کتابخانه تفاسیر
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 114
ثم العبادة لا تنحصر في مجالات الذكر و الصلاة و الحج: فانها تشمل كافة حركات الحياة و سكناتها، فلتكن كلها صلاة للّه وصلات باللّه لتصبح الكل عبادة للّه.
و لأن العابدين فرادى و جماعات لا يقدرون على إخلاص العبادة للّه لضعفهم في أنفسهم و وجاه عرقلات الشياطين، فلا حول عن معصية اللّه إلّا بعصمة اللّه، و لا قوة على طاعة اللّه إلّا بعون اللّه، فعلينا الاستعانة باللّه في «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» كما في سواه، استعانة تكوينية و تشريعية في: كيف نعبده، هديا إلى صراط مستقيم في عبادته، و في تحقيق حق العبادة الخالصة هديا إلى الصراط إيصالا إلى المطلوب منه، فلو لا الإعانة تشريعية و تكوينية لم تتحقق العبادة اللّائقة الخالصة.
ف «إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» على طاعتك و عبادتك
«و على دفع شرور أعدائك و ردّ مكائدهم و المقام على ما أمرتنا به» «1»
و «إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» : استزادة من توفيقه و عبادته و استدامة لما أنعم اللّه عليه و نصره «2» «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» : أفضل ما طلب به العباد حوائجهم «3» .
و لماذا «إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» دون «بك نستعين»؟
لأن بينهما فارقا و النص يوحي بتوحيد الأولى دون الثانية، سامحا للاستعانة بغير اللّه في اللّه و إلى اللّه حين يأذن اللّه و يرضى، فالمستعان- فقط- هو اللّه، ثم المستعان به في اللّه و إلى اللّه في إعانة هو اللّه و من يأذن به
(1). تفسير الامام الحسن العسكري (عليه السلام) عن النبي (صلى اللّه عليه و آله و سلم).
(2) من لا يحضره الفقيه عن العلل عن الرضا (عليه السلام).
(3) مجمع البيان عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلم).
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 115
اللّه، حيث الدار دار الأسباب، و إن كان اللّه قد يقطع الأسباب كأيّة رسالة أو كرامة أو عناية خاصة بمن يحبّ و يرضى.
ففي توحيد الاستعانة باللّه منع عن كل استعانة بغير اللّه، و أمّا التوحيد في استعانته فهو سائد في الاستعانة بما يأذن به اللّه كما في الاستعانة باللّه.
فكما «الْحَمْدُ لِلَّهِ» و العبادة للّه، كذلك المستعان هو اللّه لا سواه، و مهما حمدنا سواه و استعنّا بسواه فلسنا لنعبد سواه إذ «أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» .
فنحن «نستعين» بهدي الرسول اللّه في: كيف نعبده «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» .
و «نستعين» باستغفار الرسول اللّه في غفرانه كما أمر اللّه: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» (4: 64) .
كما «نستعين» بدعاء الرسول و شفاعته اللّه بإذنه «لا يملكون الشفاعة إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً» (78: 38) .
او «نستعين» اللّه بالرسول (صلى اللّه عليه و آله و سلم) و ذويه (عليهم السلام) في كشف الكربات و دفع الأذيّات و أضرابها من حاجات كوسائل كريمة مأذونة لم تخرج عن توحيد استعانة اللّه، ابتغاء الوسيلة إليه بإذنه:
وسيلة مشفوعة بالتقوى و الجهاد، دون اكتفاء بها و استقلال لها متاركين التقوى فيها و الجهاد، و إنما استغلالها بأمر اللّه و إلى ابتغاء مرضات اللّه:
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 116
فليس لنا ان نتوسل بكل شيء إلى اللّه، و لا أن نؤصّل شيئا فيما نبغي أمام اللّه فنستقلها بجنب اللّه.
إذا فاللّه يستعان فقط دون سواه، و بغير اللّه يستعان إلى اللّه و في اللّه بإذنه و رضاه، فقد نستعين اللّه فيما نستعين به ممن سوى اللّه، لأن الإعانات كلها من اللّه، و راجعة إلى اللّه، بوسائط أم دون وسائط، و لكنما الوسيط في الاستعانة تكوينا و تشريعا لا بد له من إذن اللّه، و كما استعان ذو القرنين في بناء الردم بمن ظلموا: «قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً» (18: 95) .
إذا فالاستعانات الإيمانية بإذن اللّه كلّها استعانة اللّه، و هي هي اللّاإيمانية إشراك باللّه أو إلحاد في اللّه.
فالتوسل بالأصنام و الأوثان أو عبادتها ليقربوكم إلى اللّه زلفى، أم يؤثّروا تأثيرات، استعانة بغير اللّه فيما منع اللّه شركا باللّه أو إلحادا في اللّه.
كما التوسل بالأحجار و الأشجار أماذا من جمادات و نباتات أم حيوان و إنسان أم ملك أو جان أم أيا كان، كل ذلك توسّل شركي إن توسلت بها إلى اللّه، أم إلحادي فيما تستقلها من دون اللّه.
فنحن نتعاون في اللّه: «تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ» (5: 2) و نستعين بعبادة اللّه: «وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ» (2: 45) و نستعين برسل اللّه و كل الهداة الى اللّه تعرفا الى مرضاة اللّه، و كلّ ذلك استعانة اللّه و استعانة باللّه «وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» (12: 112) .
و الضابطة السارية في الاستعانة بغير اللّه في اللّه و إلى اللّه في أمور عادية غير عبادية، أن تكون مأذونة بالوحي بصورة خاصة أو عامة، فعدم
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 117
الإذن- إذا- دليل المنع لأن منصب العون خاص باللّه فضلا عن المنع.
و من المأذونة بصورة عامة هو التعاون و الاستعانة في كافة الأمور و المشاغل الحيويّة المباحة، و هي في غير المباحة- فقط- غير مباحة دون شرك أو إلحاد، إلّا إذا أشركت باللّه أم استقلّت بجنب اللّه.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) هل يصح «السراط» كما في الشواذ؟ كلّا و إن اتحد المعنى، حيث النص المتواتر هو «الصراط» مهما كان أصله اللغوي من سرط الطعام «1» .
و هو هنا الدين ككل لأنه مؤدّ إلى استحباب الثواب و استدفاع العقاب، طريقا قاصدا و منهجا رائدا و بيانا زائدا يوصل إلى الهدف المقصود.
إنها خير دعاء و استدعاء في قلب السبع المثاني، و هي قلب الصلاة، كما هي قلب العبادات فإنها خير موضوع، و إن لها خير موضع في خير موضوع، فإنها بعد خطوات المعرفة و العبودية و الاستعانة، فلأن الدعاء هي مخّ العبادة فلتكن في مخّ العبادة.
و إنها دعاء لا يستغني عنها أحد من عباد اللّه حتى أسبق السابقين و أقرب المقربين محمد (صلى اللّه عليه و آله و سلم) و آله الطاهرين (عليهم السلام) فضلا عمن دونهم من سائر المخلصين و المخلصين و عباد اللّه أجمعين.
(1). في الدر المنثور 1: 14- اهدنا السراط بالسين عن عبد اللّه بن كثير و ابن عباس و في أسانيد عن ابن عباس «الصراط» و كما أخرج الحاكم و صححه و تعقبه الذهبي عن أبي هريرة ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلم) قرء «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» .
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 118
و لأن موقع الدعاء هو أقرب حالات القرب إلى اللّه، فدعاء الهداية و هي قمّة الدعاء أصبحت رابع الخطوات، بعد المعرفة الغائبة في «بِسْمِ اللَّهِ - الى- مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ثم الحاضرة بخالص العبادة في «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» ثم أخرى هي بخالص الاستعانة، فلما اكتملنا خطواتنا الثلاث و وصلنا إلى القمة المقصودة، فلكي نثبت على ما نحن عليه من الهدى، ثم نستزيد هدى على هدى، نقول: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» .
و الهداية هي الدلالة بعطف و لطف بكل مرونة و ازدهار، دون أية خشونة و استكبار، و حتى بالنسبة لأكبر المستكبرين فرعون: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً. لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» (20: 44) .
ثم من الهدى- و هي رحمة- عامة تعنيها «الرحمن» و خاصة تعنيها «الرحيم» و هنا أخصّ تعنيها «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» و الخلق في مثلث الهدى درجات حسب الدرجات.
1- و رحمانية الهدى هي تكوينية لا سواها: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» (20: 50) مهما اختلفت درجات الخلق و بمستواها هداها، و هي لزام كلّ خلق دونما حاجة إلى استدعاء، فالقوانين المحكّمة على المادة تكوينية دونما استثناء، من كيماوية و فيزيائية و فيزيولوجية نباتة أم حيوانية أم إنسانية أمّا هيه- و الكون كله على صراط مستقيم في هذه الهداية الإلهية دونما تخلّف و اختلاف، حيث الربوبية الإلهية مستقيمة دون خلاف «إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (11: 56) :
2- و من ثم تكوينية رحيمية كما في هدى العقل و الفطرة: «وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» (90: 10) و هما لكافة المكلفين من الملائكة و الجنة و الناس
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 119
أجمعين امّن هم ممن لا نعرفهم؟ و نحن نطلب فيما نطلب تجلّي الفطرة و زيادة العقل، لكي نهتدي إلى صراط مستقيم.
3- أم تشريعية ككلّ شرعة إلهية: هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ و هذان حاصلان لكل مكلف قدر تكليفه، فلولاهما لم تك من المصلين حتى تطلب الهداية، إذا فلا دعاء لهما و لا استدعاء اللهم إلّا تداوما فيهما و استزادة، أن يزيدنا لبّا و نورا و فرقانا لتعرّف أعرف إلى شرعته.
4- ام رحيمية تكوينية هي التوفيق لقبول الهداية لمن يتطلّبها «فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» (7: 30) فكذلك الأمر، فلولا قبول الهدى لما اهتديت إلى الصلاة:
5- ام هي واقع الهدى بعد الاهتداء إليها توفيقا لمزيد الإيمان و عمل الصالحات: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ» (10: 91) «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (5: 116) فهذه من أحسن الدعوات و أفضل المستدعيات لأن هديها من أفضل الهديّات.
6- ام هي التوفيق لدوام الهدى و الثبات عليها بعد الوصول إليها: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (60: 90) و منها العصمة و التسديد في البقاء على هدي الصراط المستقيم «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» (17: 74) «وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا» (17: 86) .
7- أم هي استزادة من هدي الصراط المستقيم وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً
الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج1، ص: 120
حيث الرسول محمد (صلى اللّه عليه و آله و سلم) و هو «لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» يتطلّب في صلواته ليل نهار هدي الصراط المستقيم، فضلا عمن دونه في صراطه.
8- ام هي- أخيرا- صراط الجنة الأخرى على هدي الجنة الأولى، التي هي جنّة عن كل ضلالة في الأولى و الأخرى: وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ (7: 43) و هي في الأخرى جنتان ثانيتهما و أولاهما جنة المعرفة و الرضوان: «وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» .
فبالسبعة الأخيرة من هذه الثمان:- عدد أبواب الجنان- نغلق أبواب النيران و نفتح أبواب الجنة الثمان: فأولى الهدى هي الفطرة و العقل، غير مكسوفة بطوع الهوى، و أخراها هي لمن بلغوا الذروة من الرعيل الأعلى و بينهما متوسطات، و لكلّ نصيب مما كسبوا و ما ربك بظلام للعبيد، و العطيّات حسب القابليات، و الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق، فما من أحد إلّا و هو يحتاج هدي الصراط المستقيم.
و لماذا نطلب هداية الصراط المستقيم، دون الهداية «إلى» أم «على» أم «ل»؟ علّه لأن الهداية «إلى» لا تعم الهداية «على» و هي الحيطة الشاملة على الصراط المستقيم، فإنها واقع الهدى، لا السبيل إليها و الرسول (صلى اللّه عليه و آله و سلم) هو على صراط مستقيم، مهما كان إليه في البداية: