کتابخانه تفاسیر
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 55
المرتضوي: رب العالمين و هم الجماعات من كل مخلوق من الجمادات و الحيوانات.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كرر اشعارا بشدة اعتنائه سبحانه بالرّحمة، و تثبتا للرجاء بان مالك يوم الجزاء، هو البالغ في الرحمة غايتها، فلا يقنط من عفوه المذنبون.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قراءة عاصم و الكسائي، و يؤيده يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، و الأمر يومئذ للّه. و قرأ الباقون ملك و به قرأ الصادق (ع) ما لا يحصى، كما قرأ بالأول. و يؤيده لمن الملك اليوم، للّه الواحد القهار، و أنه أدخل في التعظيم و انسب بالإضافة إلى يوم الدين، كملك العصر، و بوصفه تعالى بالملكية بعد الربوبية في خاتمة الكتاب، ليوافق الافتتاح الاختتام، و المالك من له التصرف فيما في حوزته، و الملك من له التصرف في الأمور بالأمر و النهي بالغلبة.
و الدين الجزاء، و عن الباقر و الصادق (عليهما السّلام) الحساب، و عن الرضا (ع) مالك يوم الدين، إقرارا له بالبعث و المجازاة و إيجاب ملك الآخرة له، كإيجاب ملك الدنيا. و عن السّجاد (ع) انه إذا قرأ مالك يوم الدين، يكرّرها حتى يكاد ان يموت. و في اختياره «1» على سائر الأسامي، رعاية للفاصلة، و افادة للعموم، فان الجزاء يتناول جميع احوال القيامة إلى السرمد، و اضافة اسم الفاعل إلى الظرف لاجرائه مجرى المفعول به توسعا، و سوّغ وصف المعرفة به قصد معنى المضيّ، تنزيلا لمحقق الوقوع منزلة ما وقع أو قصد به الاستمرار الثبوتي، و المعنى ملك الأمر كلّه في ذلك اليوم، أو له الملك «بكسر الميم» فيه فاضافته حقيقية، و كذا اضافة ملك إذ لا مفعول للصفة المشبهة، و تخصيص اليوم بالإضافة، مع أنه تعالى مالك و ملك لجميع الأشياء في كل الأوقات، لتعظيم ذلك اليوم أو لتفرده تعالى بالملك فيه، كما في لمن الملك اليوم.
(1) اي في اختيار كلمة (الدين) على سائر الأسامي كالقيامة و أمثالها لهذه الأسباب.
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 56
قيل: و في التعبير باسم الذات الدال على استجماع الكمالات و تعقيب بتلك الصفات المنفيّة عما سواه تعالى، دلالة على انحصار استحقاق الحمد فيه، و قصر العبادة و الاستعانة عليه تعالى، و إرشاد إلى المبدأ و المعاد، و تنبيه على أن من يحمده الناس، إما أن يحمدوه لكماله الذاتي، او لانعامه عليهم، أو لرجائهم إحسانه في المستقبل، او لخوفهم من كمال قهره، فكأنه تعالى يقول: يا ايّها الناس ان كنتم تحمدون للكمال الذاتي، فانا اللّه، أو للانعام و التربية، فانا رب العالمين، او للرجاء في المستقبل فانا الرّحمن الرحيم، أو للخوف من كمال القهر فانه مالك يوم الدين.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ايّا ضمير منصوب منفصل، و لواحقه من الكاف و الياء و الهاء، حروف لبيان الخطاب و التكلم و الغيبة، لا محل لها من الاعراب، ككاف ذلك على أصحّ الأقوال.
و قيل: انه مضمر مضاف إلى ما بعده. و ردّ بان الضمير لا يضاف.
و قيل ان إياك بكماله ضمير.
و العبادة أعلى مراتب الخضوع و التذلل، و لذا لا يستحقها إلا المولي لأعظم النعم، من الوجود و الحياة و توابعها.
و الاستعانة طلب المعونة في الفعل، و لعلّ المراد بها هنا طلب المعونة في كل المهمّات، و لذا حذف المستعان فيه أو في أداء العبادة بوظائفها، و لعل استعماله بلا واسطة الحرف، اشارة إلى ان العبد، ينبغي ان لا يرى بينه و بين الحق واسطة في الاستعانة، بان يقصر نظره عليه، أو يرى الوسائط منه.
و تقديم المفعول، لقصر العبادة و الاستعانة عليه تعالى، قصرا حقيقيا أو اضافيا افراديا، و لتقدمه تعالى في الوجود، و للتنبيه على ان العابد، و المستعين، ينبغي ان يكون نظرهما بالذات، إلى الحق سبحانه، ثم منه إلى أنفسهم، لا من حيث ذواتها، بل من حيث أنها ملاحظة له تعالى، ثم إلى عبادتهم و نحوها، لا من حيث صدورها عنهم بل من حيث أنها
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 57
و صلة بينهم و بينه تعالى.
و لعل تكرار الضمير، للتنصيص على التخصيص بالاستعانة، فينتفي توهم التخصيص بالأمرين و تقدير مفعول الاستعانة مؤخرا، و لبسط الكلام مع المحبوب، كآية هي عصاي. و لعل تقديم العبادة على الاستعانة، لتوافق الفواصل، و لكون تقديم الوسيلة، على طلب الحاجة ادعى إلى الاجابة، و لمناسبة تقديم مطلوبه تعالى من العباد، على مطلوبهم منه، و لان المتكلم لمّا نسب العبادة إلى نفسه كان كالمتعبد بما يصدر منه، فاستدراك ذلك، بان العبادة لا تتم إلا بمعونته، و لعلّ «1» إيثار صيغة المتكلم وحده، لملاحظة القارئ دخول الحفظة، او حاضري صلاة الجماعة، او كل موجود، و ان من شيء إلا يسبّح بحمده، او لان كل جارحة و عضو منه، تشتغل بذلك، أو لادخال عبادته و استعانته في عبادة الغير، إيذانا بحقارتها بانفرادها، و جعلها مع الغير كبيع الصفقة، إما أن يقبل الجميع، او يردّ الجميع، و هو تعالى أكرم من أن يرد الجميع، إذ لا بد من وجود عبادة مقبولة فيهم، كامام الزمان فيقبل الجميع، و للاحتراز عن الكذب، لو انفرد في ادّعائه قصر خضوعه التام، او استعانته عليه تعالى، و في الجمع يمكن ان يقصد تغليب الخلص على غيرهم فيصدق.
و لعل النكتة في الالتفات، من الغيبة إلى الخطاب، مضافا إلى التفنن في الكلام، و التطرية و تنشيط السامع، أنّ الأوصاف المذكورة أوجبت التميز و الانكشاف بحيث صار حاضرا مخاطبا، او ان القراءة، انما يعتدّ بها إذا صدرت عن قلب حاضر مقبل على المنعم، و لم يزل في ازدياد حتى أوجب الحضور، أو أن الحمد، اظهار مزايا المحمود، فالمخاطب به غيره تعالى، فالمناسب له طريق الغيبة، و العبادة و نحوها ينبغي كتمانها عن غير المعبود، للقرب إلى الإخلاص، و البعد عن الرياء، فناسبه طريق
(1) كذا في الأصل و لعلّ الأصح و لعلّ عدم إيثار آلخ.
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 58
الخطاب. او التلويح إلى قوله (ع) اعبد اللّه كأنك تراه، فان لم تكن تراه فانه يراك.
و عن الصادق (ع) لقد تجلّى اللّه لعباده في كلامه، و لكن لا يبصرون. و عنه (ع) أنه خرّ مغشيّا عليه، و هو في الصلاة، فسئل عن ذلك، فقال: ما زلت أردّدها، حتى سمعتها من المتكلم.
و في النبوي: إياك نعبد، اخلاص للعبادة، و إياك نستعين، أفضل ما طلب به العباد حوائجهم. و قال الرضا (ع) إياك نعبد رغبة و تقرّب إلى اللّه، و اخلاص له بالعمل، دون غيره، و إياك نستعين استزادة من توفيقه و عبادته، و استدامة لما أنعم اللّه عليه و نصره.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فصل عمّا قبله لكمال الانقطاع، لتخالفهما خبرا و إنشاء. أو لكمال الاتصال، لأنه بيان للاعانة المطلوبة، كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا.
و الهداية: الدلالة بلطف، و ان لم توصل إلى المطلوب.
و قيل: الموصلة، و يدفعه، فهديناهم فاستحبوا العمى. و قيل: اراءة ما يوصل، و يدفعه، انك لا تهدي من أحببت. و قيل: ان تعدت إلى ثاني مفعوليها بنفسها، فالموصلة، و لا تسند إلا إليه تعالى، أو بالحرف، فالاراءة، و تسند إلى النبي (ص) و القرآن، و يدفعه، و هديناه النجدين، و الاسناد إلى غيره تعالى في فاتبعني أهدك صراطا سويا. و الحق استعمالها في الجميع.
قيل: و هداية اللّه تعالى تتنوع أنواعا لا يحصيها عدّ، لكنها تنحصر في أجناس مترتبة.
الأول: افاضة القوى و الحواس، لجلب النفع و دفع الضرر، اعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 59
الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق و الباطل، و هديناه النجدين.
الثالث: إرسال الرسل، و إنزال الكتب، و اما ثمود فهديناهم.
الرابع: ازالة الغواشي البدنية، و إراءة الأشياء كما هي بالوحي و الإلهام، او المنام الصادق، و الاستغراق في ملاحظة جماله و جلاله، و هذا يختص به الأنبياء، و الأولياء و نحوهم، أولئك الذين هدى اللّه، فبهداهم اقتده.
فغير الواصل، يطلب المرتبة الاخيرة، و الواصل يطلب الزيادة و الثبات، و الذين اهتدوا زادهم هدى.
و في المرتضوي: اهدنا ثبتنا، و الصراط الجادّة، من سرط الطعام اي ابتلعه، فكأنه يسترط السابلة «1» و هم يسترطونه، و جمعه سرط ككتب، و يذكّر و يؤنث كالسبيل، و أصله السين قلبت صادا لتطابق الطاء في الاطباق.
و قرأ ابن كثير بالأصل، و حمزة بالإشمام، و الباقون بالصاد، و هي لغة قريش. و الصراط المستقيم، صراط الأنبياء و هم الذين أنعم اللّه عليهم.
و روي انه كتاب اللّه، و في الصادقي: انه امير المؤمنين و معرفته، و فيه: و اللّه نحن الصراط المستقيم، و في آخر: هو الطريق إلى معرفة اللّه، و هما صراطان، صراط في الدنيا، و صراط في الآخرة، فاما الصراط في الدنيا، فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في
(1) السابلة: الذين يسيرون في الطريق.
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 60
الدنيا، و اقتدى به، مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا، زلت قدمه عن الصراط في الآخرة، فتردّى في نار جهنم.
و عنه (ع) في وصفه ألف سنة صعود، و ألف سنة هبوط، و ألف سنة حدال «1» .
و سئل (ع) عن الصراط، فقال: هو أدّق من الشعر، و أحدّ من السيف، فمنهم من يمرّ عليه مثل البرق، و منهم من يمرّ عليه مثل عدو الفرس، و منهم من يمر عليه ماشيا، و منهم من يمر عليه حبوا، و منهم من يمرّ عليه متعلقا، فتأخذ النار منه شيئا، و تترك منه شيئا.
و عنه (ع) في الآية أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، و المبلغ دينك، و المانع من ان نتبع هوانا فنعطب، أو نأخذ بآرائنا فنهلك.
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ اشارة إلى قوله تعالى: أولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين كما عن علي و العسكري (ع).
و قيل المراد بهم المسلمون، فإنّ نعمة الإسلام اصل كل النعم، و قيل الأنبياء و هو بدل كل مما قبله.
و عن الصادق (ع) صراط الذين أنعمت عليهم يعني محمدا و ذريّتة، و الانعام إيصال النعمة، و هي في الأصل مصدر بمعنى الحالة المستلذة، ثم أطلقت على نفس الشيء المستلذ تسمية للسبب باسم المسبب.
قيل: و نعمه سبحانه على كثرتها، و تعذّر حصرها، و ان تعدوا نعمة
(1) حدال بكسر الحاء كما في هامش تفسير البرهان ص 47. و في لسان العرب أحدل قيل هو المائل العنق من خلقة أو وجع لا يملك ان يقيمه. حرف اللام مادة حدل.
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 61
اللّه لا تحصوها، ثمانية انواع، اما دنيوي موهبي روحاني، كافاضة العقل. او جسماني كخلق الأعضاء.
اما دنيوي كسبي روحاني، كتحلية النفس بالأخلاق الزكية، او جسماني كتزيين البدن بالهيئات المطبوعة.
و اما اخروي موهبي روحاني، كغفران ذنب من لم يتب، او جسماني كأنهار العسل.
و اما اخروي كسبي روحاني، كغفران ذنب التائب، او جسماني كاللذات الجسمانية المستجلبة بالطاعات. و المراد هنا الاربعة الاخيرة، و ما يكون وصلة إليها من الاربعة الأول لاشتراك المؤمن و الكافر فيما عدا ذلك.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ . و الغضب ثوران النفس، لإرادة الانتقام، و اسناده إليه تعالى باعتبار الغاية كما مرّ في الرّحمة، و لعلّ العدول عن اسناده إليه صيغة المجهول بخلاف أنعمت و نحوه، لتأسيس مباني الرّحمة، فكأن الغضب و العذاب لم يصدر منه تعالى، و انما هو العمل السيء تجسّم، إنما هي أعمالكم، بخلاف الرّحمة، و الانعام، فإنها تفضّل منه تعالى لا يستوجبها العبد بفعله كما قال (ع) لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، و مثله في التصريح بالوعد و التعريض بالوعيد قوله: لئن شكرتم لأزيدنكم، و لئن كفرتم ان عذابي لشديد. و لم يقل لأعذبنكم.
و الضلال العدول عن الطريق النّبوي و لو خطأ، و شعبه كثيرة، بشهادة قوله (ص) ستفترق امّتي ثلاثا و سبعين فرقة، فرقة ناجية، و الباقون في النار.