير: أ فأمنوا مكر اللّه فهم قوم خاسرون.
و إنما صيغ هذا التفريع بصيغة تعم المخبر عنهم و غيرهم ليجري مجرى المثل و يصير تذييلا للكلام، و يدخل فيه المعرّض بهم في هذه الموعظة و هم المشركون الحاضرون، و التقدير: فهم قوم خاسرون، إذ لا يأمن مكر اللّه إلّا القوم الخاسرون.
و الخسران- هنا- هو إضاعة ما فيه نفعهم بسوء اعتقادهم، شبه ذلك بالخسران و هو إضاعة التاجر رأس ماله بسوء تصرفه، لأنهم باطمئنانهم إلى السلامة الحاضرة، و إعراضهم عن التفكر فيما يعقبها من الأخذ الشبيه بفعل الماكر قد خسروا الانتفاع بعقولهم و خسروا أنفسهم.
و تقدم قوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ في سورة الأنعام [12]، و قوله:
فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ في أول السورة [9].
و تقدم أن إطلاق المكر على أخذ اللّه مستحقي العقاب بعد إمهالهم: أن ذلك تمثيل عند قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ في سورة آل عمران [54].
و اعلم أن المراد بأمن مكر اللّه في هذه الآية هو الأمن الذي من نوع أمن أهل القرى المكذبين، الذي ابتدئ الحديث عنه من قوله: وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نبيء إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف: 94] ثم قوله: أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً الآيات، و هو الأمن الناشئ عن تكذيب خبر الرسول- صلى اللّه عليه و سلّم-، و عن الغرور بأن دين الشرك هو الحق فهو أمن ناشئ عن كفر، و المأمون منه هو وعيد الرسل إياهم و ما أطلق عليه أنه مكر اللّه.
و من الأمن من عذاب اللّه أصناف أخرى تغاير هذا الأمن، و تتقارب منه، و تتباعد،
التحرير و التنوير، ج8، ص: 213
بحسب اختلاف ضمائر الناس و مبالغ نياتهم، فأما ما كان منها مستندا لدليل شرعي فلا تبعة على صاحبه، و ذلك مثل أمن المسلمين من أمثال عذاب الأمم الماضية المستند إلى قوله تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33]، و إلى قول النبيء صلى اللّه عليه و سلّم لما نزل قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ -
فقال النبيء- عليه الصلاة و السلام: أعوذ بسبحات وجهك الكريم- أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ - فقال:
أعوذ بسبحات وجهك الكريم أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [الأنعام: 65] الآية- فقال: هذه أهون»
كما تقدم في تفسيرها في سورة الأنعام و مثل، أمن أهل بدر من عذاب الآخرة
لقول النبيء صلى اللّه عليه و سلّم: «ما يدريك لعل اللّه اطّلع على أهل بدر فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»
في قصة حاطب بن أبي بلتعة.
و مثل إخبار النبيء صلى اللّه عليه و سلّم عبد اللّه بن سلام أنه لا يزال آخذا بالعروة الوثقى، و مثل الأنبياء فإنهم آمنون من مكر اللّه بإخبار اللّه إياهم بذلك، و أولياء اللّه كذلك، قال تعالى:
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63] فمن العجيب ما ذكره الخفاجي أن الحنفية قالوا: الأمن من مكر اللّه كفر لقوله تعالى:
فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ .
و الأمن مجمل و مكر اللّه تمثيل و الخسران مشكك الحقيقة. و قال الخفاجي: الأمن من مكر اللّه كبيرة عند الشافعية، و هو الاسترسال على المعاصي اتكالا على عفو اللّه و ذلك مما نسبه الزركشي في «شرح جمع الجوامع» إلى ولي الدين، و
روى البزار و ابن أبي حاتم عن ابن عباس: «أن النبيء صلى اللّه عليه و سلّم سئل: ما الكبائر فقال: الشرك باللّه و اليأس من روح اللّه و الأمن من مكر اللّه»
، و لم أقف على مبلغ هذا الحديث من الصحة، و قد ذكرنا غير مرة أن ما يأتي في القرآن من الوعيد لأهل الكفر على أعمال لهم مراد منه أيضا تحذير المسلمين مما يشبه تلك الأعمال بقدر اقتراب شبهه.
[100]
[سورة الأعراف (7): آية 100]
عطفت على جملة: أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الأعراف: 97] لاشتراك مضمون الجملتين في الاستفهام التعجيبي، فانتقل عن التعجيب من حال الذين مضوا إلى التعجيب من حال الأمة الحاضرة، و هي الأمة العربية الذين ورثوا ديار الأمم الماضية فسكنوها: مثل أهل
التحرير و التنوير، ج8، ص: 214
نجران، و أهل اليمن، و من سكنوا ديار ثمود مثل بليّ، و كعب، و الضجاغم، و بهراء، و من سكنوا ديار مدين مثل جهينة، و جرم، و كذلك من صاروا قبائل عظيمة فنالوا السيادة على القبائل: مثل قريش، و طي، و تميم، و هذيل. فالموصول بمنزلة لام التعريف العهدي، و قد يقصد بالذين يرثون الأرض كل أمة خلفت أمة قبلها، فيشمل عادا و ثمودا، فقد قال لكلّ نبيّهم وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ [الأعراف: 74] إلخ و لكن المشركين من العرب يومئذ مقصودون في هذا ابتداء. فالموصول بمنزلة لام الجنس.
و الاستفهام في قوله: أَ وَ لَمْ يَهْدِ مستعمل في التعجيب. مثل الذي في قوله:
أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الأعراف: 97] تعجيبا من شدة ضلالتهم إذ عدموا الاهتداء و الاتعاظ بحال من قبلهم من الأمم، و نسوا أن اللّه قادر على استئصالهم إذا شاءه.
و التعريف في الأرض تعريف الجنس، أي يرثون أي أرض كانت منازل لقوم قبلهم، و هذا إطلاق شائع في كلام العرب، يقولون هذه أرض طيء، و في حديث الجنازة «من أهل الأرض» أي من السكان القاطنين بأرضهم لا من المسلمين الفاتحين فالأرض بهذا المعنى اسم جنس صادق على شائع متعدد، فتعريفه تعريف الجنس، و بهذا الإطلاق جمعت على أرضين، فالمعنى: أو لم يهد للذين يرثون أرضا من بعد أهلها.
و الإرث: مصير مال الميت إلى من هو أولى به، و يطلق مجازا على مماثلة الحي ميتا في صفات كانت له، من عزّأ و سيادة، كما فسر به قوله تعالى حكاية عن زكرياء فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [مريم: 5، 6] أي يخلفني في النبوءة، و قد يطلق على القدر المشترك بين المعنيين، و هو مطلق خلافة المنقرض. و هو هنا محتمل للإطلاقين، لأنه إن أريد بالكلام أهل مكة فالإرث بمعناه المجازي، و إن أريد أهل مكة و القبائل التي سكنت بلاد الأمم الماضية فهو مستعمل في القدر المشترك، و هو كقوله تعالى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] و أيّا ما كان فقيد مِنْ بَعْدِ أَهْلِها تأكيد لمعنى يَرِثُونَ ، يراد منه تذكير السامعين بما كان فيه أهل الأرض الموروثة من بحبوحة العيش، ثم ما صاروا إليه من الهلاك الشامل العاجل، تصويرا للموعظة بأعظم صورة فهو كقوله تعالى:
وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 129].
و معنى لَمْ يَهْدِ لم يرشد و يبين لهم، فالهداية أصلها تبيين الطريق للسائر، و اشتهر استعمالهم في مطلق الإرشاد: مجازا أو استعارة كقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6]. و تقدم أن فعلها يتعدى إلى مفعولين، و أنه يتعدى إلى الأول منهما بنفسه و إلى
التحرير و التنوير، ج8، ص: 215
الثاني تارة بنفسه و أخرى بالحرف: اللام أو (إلى)، فلذلك كانت تعديته إلى المفعول الأول باللام في هذه الآية إمّا لتضمينه معنى يبين، و إما لتقوية تعلق معنى الفعل بالمفعول كما في قولهم: شكرت له، و قوله تعالى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم: 5]، و مثل قوله تعالى: أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ في سورة طه [128].
و أَنْ مخففة من (أنّ) و اسمها ضمير الشأن، و جملة لَوْ نَشاءُ خبرها. و لما كانت (أن)- المفتوحة الهمزة- من الحروف التي تفيد المصدرية على التحقيق لأنها مركّبة من (إنّ) المكسورة المشددة، و من (أنّ) المفتوحة المخففة المصدرية لذلك عدّت في الموصولات الحرفية و كان ما بعدها مؤولا بمصدر منسبك من لفظ خبرها إن كان مفردا مشتقا، أو من الكون إن كان خبرها جملة، فموقع أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ موقع فاعل يَهْدِ ، و المعنى: أو لم يبيّن للذين يخلفون في الأرض بعد أهلها كون الشأن المهم و هو لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم.
و هؤلاء هم الذين أشركوا باللّه و كذبوا محمدا صلى اللّه عليه و سلّم.
و الإصابة: نوال الشيء المطلوب بتمكّن فيه. فالمعنى: أن نأخذهم أخذا لا يفلتون منه. و الباء في بِذُنُوبِهِمْ للسببية، و ليست لتعدية فعل أَصَبْناهُمْ .
و جملة: أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ واقعة موقع مفرد، هو فاعل يَهْدِ ، ف (إن) مخففة من الثقيلة و هي من حروف التأكيد و المصدرية و اسمها في حالة التخفيف، ضمير شأن مقدر، و جملة شرط (لو) و جوابه خبر (أنّ).
و (لو) حرف شرط يفيد تعليق امتناع حصول جوابه لأجل امتناع حصول شرطه: في الماضي، أو في المستقبل، و إذ قد كان فعل الشرط هنا مضارعا كان في معنى الماضي، إذ لا يجوز اختلاف زمني فعلي الشرط و الجواب، و إنما يخالف بينهما في الصورة لمجرد التفنن كراهية تكرير الصورة الواحدة، فتقدير قوله: لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ انتفى أخذنا إياهم في الماضي بذنوب تكذيبهم، لأجل انتفاء مشيئتنا ذلك لحكمة إمهالهم لا لكونهم أعزّ من الأمم البائدة أو أفضل حالا منهم، كما قال تعالى: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ [غافر: 21] الآية، و في هذا تهديد بأن اللّه قد يصيبهم بذنوبهم في المستقبل، إذ لا يصده عن ذلك غالب، و المعنى: أغرهم تأخّر العذاب مع تكذيبهم فحسبوا أنفسهم في منعة منه، و لم
التحرير و التنوير، ج8، ص: 216
يهتدوا إلى أن انتفاء نزوله بهم معلق على انتفاء مشيئتنا وقوعه لحكمة، فما بينهم و بين العذاب إلّا أن نشاء أخذهم، و المصدر الذي تفيده (أن) المخففة، إذا كان اسمها ضمير شأن، يقدر ثبوتا متصيّدا مما في (أن) و خبرها من النسبة المؤكدة، و هو فاعل يَهْدِ فالتقدير في الآية: أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ثبوت هذا الخبر المهم و هو لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ .
و المعنى: اعجبوا كيف لم يهتدوا إلى أن تأخير العذاب عنهم هو بمحض مشيئتنا و أنه يحق عليهم عند ما نشاؤه.
و جملة: وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ ليست معطوفة على جملة: أَصَبْناهُمْ حتى تكون في حكم جواب (لو) لأن هذا يفسد المعنى، فإن هؤلاء الذين ورثوا الأرض من بعد أهلها قد طبع على قلوبهم فلذلك لم تجد فيهم دعوة محمد صلى اللّه عليه و سلّم منذ بعث إلى زمن نزول هذه السورة، فلو كان جوابا ل (لو) لصار الطبع على قلوبهم ممتنعا و هذا فاسد، فتعين: إما أن تكون جملة وَ نَطْبَعُ معطوفة على جملة الاستفهام برمتها فلها حكمها من العطف على أخبار الأمم الماضية و الحاضرة.
و التقدير: و طبعنا على قلوبهم، و لكنه صيغ بصيغة المضارع للدلالة على استمرار هذا الطبع و ازدياده آنا فآنا، و إمّا أن تجعل (الواو) للاستئناف و الجملة مستأنفة، أي: و نحن نطبع على قلوبهم في المستقبل كما طبعنا عليها في الماضي، و يعرف الطبع عليها في الماضي بأخبار أخرى كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ [البقرة: 6] الآية، فتكون الجملة تذييلا لتنهية القصة، و لكن موقع الواو في أول الجملة يرجح الوجه الأول، و كأن صاحب «المفتاح» يأبى اعتبار الاستئناف من معاني الواو.
و جملة: فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ معطوفة بالفاء على نَطْبَعُ متفرعا عليه، و المراد بالسماع فهم مغزى المسموعات لا استكاك الآذان، بقرينة قوله: وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ .
و تقدم معنى الطبع عند قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ في سورة النساء [155].
[101، 102]
[سورة الأعراف (7): الآيات 101 الى 102]
لما تكرر ذكر القرى التي كذب أهلها رسل اللّه بالتعيين و بالتعميم، صارت للسامعين
التحرير و التنوير، ج8، ص: 217
كالحاضرة المشاهدة الصالحة لأن يشار إليها، فجاء اسم الإشارة لزيادة إحضارها في أذهان السامعين من قوم محمد صلى اللّه عليه و سلّم، ليعتبروا حالهم بحال أهل القرى، فيروا أنهم سواء فيفيئوا إلى الحق.
و جملة: تِلْكَ الْقُرى مستأنفة استئناف الفذلكة لما قبلها من القصص من قوله:
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الأعراف: 59] ثم قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نبيء [الأعراف: 94] الآية.
و الْقُرى يجوز أن يكون خبرا عن اسم الإشارة لأن استحضار القرى في الذهن بحيث صارت كالمشاهد للسامع، فكانت الإشارة إليها إشارة عبرة بحالها، و ذلك مفيد للمقصود من الإخبار عنها باسمها لمن لا يجهل الخبر كقوله تعالى: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [التوبة: 35] أي هذا الذي تشاهدونه تكوون به هو كنزكم، و هم قد علموا أنه كنزهم، و إنما أريد من الإخبار بأنه كنزهم إظهار خطإ فعلهم، و يجوز أن يكون القرى بيانا لاسم الإشارة.
و جملة: نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها إما حال من الْقُرى على الوجه الأول.
و فائدة هذه الحال الامتنان بذكر قصصها، و الاستدلال على نبوءة محمد صلى اللّه عليه و سلّم، إذ علمه اللّه من علم الأولين ما لم يسبق له علمه، و الوعد بالزيادة من ذلك، لما دل عليه قوله: نَقُصُ من التجدد و الاستمرار، و التعريض بالمعرضين عن الاتعاظ بأخبارها.
و إمّا خبر عن اسم الإشارة على الوجه الثاني في محمل قوله: الْقُرى .
و (من) تبعيضية لأن لها أنباء غير ما ذكر هنا مما ذكر بعضه في آيات أخرى و طوى ذكر بعضه لعدم الحاجة إليه في التبليغ.
و الأنباء: الأخبار، و قد تقدم في قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ في سورة الأنعام [34].
و المراد بالقرى و ضمير أنبائها: أهلها، كما دل عليه الضمير في قوله: رُسُلُهُمْ .
و جملة: وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ عطف على جملة: تِلْكَ الْقُرى لمناسبة ما في كلتا الجملتين من قصد التنظير بحال المكذبين بمحمد صلى اللّه عليه و سلّم.