کتابخانه تفاسیر
ارشاد الاذهان الى تفسير القرآن، ص: 5
سورة الفاتحة مكية، و عدد آياتها 7 آيات
أ- فضلها: لا يخفى أن أفضل سور القرآن سورة الحمد. لأنّ اللَّه تعالى قد جعلها جزءا من الصّلاة التي هي عماد الدين، بحيث لا يسدّ مسدّها شيء من سور القرآن قصارها و طوالها. ب- نزولها: هي مكّية: 1- فاتحة الكتاب: لأنّها مفتتحه أو مفتاحه. 2- و أمّ الكتاب: لاشتمالها على مجمل معانيه. و قد كان العرب يسمّون الجلدة الجامعة للدماغ بمختلف حواسه: أم الرأس. و بيان ذلك:
أنّها مشتملة على معاني القرآن أصوله و أركانه بصورة اللّف، من الثّناء على اللَّه بما هو أهله، و من التعبّد بالأمر و النّهي، و الوعد و الوعيد. 3- الحمد: و هو من أسمائها لذكره في ابتدائها (1). 4- السبع المثاني: إمّا لكونها سبع آيات اتّفاقا في جملتها. أو لأنّها تثنّى في الفريضة. 5- لها أسماء أخر، كالشافية، و الكنز، و الوافية. ج- التفسير: 1- بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : هي آية من كلّ سورة إجماعا عندنا عدا براءة بالإجماع عندنا و عند غيرنا. و الباء للاستعانة، و يترجّح ذلك بأنّ الإنسان في جميع أموره يطلب الإعانة منه سبحانه. أو للمصاحبة، و الحجة فيه التبرّك باسمه تعالى، و الحقّ أنّ التبرّك يحصل بكلّ من الاستعانة و المصاحبة، و لا فرق بينهما عند النظر الدقيق. و السورة مقولة على ألسنة عباده على ما هو الرائج بينهم في محاوراتهم تعليما للتبرّك باسمه و حمده و مسألته. و متعلّق الظّرف فعل مقدّر مؤخّر، لأهمية اسمه تعالى و قصر التبرك عليه سبحانه. هكذا: بسم اللَّه أتلو». حذف المتعلّق لدلالة الحال عليه. و الاسم من السّمو: بفتح السين و سكون الميم، و هو مصدر فمعناه جعل الاسم. أو من السّمة: و أصله أي مصدره: و سم، معناه العلامة بالكيّ و نحوه. و لم يقل سبحانه: «باللَّه» لأن التبرّك باسمه أدخل في الأدب. اللَّهِ : أصله إله.
حذفت الهمزة و عوّض عنها أداة التعريف فصار مختصّا بالمعبود بالحقّ بالغلبة، بخلاف الإله فإنه كان لكل معبود، ثم غلب في المعبود بالحق. و هو من: أله بالفتح، بمعنى: عبد أو تحيّر و معناهما عام. و بالكسر (أله) بمعنى سكن أو فزع أو ولع لأنه معبود تتحيّر فيه العقول و تطمئنّ بذكره القلوب و يفزع إليه و يولع بالتضرّع لديه. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : صفتان مشبّهتان من رحم بكسر عين الفعل، كغضبان من غضب. و الرحمة هي رقّة القلب المقتضية للإحسان. و اتّصافه تعالى بها باعتبار غايتها التي هي فعل، لا مبدئها الذي هو انفعال. و الرّحمن أبلغ لاقتضاء زيادة البناء زيادة المعنى. و ملخص القول أنّ معنى الرحمن أي البالغ في الرحمة غايتها، و لذا اختصّ به سبحانه. و إنما قدّم في البسملة و غيرها من موارد اجتماعهما على الرحيم، لصيرورته بالاختصاص كالواسطة بين العلم و الوصف، فناسب توسيطه بينهما. و لعلّ وجه التقديم- مضافا إلى ما قلناه آنفا- كون الرحمانيّة دنيوية، و هي مقدّمة على الأخروية، و لا منافاة بين الوجهين. 2- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ : الحمد: هو الثناء على أمر جليل جميل صدر عن اختيار نعمة و غيرها. و نقيضه: الذّم، و يراد منه المدح. أما الشكر فهو ما قابل النعمة من قول أو عمل أو اعتقاد. و من الشكر الحمد على النعمة بل هو أظهر أفراده
قال (ص): «الحمد رأس الشكر، ما شكر اللَّه من لم يحمده»
فجعله كأشرف الأعضاء، فكأن الشكر منتف بانتفائه. و نقيضه الكفران. رَبِّ الْعالَمِينَ : مالكهم و سائسهم، أي مدبّر أمورهم على ما ينبغي. و الرب مصدر، بمعنى التربية، و هي تبليغ الشيء كماله المقدّر له تدريجيّا. و هذا من أوصافه الخاصة به جلّ و علا التي تدلّ على أن قدرته فوق ما يتصوّر من القوى، و لا يطلق على غيره تعالى إلّا مضافا: كربّ الدار، أو مجموعا: كالأرباب. و العالم: اسم لما سوى اللَّه، يقال: عالم الأرواح، و عالم الأفلاك، و عالم العناصر. و يطلق على مجموعها أيضا و إنما جمع هنا ليشمل مسمّاه كلّ الأجناس على اختلاف حقائقها و كذلك أفرادها. و يجمع بالواو و النون لتغليب جانب العقلاء. 3- الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : كرّرا في مفتاح الكتاب الكريم إشعارا بشدّة اعتنائه سبحانه بالرحمة، أو تثبيتا للرجاء بأن مالك يوم الجزاء هو البالغ في الرحمة. 4- مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ : مالك: بالألف على قراءة عاصم و الكسائي. و قرأ الباقون: «ملك يوم الدين» و الفرق أنّ المالك من له التصرّف فيما في حوزته و تحت يده، و الملك
ارشاد الاذهان الى تفسير القرآن، ص: 6
منصوب على المفعولية. و انفعاله و تقدّمه على فعله لإفادة الحصر، لأنّ تقديم ما هو حقّه التأخير يفيد الحصر. أي قصروا العبادة و الاستعانة عليه. و العبادة أعلى مراتب الخضوع و التذلّل، لا يستحقها إلّا اللَّه. و الاستعانة طلب المعونة في الفعل، و يراد هنا طلب المعونة في كل المهمّات، و لذا أيّهم المستعان فيه. و تكرير الضمير: «إيّاك و إيّاك» للتنصيص على التخصيص بالاستعانة. و تقديم العبادة على الاستعانة للتنبيه على أنّ تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة. و إيثار صيغة المتكلّم مع الغير ليؤذن بحقارة نفسه عن عرض العبادة و طلب المعونة متفردا على باب الكبرياء، فلا بدّ من انضمامه إلى جماعة تشاركه في العرض و الطلب كما يصنع في عرض الهدايا و رفع الحوائج إلى الملوك. و وجه العدول من الغيبة إلى الخطاب: أنّ فيه تطرية و تنشيطا للسامع ليس في غيره. 6- اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ : بيان للمعونة المطلوبة، كأنه قال: «كيف أعينكم؟» فقالوا: «اهدنا الصراط المستقيم». و الهداية:
الدلالة بلطف إلى المطلوب. و قيل هي الموصلة، و غيرها إراءة الطريق. و
عن أمير المؤمنين علي (ع): اهدنا، أي: ثبّتنا.
و أصناف هدايته جلّ و علا و إن لم يحصرها العدّ على أربعة أوجه: الأول:
إفاضته القوى و الحواسّ لجلب النفع و دفع الضّرر، يدل عليه:
«أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى». الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق و الباطل، يدلّ عليه وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ . الثالث: إرسال الرّسل و إنزال الكتب: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ . أي بالإرسال و الإنزال. الرابع: إزالة الغواشي البدنية و إراءة الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام أو المنام الصادق أو الاستغراق في ملاحظة جماله و جلاله بحيث تقشعرّ جلودهم من الخشية ثم يرغبون في ذكر ربهم و يعرضون عمّا سواه، قال تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ، ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ . و هذا يختص به الأنبياء و الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل.
و الصراط: هو الجادّة، و الطريق. من سرط الطعام أي ابتلعه. فكأنه يسترط السالبة. و جمعه سرط ككتب. و المراد بالصّراط المستقيم، و نتيجته التأكيد أو التّنصيص على أن الطريق الذي هو علم في الاستقامة هو طريق المنعم عليهم لأنه جعل كالتفسير له. و المراد بهم: المذكورون في كتابه: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ ... الآية. و قيل أراد بهم المسلمين، حيث إنّ نعمة الإسلام أصل كلّ النّعم. و الإنعام: إيصال النّعمة. و نعمه سبحانه كثيرة بحيث تعذّر حصرها و عدّها وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها . و هي إمّا دنيويّة ظاهرية كإفاضة الوجود و العمر و القوى البدنية أو باطنية. و من أسماها العقل و سائر القوى. و إما أخروية، و هي روحانيّ «كغفران الذنوب» و جسماني «كأنهار العسل و الشراب الطّهور». غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ : و الغضب: ثوران النّفس لإرادة الانتقام تشفّيا. فإن أسند إليه تعالى فباعتبار الغاية كما في الرّحمة، و العدول عن إسناده إليه تعالى إلى صيغة المجهول و إسناد عديله إليه تعالى، تأسيس لمباني الرّحمة. فكأنّ الغضب صادر عن غيره تعالى، و إلّا فالظاهر أن يقول: «غير الّذين غضبت عليهم». وَ لَا الضَّالِّينَ : من الضّلال و شعبه كثيرة، يجمعها العدول عن الطريق السّويّ و لو خطأ. و المشهور تفسير «المغضوب عليهم» باليهود و «الضّالّين» بالنصارى.
ارشاد الاذهان الى تفسير القرآن، ص: 7
سورة البقرة مدنية، و عدد آياتها 286 آية
آ- فضلها:
سئل النبيّ (ص): أيّ سور القرآن أفضل؟ قال: البقرة. قيل: أيّ آي البقرة أفضل؟. قال: آية الكرسي.
و
قال الصادق (ع): من قرأ البقرة و آل عمران جاء يوم القيامة تظلّانه على رأسه مثل الغمامتين.
ب- نزولها: مدنية و آياتها مائتان و ستّ و ثمانون آية. كلّها نزلت بالمدينة إلّا آية منها نزلت بمنى و هي قوله: و اتّقوا يوما ترجعون فيه إلى اللَّه ... ج- التفسير: 1- الم : قيل:
هذا و ما يأتي من الألفاظ المتهجّى بها: أسماء، مسمّياتها الحروف التي منها ركّبت الكلم. و الدليل صدق حدّ الاسم عليها، مع قبولها لخواصّ الاسم. و لعل السرّ في النطق بهذه الألفاظ هو إشارة منه تعالى إلى أن «كتابنا» هذا ركّب من هذه الحروف الهجائية التي تنطقون بها نهارا و ليلا. فإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بمثله و أنتم عرب فصحاء. فإن عجزتم انكشف أن هذا القرآن من فعل غير المخلوق، و عمل من هو وراء الطّبيعة، فينبغي أن يتحدّى به كما تحدّى بقوله: فأتوا بسورة إلخ ... و قيل: هي أسماء للقرآن. و قيل إنها قسم أقسم اللَّه تعالى بها لشرفها و عظمتها لكونها مباني كتبه و أسمائه و صفاته. و ورد عن أئمتنا عليهم السلام أنها من المتشابهات التي استأثر اللَّه نفسه بعلمها و لا يعلم تأويلها غيره. 2- ذلِكَ الْكِتابُ : يحتمل أن يكون «ذلك» إشارة إلى القرآن، أي الكتاب الذي أخبر به موسى بن عمران، أو عيسى بن مريم فأخبرا بني إسرائيل. بهذا الكتاب الذي أفتتح ب ألم لا رَيْبَ فِيهِ من راب يريب، إذا حصل فيه الرّيبة أي الشك. و حقيقة الريبة قلق النفس و اضطرابها. و المعنى أنه- من وضوح دلالته- لا ينبغي أنه يرتاب فيه عاقل، فإنه لا مجال للريبة فيه. هُدىً مصدر. و هو الرشاد، و البيان، و الدلالة. و هو ضد: الضلال. لِلْمُتَّقِينَ : و المتّقي: اسم فاعل من وقاه فاتّقي. و الوقاية فرط الصيّانة، و شرعا من وقى نفسه الذنوب. و فسّر المتّقون بالذين يتّقون الموبقات. و هذا التفسير أعمّ من سابقه، لأن الموبقات تشمل الذنوب و غيرها. و اختصاصه بالمتقين، لأن لهم كفاية الاهتداء على ضوئه و زيادة قابليته، و إلا فكثير من الناس يهتدون به. 3- الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ : الإيمان إفعال، من آمن، بمعنى صدّق، و ضد التكذيب. و حقيقة الإيمان شرعا هو المعرفة باللَّه و صفاته، و برسله و بما جاؤوا به، و يلازمه التصديق بهم. و إلا فالتصديق بلا عرفان لسانيّ لا يترتب عليه أيّ أثر واقعي كالإسلام اللساني. بل هما مترادفان. و الغيب: مصدر، بمعنى الغائب و المغيّب، أي ما يستتر عن الحواسّ الظاهرية. بل يمكن أن يقال: إن المراد به: الخفيّ الذي لا يعلمه العباد إلا بإرشاد اللَّه تعالى و هدايته.
وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ : من أقام العمود إذا قوّمه و استقامه. و المراد هنا هو أن يعدّلوا أركان الصلاة، و يأتوا بواجباتها على أصولها و مقرّراتها المشروعة حتى لا يقع فيها زيغ و لا يتطرّق إليها باطل. وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ : و الرّزق لغة الحظّ و النّصيب، و عرفا إعطاء اللَّه تعالى للحيوان ما ينتفع به كلّ بحسبه، فبالإضافة إلى الإنسان هو الأموال، و القوى، و الأبدان السالمة، و الجاه، و العلم، و في رأس هذه النّعم التوفيق لصرف كل واحدة منها في محلّها و فيما خلقت لأجله. و من إسناد الرزق إلى نفسه سبحانه، و مدحهم بالإنفاق، نستفيد النّعم التوفيق لصرف كل واحدة منها في محلّها و فيما خلقت لأجله. و من إسناد الرزق إلى نفسه سبحانه، و مدحهم بالإنفاق، نستفيد أن الحرام خارج عنه و ليس منه لتنزّه ساحته السامية و ارتفاع مقامه العالي جلّ و علا عن القبائح، و عدم قابلية الحرام لمدح منفقه.
و الإتيان (بمن) التبعيضيّة رمز إلى أنهم في الإنفاق منزّهون عن الإسراف و التبذير. 4- وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ : المراد بما أنزل: هو القرآن، و الشريعة بأسرها وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب السماوية الماضية و الشرائع السابقة وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي يعلمون تمام العلم من غير شك و ترديد .. و تحصيل اليقين بالآخرة له طريقان: الأول بإخبار الصادق المصدّق، و الثاني بالمعجزة.
و لليقين ثلاث مراتب: الأولى علم اليقين. و الثانية عين اليقين و هي فوق مقام علم اليقين. و الثالثة حق اليقين. و هي أرقى من السابقتين. فالسالك بعد إكمال المرتبة الثانية، و ارتقائه في يقينه بنتيجة رياضاته النفسانية، يصل إلى مقام يصير فيه بصره حديدا و سمعه شديدا، فيرى ما لا ترى عيون غيره من الناس، و يسمع ما لا تسمع آذانهم، و يدرك ما لا يخطر على قلوب أقرانه، إذ ترتفع الحجب، و تزول الأغطية، فيرى الأشياء على ما هي عليه بحقائقها و بواطنها و كما يرى ظواهرها سواء بسواء. 5- أُولئِكَ عَلى
ارشاد الاذهان الى تفسير القرآن، ص: 8
هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ : إشارة إلى الصّنفين من المؤمنين. و كلمة عَلى في هذه الآية للاستعلاء، و معناه تشبيه تمسّكهم بالهدى أو ثباتهم عليه باعتلاء الراكب مركوبه و تسلّطه عليه و لصوقه به. و نكّر هُدىً هاهنا للتعظيم، مِنْ رَبِّهِمْ تأكيد لتعظيمه لأنه ممنوح منه، و ليس هو إلّا اللّطف و التوفيق. وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تكرير الإشارة لفائدة اختصاصهم و تميّزهم بالميزتين عن غيرهم.
6- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا : لما ذكر سبحانه أولياءه بصفاتهم الموجبة لهم و هي الهدى و الفلاح، أتبعهم بأضدادهم: أي الكفرة العتاة الذين لا يتناهون عن منكر و لا ينتفعون بالتبشير و الإنذار. سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ سواء: اسم بمعنى الإستواء.
و الإنذار هو التخويف من العقاب مطلقا. و المراد منه هنا التخويف من عقاب اللَّه تعالى. لا يُؤْمِنُونَ جملة مؤكّدة لما قبلها فلا محلّ لها من الإعراب، أو هي حال من ضمير عليهم أيضا مؤكّد. و هذا الإخبار منه تعالى لا ينافي قدرتهم على الإيمان، لأنه سبحانه يخبر عن علمه بحالهم و عاقبة أمرهم. و علم اللَّه بعدم إيمان شخص لا يسلب قدرة الشخص، كما أن علمه بإيمانه لا يجبره عليه، فلا يكون تكليفهم به تكليفا بما لا يطاق. 7- خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ ... الختم أخو الكتم. و
عن الرضا (ع): هو الطّبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم،
كما قال تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ أي غطاء. وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ و العذاب كالنّكال زنة و معنى، ثم سمّي به كلّ ألم فادح و إن لم يكن نكالا أي عقابا. و (العظيم) نقيض الحقير، كالكبير نقيض الصغير. 8- وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا ... و هم الذين أبطنوا الكفر و أظهروا الإيمان. بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ تكرّر الباء لادّعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ تكذيب لقولهم: آمنّا، على ما حكى عزّ و جلّ في صدر هذه الآية. و المراد ب (من) الموصولة: ابن أبي سلول و أضرابه كمعتب بن قسمير، و جماعة أخرى كانوا مع هؤلاء. 9- يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ... الخدع (بالفتح و الكسر) الختل، و هو أن يظهر للغير خلاف ما يخفيه، و ما يريد به من المكروه، و أصل معناه الإخفاء. و معنى المخادعة أن يعملوا معهم معاملة المخادع من إبطال كفرهم و إظهار الإسلام لديهم. و إنما أضاف مخادعة الرسول إليه تعالى لأن مخادعته ترجع إلى مخادعة اللَّه كما قال عزّ و جلّ: إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون اللَّه، و المخادعة مع المؤمنين هو إيذاؤهم بخديعتهم وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي ما يضرّون بتلك الخديعة أحدا و إنما يرجع وبال ذلك عليهم دنيا و آخرة وَ ما يَشْعُرُونَ أي: و ما يحسّون. 10- فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... أي شك و نفاق. و وجه تسمية الشك بالمرض أنّ الشك تردّد بين أمرين، و المريض مردّد بين الحياة و الممات. و يمكن أن تكون إخبارا بأن القلوب المريضة- بطبعها- يزداد المرض فيها لضعفها و لكونها مستعدة له كالأمزجة الضعيفة إذا ابتلت بالمرض. فلما لم يكن فيها استعداد لمقاومة المرض ينمو فيها المرض و يصير مزمنا ثم يؤدي إلى الموت. فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً بحيث تاهت قلوبهم و كادت أن تذوب في الدنيا، وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة أي مؤلم موجع غاية الإيلام بِما كانُوا يَكْذِبُونَ بمقالتهم آمنّا. و لفظ (كان) للاستمرار. 11- وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ : بإظهار الشّقاق و النفاق بين المسلمين قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أي ليس شأننا إلّا الإصلاح. و قد حصروا أمرهم في الإصلاح لتصوّرهم الفساد إصلاحا لمرض قلوبهم. 12- أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ... ردّ لدعواهم الكاذبة. وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ بكونهم مفسدين مع غاية ظهور فسادهم الذي هو كالشيء المحسوس، و لكنّ حبّ الشيء يعمي و يصم. 13- وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا ... و قد نصحوا بأمرين مكملين لإيمان العبد، الأول: ترك الرذائل في قوله سبحانه: و لا تفسدوا. و الثاني: اكتساب الفضائل بقوله تعالى آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ يراد به النبيّ (ص) و من آمن من أصحابه الخلّص. قالُوا في الجواب أو فيما بينهم:
أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ . استفهام إنكاري. و لام السفهاء للعهد. و المعهود هم الناس الذين آمنوا مع الرسول (ص) المذلّون أنفسهم لمحمد (ص). و السفه هو ضعف الرأي و الخفّة في العقل. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ إنهم سفهاء، أي أخفّاء العقول أراذل.
وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ أي يجهلون سفاهتهم. و من نفي عنهم العلم و الشعور فأولئك كالأنعام، بل هم أضلّ. 14- وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا ... هذا البيان تثبيت لكونهم منافقين، لأن صاحب اللسانين هو الذي يقال له المنافق، و هو أيضا بيان لصنعهم مع المؤمنين و الكفّار، أي إذا رأوا المؤمنين قالُوا آمَنَّا بما آمنتم به وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ أي انفردوا بإخوانهم من المنافقين الذين
ارشاد الاذهان الى تفسير القرآن، ص: 9
يكذّبون الرسول مثلهم فهم كالشياطين في التمرد و العصيان قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بمحمد و أتباعه. 15- اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ... أي يعاملهم معاملة المستهزئ، أو يجازيهم على استهزائهم. وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ من مدّ الجيش و أمدّه أي زاده لا من المد في العمر، فالمعنى: أنه يزيد في فسح المجال لطغيانهم. يَعْمَهُونَ يتحيّرون و يتردّدون، و العمه هو التحيّر في البصيرة كالعمى في البصر.
16- أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ ... يعني باعوا دين اللَّه و اعتاضوا به الكفر باللَّه. فالشراء هنا لم يكن مبادلة، أي أخذا و عطاء، بل هو ترك و أخذ فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ و التجارة طلب الربح بالبيع و الشراء، و الربح الفضل على رأس المال، فهؤلاء المنافقون، استبدلوا الهداية بالضلالة، و الطاعة بالمعصية، و الربح بالخسارة! .. فأيّة جهالة أسوأ من هذه؟ .. وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ لطرق الحق و الصواب، أي للتجارة التي فيها الربح الوافر. 17- مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً المثل: في الأصل النظير، ثم أطلق على القول السائر. و لا يضرب إلّا لما فيه غرابة. و معنى الآية الشريفة: حالتهم العجيبة كحال من استوقد نارا أي طلب إشعال النار لارتفاع لهبها و سطوع نورها، ليبصر بها ما حوله فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ أي انتشر نورها حول مستوقدها ليستضيء مع رهطه ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أطفأ نارهم فذهب النور و وقعوا في الظّلمة.