کتابخانه تفاسیر
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج
الجزء الأول
بعض المعارف الضرورية المتعلقة بالقرآن
سورة البقرة
أدب الخطاب مع النبي صلى الله عليه و سلم و مصدر الاختصاص بالرسالة[سورة البقرة(2): الآيات 104 الى 105]
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
مشروعية القصاص و حكمته[سورة البقرة(2): الآيات 178 الى 179]
مسائل فقهية:
الوصية الواجبة[سورة البقرة(2): الآيات 180 الى 182]
مسائل فقهية:
قواعد القتال في سبيل الله[سورة البقرة(2): الآيات 190 الى 195]
أحكام الحج و العمرة[سورة البقرة(2): الآيات 196 الى 197]
المرحلة الثانية من مراحل تحريم الخمر و حرمة القمار[سورة البقرة(2): آية 219]
موت الأمم بالجبن و البخل و حياتها بالشجاعة و الإنفاق[سورة البقرة(2): الآيات 243 الى 245]
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
مستحقو الصدقات[سورة البقرة(2): الآيات 272 الى 274]
الربا و أضراره على الفرد و الجماعة[سورة البقرة(2): الآيات 275 الى 281]
سورة آل عمران
الجزء الرابع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء الخامس
تتمة سورة النساء
استحقاق الجنة ليس بالأماني و العبرة في الجزاء بالعمل شرا أو خيرا[سورة النساء(4): الآيات 123 الى 126]
رعاية اليتامى و الصلح بين الزوجين بسبب النشوز و العدل بين النساء[سورة النساء(4): الآيات 127 الى 130]
الجزء السادس
تتمة سورة النساء
سورة المائدة
الجزء السابع
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
رفض المشركين دعوة النبي صلى الله عليه و سلم و مطالبتهم بتنزيل آية[سورة الأنعام(6): الآيات 36 الى 37]
الجزء الثامن
تتمة سورة الانعام
المحرمات العشر أو الوصايا العشر[سورة الأنعام(6): الآيات 151 الى 153]
سورة الأعراف
الجزء التاسع
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء العاشر
تتمة سورة الأنفال
سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة التوبة
سورة يونس عليه السلام
قصة موسى عليه السلام مع فرعون
الجزء الثاني عشر
سورة هود عليه السلام
سورة يوسف عليه السلام
الفصل الثاني من قصة يوسف يوسف و إخوته
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة يوسف
سورة الرعد
أوصاف أولي الألباب السعداء و جزاؤهم[سورة الرعد(13): الآيات 20 الى 24]
سورة إبراهيم عليه السلام
تهديد الكفار لرسلهم بالطرد أو الردة و الوحي بأن العاقبة للأنبياء[سورة إبراهيم(14): الآيات 13 الى 18]
الجزء الرابع عشر
سورة الحجر
سورة النحل
الجزء الخامس عشر
سورة الإسراء
سورة الكهف
قصة أصحاب الكهف[سورة الكهف(18): الآيات 9 الى 26]
التفسير و البيان:
تفصيل القصة:
الجزء السادس عشر
تتمة سورة الكهف
سورة مريم
قصة مريم
الرد على عباد الأصنام بصيرورتهم لهم أعداء و اتخاذهم الشياطين أولياء[سورة مريم(19): الآيات 81 الى 87]
سورة طه
قصة موسى عليه السلام
الجزء السابع عشر
سورة الأنبياء
القصة الثانية - قصة إبراهيم عليه السلام
سورة الحج
الجزء الثامن عشر
سورة المؤمنون
سورة النور
الحكم الأول و الثاني حد الزنى و حكم الزناة[سورة النور(24): الآيات 2 الى 3]
الحكم الرابع حكم اللعان أو قذف الرجل زوجته[سورة النور(24): الآيات 6 الى 10]
فقه الحياة أو الأحكام:
الجزء التاسع عشر
سورة الفرقان
استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه و سلم و تسمية دعوته إضلالا[سورة الفرقان(25): الآيات 41 الى 44]
سورة الشعراء
القصة الأولى قصة موسى و هارون عليهما السلام مع فرعون و قومه
القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام
سورة النمل
القصة الثانية قصة داود و سليمان عليهما السلام
الجزء العشرون
تتمة سورة النمل
سورة القصص
قصة موسى عليه السلام
سورة العنكبوت
قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه
الجزء الحادي و العشرون
تتمة سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان
سورة السجدة
سورة الأحزاب
غزوة الأحزاب أو الخندق و بني قريظة[سورة الأحزاب(33): الآيات 9 الى 27]
الجزء الثاني و العشرون
تتمة سورة الأحزاب
سورة سبأ
سورة فاطر
بعض أدلة القدرة الإلهية و التذكير بنعم الله و إثبات التوحيد و الرسالة[سورة فاطر(35): الآيات 1 الى 4]
الجزء الثالث و العشرون
تتمة سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة الصافات
سورة غافر أو: المؤمن
قصة موسى عليه السلام مع فرعون و هامان
سورة فصلت أو: السجدة
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة فصلت
سورة الشورى
سورة الزخرف
سورة الدخان
سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد عليه الصلاة و السلام
أوصاف المنافقين و المؤمنين
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
الجزء السابع و العشرون
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
سورة القمر
إعادة قصص الأمم الخالية المكذبة للرسل
سورة الرحمن جل ذكره
أعظم النعم الإلهية الدنيوية و الأخروية
سورة الواقعة
سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة الممتحنة
سورة الصف
سورة الجمعة
سورة المنافقون
سورة التغابن
سورة الطلاق
الجزء التاسع و العشرون
سورة الملك، أو: تبارك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان، أو: الدهر
سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
سورة النبأ، أو: عم
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانفطار
سورة المطففين
سورة الانشقاق
سورة البروج
سورة الطارق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
سورة الليل
سورة العلق
سورة البينة
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج19، ص: 165
وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ عطف على الَّذِي المتقدم، و خبره محذوف.
و تقديره: و الذي هو يطعمني و يسقيني، فهو يهدين. و كذلك كل ما جاء بعدها من الَّذِي إلى قوله: وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي ... خبره: «فهو يهدين» مقدرا.
البلاغة:
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ بينهما طباق، و كذلك بين يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ .
وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أسند المرض لنفسه مراعاة للأدب تأدبا مع اللّه؛ لأن الشر لا ينسب إليه تعالى أدبا، و إن كان المرض و الشفاء كلاهما من اللّه، فلم يقل: أمرضني.
المفردات اللغوية:
وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ على مشركي العرب و منهم كفار مكة و أمثالهم. نَبَأَ خبر مهم.
ما تَعْبُدُونَ ؟ سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة. نَعْبُدُ أَصْناماً صرحوا بالفعل. فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي: ندوم مقيمين على عبادتها، و زادوا هذا الجواب على قولهم:
نَعْبُدُ تبجحا و افتخارا به، و إظهارا لما في نفوسهم من الابتهاج. إِذْ تَدْعُونَ حين تدعون.
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ حين تعبدونهم. أَوْ يَضُرُّونَ أي يضرونكم إن لم تعبدوهم. و مجيئه مضارعا مع إِذْ على حكاية الحال الماضية استحضارا لها. كَذلِكَ يَفْعَلُونَ مثل فعلنا، لم يجدوا جوابا إلا التمسك بالتقليد. وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ التقدم لا يدل على الصحة، و لا ينقلب به الباطل حقا.
عَدُوٌّ لِي لا أعبدهم، و المراد أنهم أعداء لعابديهم؛ لأنهم يتضررون من جهتهم، لكنه صوّر الأمر في نفسه تعريضا لهم، فإنه أنفع في النصح من التصريح، و إشعارا بأنها نصيحة بدأ بها نفسه، ليكون أدعى إلى القبول. و إفراد لفظ العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب أي عدوي، أجراه على النسب. إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ لكن ربّ العالمين فإني أعبده، استثناء منقطع.
فَهُوَ يَهْدِينِ إلى الدين؛ لأنه يهدي كل مخلوق لما خلق له من أمور المعاش و المعاد، هداية مطردة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله، يتمكن بها من جلب المنافع و دفع المضارّ، كما قال تعالى: وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى 87/ 3] و تبدأ الهداية في الإنسان من وقت هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم، و تنتهي إلى طريق الجنة و التنعم بلذائذها. أَطْمَعُ أرجو. يَوْمَ الدِّينِ الجزاء.
المناسبة:
بعد أن ذكر اللّه تعالى في أول السورة شدة حزن محمد صلّى اللّه عليه و سلم بسبب كفر
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج19، ص: 166
قومه، ذكر قصة موسى عليه السلام ليعرف محمد أن مثل تلك المحنة حصلت لموسى فيكون ذلك تسلية له، ثم ذكر عقبها قصة إبراهيم عليه السلام ليعرف محمد أيضا أن حزن إبراهيم كان أشد من حزنه؛ لأنه يرى أباه و قومه في النار، و هو لا يتمكن من إنقاذهم، و كل ذلك إشارة إلى أن معارضة الرسل من أقوامهم أمر قديم و مستمر، فلا داعي للغم و الحزن.
