کتابخانه تفاسیر
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج15، ص: 563
والايمان!
إن الرسول محمد صلى الله عليه و آله كان بهذا المعنى من أذنب الخلق، ذنب العصيان عن ميول الطغاة بما جاء في دعوته الباهظة لأهوائهم، الجاهزة لاجتثات جذورهم، الدافعة عن حوزة الإسلام، التي ارغمتهم وحطلتهم عن جبروتهم وطاغوتهم.
وما استعمال الذنب كثيراً في موارد العصيان «1» بالذي يحوله دوماً إلى العصيان، كما الانسان لو استعمل كثيراً في الأشرار، لا يحُول ذلك دون استعمالة في الأخيار، وانما يتبيع القرائن في مواردها، فيُعطى الحق في معاني هذه الألفاظ كما تعنى.
«.. ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ» فما كانوا يكمنون له من قبل ومن بعد صار مبتوراً بالفتح، وما أصابوه من قبل أو أرادوه من بعد صار مجبوراً بالفتح، فأصبح الفتح له مفتاحاً محبوراً لكل فتح.
ورغم ما فسر به الجاهلون ذنبَ الرسول صلى الله عليه و آله أخذ بعد الفتح في تعبده لربه أكثر مما مضى، فلو كان هو ذنب العصيان لعكس أمر الطاعة وتساهل عنها إذ غفر له ما تأخر كما تقدم، لكنه كان يجيب السائلين: «ا فلا أكون عبداً شكوراً»؟ تفسيراً لذنبه خلاف ما فسروه واستغلوه، وتبكيتاً لمن يستغل سوء التفسير ذريعة للإباحية واللامبالات، كلا فإنه صلى الله عليه و آله استفاض بعد ذلك من معين الرحمة أمعن مما مضى وأمتن، إذ «صام وصلى حتى انتفخت قدماه وتعبد حتى صار كالشن البالي فقيل له أتفعل هذا بنفسك وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ا فلا أكون عبداً شكوراً» «2» وليست
(1)). الحق أن تفسر لغات القرآن كما كانت تُعنى منها وقت النزول، حيث اللغات قد تجر معهامعاني اخرى على طول الزمن وتختلف الاستعمالات، وقد ذكر الذنب في القرآن بمختلف الصيغ 37 مرة والذنب مرتين وهذا هو اصل الذنب كما عن الراغب في غريب القرآن، والاول قد يعنى منه الطاعة او المعصية وقد تعمهما، وكل حسب القرائن الدالة، وما المستعمل في العصيان هنا اكثر من غيره مهما كانت الاكثرية الساحقة تعنى العصيان في غير القرآن
(2)). الدر المنثور 6: 71 اخرج ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر عن أبيهريرة ان النبي صلى الله عليه و آله لما نزلت «إِنَّا فَتَحْنا ..» صام و ..
ومن طريق اهل البيت عن الإمام الرضا عليه السلام في جوابه للمأمون إذ سأله: يابن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله! أليس من قولك ان الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فقال: فما معنى قول اللَّه الى ان قال فأخبرني عن قول اللَّه تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ» ؟ قال الرضا: عليه السلام لم يكن احد عند مشركي مكة أعظم ذنباً من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأنهم كانوا يعبدون من دون اللَّه ثلاثمائة وستيت صنماً فلما جاءهم بالدعوة الى كلمة الاخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا اجعل الإلهة إلهاً واحداً ... فلما فتح اللَّه على نبيه مكة قال له محمد! «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ» عند مشركي أهل مكة بدعاءك توحيد اللَّه فيما تقدم وما تأخر، لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ومن بقي منهم لم يقدر على انكار التوحيد اذا دعى الناس اله، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم فقال المؤمون: للَّهدرك يا أبا الحسن عليه السلام!
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج15، ص: 564
شاكرية العبد في عبادته بالتي تجعله كالشن البالي ومتورم القدمين، لو كان غفر ما تأخر من ذنبه، عفواً عن مطلق عصيانه، كضمان له فينا يأتي كما ضمن ما مضى، إلا عند من غرب عقله وعزب لبّه! .. وإنما زاد في شكره لربه لنعمة الفتح المبين.
وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وهذه هي الدعامة الثانية لعرش الدولة الإسلامية: «إتمام النعمة» فإن النعمة ابتداأت بالإسلام منذ بزوغه، ولكنها كانت سجالًا: خليطة بالغُمة للأمة والنقمة لرسول الأمة، إذ كانت الغوائل من هنا وهناك تترى عليه وعليهم تباعاً تلو بعض، وإن كانت في المدينة أقل.
إنه كان نعمة التأليف والواحدة فأكملت بفتح مكة الذي وحد الجزيرة عن آخرهم ثم إلى غيرها: «وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» . «1»
وكان نعمة الغلبة أحياناً وسجالًا فأصبحت الآن تامة لا تفسح لأحد كجالًا في حربهم: «اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» «2» وأما الآن فلا ايدي معادية تبسط او تهم، إذ قطعت بفتح مكة، ومن قبل كانت تهم وتبسط، وان كانت تكف بجنود آلهية غير مرئية أم ماذا: «اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ
(1). سورة آل عمران 3: 103
(2)). سورة المآئدة 5: 11
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج15، ص: 565
وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» «1» كما كان يوم الأحزاب.
وأخيراً اكمال أحكامياً، وتخليداً للدولة الإسلامية بتأييد زعامة سليمة تقطع طموح من كانوا يتحينون فرصة الانقلاب بموت الرسول، تخليدها بذلك الإنتصاب الكبير يوم الغدير، راجعاً عن حجة الوداع: «.. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ...» «2» اكمالا في جانبي الشريعة وزعامتها الخالدة، فيأساً للذين كفروا من إفنائها أو اغتصاب واحتلال زعامتها، اللهم إلا تدخلا جانبياً لا يجتَثها من جذورها، إلا أن يخرجوا عن الدين، ولكنه مدعهم بهاتين الدعامتين مهما تركته حملته، فبناية الدعوة مدعمة بما يضمن بقاءها كما فعل اللَّه، ولكنها لا تضمن إلا لمن تضمنها كما أراد اللَّه، ثم تتهدم في نفوس صغار لا يتضمنونها، وهي باقية في كتاب الدعوة، في ضمير الكون وعمقه! مجالًا واسعاً لمن يتحملون ويتضمنون: تطبيقاً لها بزعامتها السلمية كما بدأت بالبشير النذير، وكما تخلدت يوم الغدير.
وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً كدعامة ثالثة لعرش الرسالة، وترى أن صاحب الرسالة لم يكن على صراط مستقيم منذ الدعوة إلى ثامنة الهجرة التي فيها فتحت مكة، ومن ثم اهتدى إلى صراط مستقيم؟!، وهو أول معتصم باللَّه «وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «3» وهو أفضل مهدي إلى صراط مستقيم طول الرسالة: «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ..» «4» بل وهو على صراط مستقيم محيطاً عليه لزاماً به: «وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «5»
(1). سورة الأحزاب 33: 10
(2)). سورة المآئدة 5: 3
(3)). سورة آل عمران 3: 101
(4)). سورة الأنعام 6: 161
(5)). سورة يس 36: 4
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج15، ص: 566
كيف لا «إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . «1»
في الحق إن الصراط المستقيم له درجات وجنبات، فأولى الدجات هداية الدلالة له وقد هدي صاحب هذه الرسالة منذ البدء، وقبل الرسالة كان مهدياً إليه خاصاً لنفسه حتى تهيأ للعالمين، ثم الهداية الثانية هي الإستمرار عليه مستزيداً فيه بعصمة إلهية، بعد محاولات بشرية ورسولية، وهو دوماً دون انقطاع بحاجة ماسة إلى هذه العصمة،:
«وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» «2» وهذه الدرجة هي التي يطلبها هو والمؤمنون على درجته ودرجاتهم في صلواتهم ليل نهار: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» ثبتنا وأدم لنا توفيقك، فلو شاء اللَّه لذهب بالذي أوحى إليه فإنه ليس لزاماً للرب إلا بما كتب على نفسه الرحمة: «وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» . «3»
هذا ولكنما الدرجة هذه لا تختص بما بعد الفتح، فإنه مهدي بها على طول الخط، فإنما الإختلاف قبل الفتح في الجنبات لا الدرجات: صراطاً مستقيماً للداعية في الدعوة، حيث أزيلت الشبكات والأشواك والعقبات عن ريقها بفتح مكة، وصراطاً مستقيماً لتقبل الدعوة الإسلامية، حيث الفتح سبيلًا واسعاً لمن كانوا في شك من صاحب الدعوة، وصراطاً مستقيماً في تكميل الدين وإتمام النعمة وكما حصل بفتح مكة، وصراطاً مستقيماً في العبادة وتطبيق الشريعة إذ زالت عنهم التقية، وانقلبت على المشركين، إذ أسلم كثير منهم، مهما نافق آخرون عائشين تحت الرقابة الإسلامية ورايتها ورعايتها.
وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً كدعامة رابعة لهذه الدولة السامية، نصراً في كافة الميادين، وإلا فإنه والنبيون معه منصورون: «وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ
(1). سورة الشورى 42: 52
(2)). سورة الأسراء 17: 74
(3). سورة الأسرى 17: 87
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج15، ص: 567
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» «1» لا هم فحسب، بل والمؤمنون أيضاً، ولا في الآخرة فحسب بل في الأولى أيضاً: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» «2»
هذا ولكنما النصر الموعود عزيز، مهما كان سواه له ولسواه سجالًا قبل الفتح: قد يَغلبون وقد يُغلبون هنا في الأولى، مهما كانوا غالبين معنى وفي الآخرة، فكل نصر لكل منصور قبل الفتح المبين كان عضالًا وسجالًا فيه مجال قل أو كثر لأطراف النضال، وأما بعد الفتح فنصر عزيز يتغلب كافةَ الحركاتِ المضادة في الجزيرة وحولها زمن الرسول، والزمن التي كانت الدولة الإسلامية أو تكون ناحية منحى الرسول، اللهم إلا في فيما شذت عنه فتشذ عن النصر العزيز ولحد قد يتغلب العدو الكافر المستعمر فلا نصر فضلًا عن العزيز ف (إن تنصروا اللَّه ينصركم ويثبت أقدامكم).
(1) سورة الصافات 37: 172