التفسير و البيان:
هذا هو الفصل الأول من قصة إبراهيم إمام الحنفاء عليه السلام مع قومه، موضوعه الإنكار على قومه عبادة الأصنام مع اللّه عزّ و جلّ، و تبيان صفات الربّ الذي يجب أن يعبد، فقال تعالى:
وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ أي و اتل يا محمد على أمتك خبر إبراهيم عليه السلام، ليقتدوا به في الإخلاص و التوكل على اللّه، و عبادته وحده لا شريك له، و التبري من الشرك و أهله، فإن اللّه تعالى آتى إبراهيم رشده من صغره إلى كبره، و لما شبّ أنكر على قومه عبادة الأصنام، و قال لأبيه و قومه: ما الذي تعبدونه؟ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ ليلفت نظرهم إلى أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع و لا عقل.
فأجابوه مقرين بعبادة الأصنام، و مظهرين لما في نفوسهم من الابتهاج و الافتخار بها: قالُوا: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي قال قوم إبراهيم:
نعبد هذه الأصنام، و ندوم مقيمين على عبادتها في الليل و النهار.
فناقشهم في جدوى تلك العبادة متعجبا من فعلهم:
قالَ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ؟ أي قال إبراهيم: هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم، و هل يجلبون لكم نفعا أو يدفعون
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج19، ص: 167
عنكم ضررا؟ إذ ما الفائدة من عبادة لا هدف لها؟ فهل تفكرون قليلا، و تتأملون كثيرا فيما تفعلون؟ و كيف تستجيزون أن تعبدوا ما هذا وصفه؟
قالُوا: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ لم يجدوا جوابا مقنعا يرد حجة إبراهيم إلا التمسك بالتقليد الأعمى للآباء و الأجداد، و ليس لهم حجة مقبولة لتسويغ عبادتها و تقديسها. و هذا من أقوى الأدلة على فساد التقليد في العقائد و وجوب الاعتماد على الاستدلال العقلي المقنع؛ لأن اللّه أورد ذلك ذما لطريقة الكفار و إنكارا لمنهجهم.
فتقوّى إبراهيم في تقريعهم و توبيخهم و تحديهم، فسألهم:
أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ أخبروني عن حال ما تعبدونه، أنتم و آباؤكم و أجدادكم الغابرون من قديم الزمان إلى الآن، هل حققت هذه العبادة شيئا، و هل استحقت تلك الأصنام الجمادات التي لا تسمع و لا تنطق عبادة العابدين؟ فإن كان لهذه الأصنام تأثير، فلتجلب إليّ الإساءة و الأذى، فإني عدو لها لا أعبدها، و لا أبالي بها، و لا أفكر فيها. و هذا استهزاء منه بعبدة الأصنام، و تحد صارخ لصحة ما يعبدون.
لكن ربّ العالمين الذي خلقني و رزقني، و هو وليي في الدنيا و الآخرة هو الذي أعبده و أنحني إجلالا لعظمته و عزته، فعبادتي للأصنام عبادة للعدو، لذا اجتنبتها، و آثرت عبادة من بيده الخير كله. و هذا نصيحة لنفسه، فيكون ذلك أدعى لهم إلى القبول، و أبعث على الاستماع منه.
و هذا نظير قول نوح عليه السلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ [يونس 10/ 71] و قول هود عليه السلام: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج19، ص: 168
إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود 11/ 54- 56].
ثم أكد إبراهيم أنه لا يعبد إلا المتصف بهذه الأوصاف الخمسة و هي:
1- الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي هو الخالق المبدع الموجد الذي خلقني و غيري من المخلوقات، و هو الذي يهديني دائما لما فيه الخير في الدنيا و الآخرة، كما قال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى 87/ 2- 3] أي الخالق الذي قدر قدرا، و سوى المخلوق في أحسن تقويم، و هدى الخلائق إليه، فكلّ يجري على ما قدر له، فبالخلق و الهداية يحصل جميع المنافع لكل منتفع.
2- وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ أي هو خالقي و رازقي بما يسّر من الأسباب السماوية و الأرضية، فأنزل الماء، و أحيى به الأرض، و أخرج به من الثمرات المختلفة رزقا للعباد، و أوجد الأنعام و غيرها، فوفر للإنسان الطعام و الشراب و غيرهما من كل ما يتصل بالرزق.
3- وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أي و إذا طرأ علي مرض، فهو تعالى الذي ينعم علي بالشفاء منه. و يلاحظ أنه نسب المرض إلى نفسه و لم يقل:
أمرضني، تأدبا مع اللّه، و إن كان المرض و الشفاء من اللّه عزّ و جلّ جميعا؛ و كلاهما يحدث بقدر اللّه و قضائه، كما قال تعالى آمرا المصلي أن يقول: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 1/ 6] ثم قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ..
[الفاتحة 1/ 7] أسند الإنعام و الهداية إلى اللّه تعالى، و حذف فاعل الغضب أدبا و أسند الضلال إلى البشر، و كما قال فتى موسى: وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ [الكهف 18/ 63]، و كما قالت الجن: وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن 72/ 10]. و هنا أضاف إبراهيم المرض إليه، أي إذا وقعت في مرض، فإنه لا يقدر على شفائي أحد غير اللّه بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه.
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج19، ص: 169
4- وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ أي و هو الذي يحيي و يميت، لا يقدر على ذلك أحد سواه، فإنه هو الذي يبدئ و يعيد، و المراد منه الإماتة في الدنيا، و الإعادة و البعث في الآخرة، بدليل عطفه ب ثُمَ .
5- وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أي و هو الذي أرجو أن يستر ذنبي يوم القيامة، فإنه لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا و الآخرة إلا هو، كما قال: وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ؟ [آل عمران 3/ 135]. و إنما قال أَطْمَعُ مع أنه صلّى اللّه عليه و سلم كان قاطعا بذلك؛ لأنه لا يجب على اللّه لأحد شيء، فاستعمال الرجاء و الظن للدلالة على أن الثواب و رفع العذاب فضل من اللّه و نعمة.
و أسند إلى نفسه الخطيئة، مع أن الأنبياء منزهون عن الخطايا قطعا، مريدا بذلك تسمية ما صدر عنه من عمل هو خلاف الأولى خطيئة، استعظاما له. و علّق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، و إنما تغفر في الدنيا؛ لأن أثرها يظهر يوم الدين.
و قال: لِي في قوله: أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي لبيان أن غفرانه لي و لأجلي، لا لأجل أمر عائد إليه البتة. و الخلاصة: أن هذا من إبراهيم عليه السلام إظهار للعبودية، و إن كان يعلم أنه مغفور له.
جاء في صحيح مسلم عن عائشة: «قلت: يا رسول اللّه، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، و يطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين».
و يوم الدين: هو يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم.
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج19، ص: 170
فقه الحياة أو الأحكام:
إن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام هنا كان لتنبيه المشركين على فرط جهلهم إذا رغبوا عن اعتقاد إبراهيم و دينه، و هو أبوهم، و ليسرّى «1» عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم مما وقع فيه من همّ و غم و حزن لإعراض قومه عن الإيمان برسالته.
و تتضمن القصة نقاشا حادا بين سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام و بين أبيه و قومه في فائدة عبادة الأصنام، حرصا على عدم إضاعة جهودهم سدى، فإن العبادة تكون عادة لفائدة، و يدرك كل عاقل أن هذه الأصنام الجمادات لا تأتي بخير أو رزق، و لا تملك لأحد خيرا، كما لا تدفع عنه ضرا إن عصيت، فإذا لم ينفعوكم أيها الوثنيون و لم يضروا، فما معنى عبادتكم لها؟
و لما وجدوا هذه الحجة مقنعة و قاطعة في الإفهام و إثبات المراد، لجؤوا إلى التمسك بالتقليد للآباء و الأجداد من غير حجة و لا دليل. و في هذا دلالة كافية على ذم التقليد و فساده في شأن العقائد، و أنه لا بد في تكوينه و إثباته من الاعتماد على الدليل المقنع المنطقي.
فأكد إبراهيم الخليل قوله السابق، و أفهم هؤلاء القوم الجهلة بأن عبادة هذه الأصنام ضرر محض لعابديها، و أنه لا تنبغي العبادة إلا للّه ربّ العالمين من الإنس و الجن و الملائكة، فمن عبده انتفع و دفع الضرر عن نفسه في الدنيا و الآخرة، و من أنعم وجب أن يطاع و لا يعصى.
ثم إن صفات هذا المعبود بحق تستوجب عبادته و التقرب إليه، فهو الخالق الهادي المرشد إلى الدين الحق، و هو الذي يرزق الطعام و الشراب و غيرهما من المنافع، لا غيره، و هو الشافي المعافي، و هو المميت و المحيي، أي الموجد من العدم،
(1) سرّي عنه، و انسرى عنه الهم: انكشف.
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج19، ص: 171
ثم المفني، ثم الباعث البعث، و هو غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب، الفعال لما يشاء.
- 2- دعاء إبراهيم عليه السلام دعاء المخلصين الأوّابين [سورة الشعراء (26): الآيات 83 الى 89]
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
البلاغة:
وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ استعارة، استعار اللسان للذكر الجميل و الثناء الحسن.
المفردات اللغوية:
حُكْماً فهما و علما بالخير و عملا به وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح و هم الأنبياء، و المراد: وفقني للأعمال التي تجعلني في زمرة الصالحين البعيدين عن صغائر الذنوب و كبائرها. لِسانَ صِدْقٍ ثناء حسنا و صيتا طيبا في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين، بتوفيقي للعمل الصالح، حتى يقتدي بي الناس. فِي الْآخِرِينَ الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة.