کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

الفواتح الالهية و المفاتح الغيبية

الجزء الأول

مقدمة المؤلف

الجزء الثاني

الفواتح الالهية و المفاتح الغيبية


صفحه قبل

الفواتح الالهية و المفاتح الغيبية، ج‏1، ص: 15

عن سلاسل الزمان و أغلال المكان و انما أيدهم و شرفهم سبحانه بهاتين الوديعتين البديعتين اللتين إحداهما أب العلم اللدني المنشعب من حضرة العلم المحيط الإلهي و ثانيتهما أم العمل المتفرعة على حضرة القدرة الغالبة الشاملة الإلهية ليتولد لهم من امتزاج هاتين البديعتين الغيبيتين اللاهوتيتين جميع الأعمال و الأخلاق المرضية و الخصال السنية و السجايا الفاضلة المؤدية الى التخلق بالأخلاق المرضية الإلهية و التقرر بمرتبة الخلافة و النيابة المودعة لهم من عنده سبحانه حسب فضله و جوده المترتبة على وجودهم الباعثة عن إيجادهم و اظهارهم وفق الحكمة المتقنة البالغة. ثم لما كمل سبحانه ذوات الرسل و الأنبياء بما كمل و قررهم في مقر خلافته و نيابته وفق ما أراد و شاء بعثهم سبحانه بالإرادة و الاختيار الى من بعثهم من بريته و خليقته ممن صورهم على صورته و أظهرهم على نشأة خلته و فطرة خلافته و نيابته ليدعوهم الى زلال وحدته وسعة رحمته و يرشدوهم الى طريق الهداية و التوحيد و يبعدوهم عن سبل الضلالة و التقليد و يلقنوا عليهم الايمان و يبذروا في قلوبهم بذور اليقين و العرفان. و بالجملة يرغبوهم الى درجات الجنان التي هي عبارة عن فضاء الوجوب و صفاء الوصلة الذاتية و يجنبوهم عن دركات النيران التي هي عبارة عن عالم الكثرة و مضيق الإمكان و مع ذلك قد أيد الرسل منهم صلوات الرّحمن عليهم بمزيد الكرامة و الإحسان بانزال الكتب و الصحف المبينة لشرائعهم و اديانهم الموضوعة بالوضع الإلهي المقتبسة من حضرة الكلام النفسي القديم الإلهي المنصبغة بصبغ الألفاظ و الحروف الحاصلة من تقاطع الأصوات على الوجه الذي قد أشرنا اليه لتكون معجزة لهم و ذريعة الى قبول دعوتهم و تصديقهم في عموم أقوالهم و أفعالهم و أحكامهم و الى تأييد دينهم و شريعتهم و ترويج مذهبهم و ملتهم و وقاية لها بحفظها عن تطرق مطلق التبدل و التحريف نحوها و الانصراف عنها و العمل بمقتضاها و مع ذلك لا يقبلها منهم الا اقل من القليل ثم اعلم ان أفضل من انزل اليه الكتاب. و أكمل من اوتى نحوه الحكمة و فصل الخطاب. انما هو الحضرة الحتمية الخاتمية التي قد طويت دون ظهور دينه و شرعه سجلات عموم الشرائع و الأديان و اضمحلت عند بعثته مراسم جميع الملل و النحل و غارت و انخفضت و تلاشت بظهوره صلّى اللّه عليه و سلّم رسوم عموم اصحاب البدع و الأهواء. و خمدت نيران جميع اهل الزيغ و الآراء. و كيف لا و قد لاحت عند ظهوره صلّى اللّه عليه و سلّم شمس الذات الاحدية من آفاق عموم الذرات و أشرق نور الحق الحقيق بالحقية على صفائح مطلق الأكوان و الأعيان و غار ظلمة الليل الباطل على اغوار الإمكان و مهاوي الاعدام و أضاء صفاء سره و سريرته قلوب عموم الأولياء الأمناء المستخرجين من أمته المقتبسين من مشكاة نبوته و رسالته أنوار مرتبته صلّى اللّه عليه و سلّم بحيث قد صار علماء أمته و عرفاء شرعه و ملته مثل سائر الأنبياء الماضين بكرامة إرشاده و تربيته و بشرف متابعته و صحبته و لهذا ما تفوه احد من الأنبياء و الرسل الذين مضوا من قبله صلّى اللّه عليه و سلّم بالتوحيد الذاتي في دعوته بل كلهم قد مضوا على اظهار توحيد الصفات و الأفعال و ان كان بطانة دعوة الكل توحيد الذات الا انهم لم يتكلموا به و لم يتفوهوا عنه و لم يصرحوا به انتظارا لظهور مرتبته صلّى اللّه عليه و سلّم و بروز نشأته و كيف و قد كانت جميع مناقبه و حليته و أوصافه و أطواره صلّى اللّه عليه و سلّم و كذا ظهور دينه و ملته و شرعه و أمته و كتابه و نسخه عموم الكتب و الأديان. و بالجملة جميع شمائله و خصاله صلّى اللّه عليه و سلّم مكتوبة محفوظة في كتبهم و صحفهم ملهمة إياهم من قبل ربهم بزمان و هم كانوا مترقبين ظهوره صلّى اللّه عليه و سلّم في عموم أوقاتهم. و بعد ما ظهر صلّى اللّه عليه و سلّم و علا قدره و انتشر

الفواتح الالهية و المفاتح الغيبية، ج‏1، ص: 16

صيته في اقطار الآفاق و شاع خبره في جميع النواحي و الجهات نسخ معالم دينه و مراسم شرعه و ملته احكام جميع الملل و الشرائع و رسوم عموم الأديان و المذاهب. و بالجملة قد جرى كلمة التوحيد الذاتي بعد بعثته صلّى اللّه عليه و سلّم على السنة عموم العباد المسترشدين منه صلّى اللّه عليه و سلّم و المتعطشين بزلال هدايته و إرشاده و كذا من أولاده و أحفاده الائمة الهادين المهديين و أصحابه المهاجرين و الأنصار و التابعين الأخيار الأبرار رضوان اللّه عليهم و على من يتبع أثرهم و يقتدى بهم و يتابعهم الى يوم الدين و لهذا قد ختم ببعثة الحضرة الختمية الخاتمية و بنزول كتابه شأن التشريع و التديين و وضع الملل و المذاهب و طريق التوضيح و التبيين و سد باب الإنزال و الإرسال و انسد طرق الوحى و نزول الملك بالكتب و الصحف و غير ذلك من آيات الإرشاد و التكميل و لهذا قال صلّى اللّه عليه و سلّم انا أتمم مكارم الأخلاق و نزل في شانه «اليوم أكملت لكم دينكم» الآية و بالجملة بعد ما لاح شمس الذات الاحدية عن المشكاة المحمدية و ظهر طريق التوحيد الذاتي المبين بالقرآن العظيم لم يبق لعموم العباد حاجة الى تبيين مبين آخر و هداية هاد سواه وفقنا اللّه بشرف متابعته و بانقياد دينه و ملته و اطاعة كتابه و شريعته و حشرنا تحت لوائه و من زمرته و في حيطة حوزته بفضله و جوده. ثم اعلم ان القرآن الفرقان المنزل على خير الأنام. المبين لعموم البرايا احكام دين الإسلام. المبنى على التوحيد الذاتي أعظم الكتب الإلهية نفعا و أفضلها شأنا. و أوضحها حجة و برهانا. و أتمها بيانا و تبيانا.

و اجمعها حكما و احكاما و أكملها معرفة و إيقانا. و أهداها الى طريق الحق و سبيل الوحدة الذاتية التي هي مناط عموم التكاليف الواردة الموردة في الكتب الإلهية و الصحف السماوية الا و هو المنشأ و المبدأ و كذا العلة الغائية و الحكمة المتقنة السنية و المصلحة العلية لوضع مطلق الملل و الأديان و المذاهب و المشارب. و بالجملة القرآن الفرقان منزل من الحق على الخلق بالحق لتبيين طريق الحق لأهل الحق بحيث لا يأتيه الباطل لا من بين يديه و لا من خلفه و هو المشتمل على شرح كمال الإنسان.

المصور بصورة الرّحمن. المستخلف عن اللّه من بين عموم الأكوان. و هو الجامع لجميع أطواره الحسنة و أخلاقه المستحسنة المقبولة عند اللّه المرضية دونه سبحانه انما أنزله سبحانه على حبيبه الذي هو اشرف نوع الإنسان و أفضلهم و أكرم الناس على اللّه و أولاهم لينشرح صدره صلّى اللّه عليه و سلّم بما ذكر فيه من الأوامر و النواهي و الحكم و الاحكام و المعارف و الحقائق و الرموز و الإشارات و العبر و الأمثال و الحكايات الموردة فيه المتعلقة بعضها باصحاب الزيغ و الضلال. المنحرفين عن جادة الاستقامة و الاعتدال. و بعضها بأرباب القرب و الوصال. المنخرطين في سلسلة الوجود. المتشبثين بحبل اللّه الممدود.

من أزل الذات الى ابد الأسماء و الصفات بلا التفات لهم الى لوازم ناسوتهم أصلا و بعد ما انشرح صدره صلى اللّه عليه و سلّم قد وسع الحق فيه و نزل سلطان الوحدة على قلبه فقد فنى في اللّه و بقي ببقائه و اضمحل ناسوته الباطل في لاهوت الحق فحينئذ قد حق الحق الحقيق بالتحقق و الثبوت و بطل الباطل الزاهق الزائل فتخلق صلّى اللّه عليه و سلّم بأخلاق الحق مطلقا. و بعد ما صار صلّى اللّه عليه و سلم ما صار امر بتبليغ القرآن الفرقان الى عموم عباد اللّه المنجذبين نحو الحق المجبولين على فطرة الخلافة و النيابة ليقتدوا به و بما فيه كي يهتدوا الى زلال وحدته سبحانه و يتخلقوا بأخلاقه ليتمكنوا على مقر الخلافة و النيابة و على صراط العدالة الإلهية التي هم جبلوا لأجلها. و بالجملة من أراد ان يصل الى مرتبة الإنسان المخلوق على صورة الرّحمن فعليه ان يتخلق بأخلاق القرآن و يمتثل بأوامره و يجتنب عن نواهيه و يحافظ على حدوده و أحكامه ايمانا و احتسابا مستبصرا يقظانا حتى يستشعر من سرائر

الفواتح الالهية و المفاتح الغيبية، ج‏1، ص: 17

حكمه و اسرار أحكامه. و بالجملة من استشعر بحكم القرآن و اعتبر من عبره فقد استهدى منها الى معارفه و حقائقه و رموزه و إشاراته و مكاشفاته و مشاهداته التي ما نزل عموم ما نزل من عند اللّه الا لأجلها. و بالجملة من تشبث بالقرآن و امتثل بما فيه من الحكم و الاحكام و تخلق بأخلاقه و اتصف بآدابه فقد تحقق بمرتبة الإنسان الكامل الذي هو مرآة الحق يتراءى منه عموم أوصافه و أسمائه الذاتية جعلنا اللّه من زمرة من امتثل بأوامر القرآن و اجتنب عن نواهيه و اعتبر من عبره و أمثاله و تخلق بما فيه من أخلاقه المأمورة بها لخلص عباد اللّه و من جملة من أطاع اللّه و رسوله و استن بسننه السنية و آدابه الرضية المرضية بمنه وجوده فها أنا اشرع فيما اقصد و افتتح ما أريد و اللّه الموفق و الملهم للخير و الصواب و عنده أم الكتاب.

[سورة الفاتحة]

فاتحة سورة الفاتحة «1»

[الآيات‏]

لا يخفى على من أيقظه اللّه تعالى من منام الغفلة و نعاس النسيان ان العوالم و ما فيها انما هي من آثار الأوصاف الإلهية المترتبة على الأسماء الذاتية إذ للذات في كل مرتبة من مراتب الوجود اسم خاص و صفة مخصوصة لها اثر مخصوص هكذا بالنسبة الى جميع مراتب الوجود و لو حبة و ذرة و طرفة و خطرة و المرتبة المعبر عنها بالأحدية الغير العددية و العمآء الذي لاحظ لأولى البصائر و النهى منها الا الحسرة و الحيرة و الوله و الهيمان و هي غاية معارج عروج الأنبياء و نهاية مراتب سلوك الأولياء فهم بعد ذلك يسيرون فيه لا به و اليه الى ان يستغرقوا فيتحيروا الى ان يفنوا لا اله الا هو كل شي‏ء هالك الا وجهه ثم لما أراد سبحانه ارشاد عباده الى تلك المرتبة ليتقربوا إليها و يتوجهوا نحوها حتى ينتهى توجههم و تقربهم الى العشق و المحبة الحقيقية الحقية المؤدية الى إسقاط الاضافة المشعرة للكثرة و الاثنينية و بعد ذلك خلص نيتهم و صح طلبهم للفناء فيه نبه سبحانه الى طريقه إرشادا لهم و تعليما في ضمن الدعاء له و المناجاة معه متدرجا من نهاية الكثرة الى كمال الوحدة المفنية لها متيمنا بِسْمِ اللَّهِ‏ المعبر به عن الذات الاحدية باعتبار تنزلها عن تلك المرتبة العمائية إذ لا يمكن التعبير عنها باعتبار

(1) اعلم ان كل امر من الأمور التي يبين بها شي‏ء من الأشياء او يوضح بها حكم من الاحكام او ينسب إليها بداية لا بد و ان يكون له فاتحة خاصة له حافظة لمرتبة بدايته و أوليته و خاتمة مخصوصة إياه حافظة لمرتبة نهايته و آخريته و امر ثالث بينهما يكون مرجع الحكمين و مآل الطرفين اليه يجمعهما و يتعين بهما و يتبين منهما و لا شك ان كل سورة من سور القرآن بل كل كتاب و صحف سماوية و اسفار الهية نازلة على الأنبياء العظام و الرسل الكرام صلوات اللّه عليهم ما نزلت و وردت حقيقة و معنى من عنده سبحانه الا ليبين و يوضح به سبحانه لخلص عباده ظهور وحدته الذاتية و هويته الشخصية السارية في عموم الكوائن و الفواسد غيبا و شهادة ظاهرا و باطنا الظاهرة في الأنفس و الآفاق و في جميع الأقطار و الجهات بكمال الاستقلال و الاستحقاق بلا شركة و كثرة أصلا و ينبهها عليهم من كل منها بطريق مخصوص و طرز معين إذ زبدة عموم الكتب و الصحف الإلهية ما هي الا هذا البيان و التبيان الا و هو العلة الغائية المترتبة على مطلق الإرسال و الإنزال حقيقة و كذا على عموم مراتب الولاية المطلقة و النبوة و الرسالة بل على بروز عموم الملل و النحل و جميع الأديان و المذاهب و مطلق الشرائع و الاحكام الجارية على السنة الرسل الكرام و الأنبياء الأمناء العظام عليهم التحية و السّلام فلا بد ان يكون لكل سورة من سور القرآن فاتحة مخصوصة و خاتمة معينة لتكون كل منها ممتازة عن صاحبتها إذ كل سورة من السور القرآنية انما هي رسالة مخصوصة مفرزة مستقلة و سفر مخصوص معين لبيان هذه المصلحة العلية المذكورة آنفا لذلك ما صدرنا كل سورة منها الا بفاتحة خاصة لها و ما ختمناها ايضا الا بخاتمة معينة مخصوصة إياها مناسبة كل منهما لما فيها من الحكم و المصالح بتوفيق اللّه و تيسيره تأمل تفز بسرائرها و العلم عند اللّه و العالم هو اللّه هو يرشد نحوه و هو يهدى اليه و ما توفيقي الا باللّه عليه توكلت و اليه أنيب‏

الفواتح الالهية و المفاتح الغيبية، ج‏1، ص: 18

تلك المرتبة أصلا و باعتبار شمولها و احاطتها جميع الأسماء و الصفات الإلهية المستندة إليها المظاهر كلها المعبر عنها عند ارباب المكاشفة بالأعيان الثابتة و في لسان الشرع باللوح المحفوظ و الكتاب المبين" الرَّحْمنِ‏ ". المعبر به عن الذات الاحدية باعتبار تجلياتها على صفحات الأكوان و تطوراتها في ملابس الوجوب و الإمكان و تنزلاتها عن المرتبة الاحدية الى المراتب العددية و تعيناتها بالتشخصات العلمية و العينية و انصباغها بالصبغ الكيانية و الكونية الرَّحِيمِ‏ المعبر به عن الذات الاحدية باعتبار توحيدها بعد تكثيرها و جمعها بعد تفريقها و طيها بعد نشرها و رفعها بعد خفضها و تجريدها بعد تقييدها

الْحَمْدُ و الثناء الشامل لجميع الاثنية و المحامد الصادرة عن السنة ذرائر الكائنات المتوجهة نحو مبدعها طوعا المعترفة بشكر منعمها حالا و مقالا ازلا و ابدا ثابتة مختصة لِلَّهِ‏ اى للذات المستجمع لجميع الأسماء و الصفات المظهرة المربية للعوالم و ما فيها بأسرها رَبِّ الْعالَمِينَ‏ و لو لا تربيته إياها و إمداده لها طرفة لفنى العالم دفعة

الرَّحْمنِ‏ المبدأ المبدع لها في النشأة الاولى بامتداد اظلال أسمائه الحسنى و صفاته العليا على مرآة العدم المنعكس منها العالم كله و جزؤه شهادته و غيبه أولاه و أخراه بلا تفاوت‏ الرَّحِيمِ‏ المعيد للكل في النشأة الاخرى بطى سماء الأسماء و ارض الطبيعة السفلى الى ما منه الابتداء و اليه الانتهاء

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ و الجزاء المسمى في الشرع بيوم القيامة و الطامة الكبرى المندكة فيها الأرض و السماء المطوية عند قيامها سجلات الاولى و الاخرى إذ فيها ارتجت الآراء و الأفكار و ارتفعت الحجب و الأستار و اضمحلت اعيان السوى و الأغيار و لم يبق الا اللّه الواحد القهار ثم لما تحقق العبد و تمكن في هذا المقام و وصل الى هذا المرام و فوض أموره كلها الى الملك العلام القدوس السّلام حق له ان يلازم ربه و يخاطب معه بلا ستر و لا حجاب تتميما لمرتبة العبودية الى ان يرتفع كاف الخطاب عن البين و ينكشف الغين عن العين و عند ذلك قال لسان مقاله مطابقا بلسان حاله‏

إِيَّاكَ‏ لا الى غيرك إذ لا غير في الوجود معك‏ نَعْبُدُ نتوجه و نسئلك على وجه التذلل و الخضوع إذ لا معبود لنا سواك و لا مقصد الا إياك‏ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ اى ما نطلب الإعانة و الأقدار على العبادة لك الا منك إذ لا مرجع لنا غيرك‏

اهْدِنَا بلطفك‏ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ الذي يوصلنا الى ذروة توحيدك‏

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏ من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏ من المترددين الشاكين المنصرفين بمتابعة العقل المشوب بالوهم عن الطريق المستبين‏ وَ لَا الضَّالِّينَ‏ بتغريرات الدنيا الدنية و تسويلات الشياطين عن منهج الحق و محجة اليقين‏ آمِّينَ‏ اجابة منك يا ارحم الراحمين‏

خاتمة سورة الفاتحة

عليك ايها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات يسر اللّه أمرك و بلغك املك ان تتأمل في الأبحر السبعة المشتملة عليها هذه السبع المثاني من القرآن العظيم المتفرعة على الصفات السبع الذاتية الإلهية الموافقة للسماوات السبع و الكواكب السبعة الكونية و تتدبر فيها حق التدبر و تتصف بما رمز فيها من الأخلاق المرضية حتى تتخلص من الأودية السبعة الجهنمية المانعة من الوصول الى جنة الذات المستهلكة عندها جميع الإضافات و الكثرات و لا يتيسر لك هذا التأمل و التدبر الا بعد تصفية ظاهرك بالشرائع النبوية و النواميس المصطفوية المستنبطة من الكلم القرآنية و باطنك بعزائمه و أخلاقه صلى اللّه عليه و سلّم المقتبسة من حكمها المودعة فيها فيكون القرآن الجامع لهما خلق النبي صلّى اللّه عليه و سلّم‏

الفواتح الالهية و المفاتح الغيبية، ج‏1، ص: 19

ظاهرا و باطنا الموروث له من ربه المستخلف له فالقرآن خلق اللّه المنزل على نبيه من تخلق به فاز بما فاز. لذلك قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تخلقوا بأخلاق اللّه التي هي القرآن و الفاتحة منتخبة من جميع القرآن على ابلغ وجه و أوضح بيان من تأمل فيها نال بما نال من جميع القرآن لذلك فرض قراءتها عند الميل و التوجه الى الذات الاحدية المعبر عنه بلسان الشرع بالصلوة التي هي معراج اهل الايمان كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم الصلاة معراج المؤمن و قال ايضا لا صلاة الا بفاتحة الكتاب فعليك ايها المصلى المتوجه الى الكعبة الحقيقية الحقية و القبلة الاصلية الاحدية الصمدية ان تواظب على الصلوات المفروضة المقربة إليها و تلازم الحكم و الأسرار المودعة في تشريعها بحيث إذا أردت الميل الى جنابه و التوجه نحو بابه لا بد لك أولا من التوضى و التطهر من الخبائث الظاهرة و الباطنة كلها و التخلي عن اللذات و الشهوات برمتها بحيث يتيسر لك التحريمة بلا وسوسة شياطين الأهواء المضلة فإذا قلت مكبرا للّه محرما على نفسك جميع حظوظك من دنياك (اللّه اكبر) لا بد لك ان تلاحظ معناه بانه الذات الأعظم الأكبر في ذاته لا بالنسبة الى الغير إذ لا غير معه و افعل هذا للصفة لا للتفضيل و تجعلها نصب عينك و عين مطلبك و مقصدك و إذا قلت متيمنا متبركا بسم اللّه انبعثت رغبتك نحوه و محبتك اليه و إذا قلت الرّحمن استنشقت من النفس الرحمانى ما يعينك على الترقي نحو جنابه و إذا قلت الرّحيم استروحت من نفحات لطفه و نسمات رحمته و جئت بمقام الاستيناس معه سبحانه بتعديد نعمه على نفسك و إذا قلت مثنيا عليه شاكرا لنعمه الحمد للّه توسلت بشكر نعمه اليه و إذا قلت رب العالمين تحققت بمقام التوحيد و انكشفت باحاطته و شموله سبحانه و تربيته على عموم الأكوان و إذا قلت الرّحمن رجوت من سعة رحمته و عموم اشفاقه و مرحمته و إذا قلت الرّحيم نجوت من العذاب الأليم الذي هو الالتفات الى غير الحق و وصلت اليه بعد ما فصلت عنه بل اتصلت و إذا قلت مالك يوم الدين قطعت سلسلة الأسباب مطلقا و تحققت بمقام الكشف و الشهود فحينئذ ظهر لك و لاح عليك ما ظهر فلك ان تقول في تلك الحالة بلسان الجمع إياك نعبد بك مخاطبين لك و إياك نستعين بإعانتك مستعينين منك و إذا قلت اهدنا الصراط المستقيم تمكنت بمقام العبودية و إذا قلت صراط الذين أنعمت عليهم تحققت بمقام الجمع و إذا قلت غير المغضوب عليهم استوحشت عن سطوة سلطة صفاته الجلالية و إذا قلت و لا الضالين خفت من الرجوع بعد الوصول فإذا قلت مستجيبا راجيا آمين أمنت من الشيطان الرجيم فلك ان تصلى على الوجه الذي تلى حتى تكون لك صلاتك معراجا الى ذروة الذات الاحدية و مرقاة الى السماء السرمدية و مفتاحا للخزائن الازلية و الابدية و ذلك لا يتيسر الا بعد الموت الإرادي عن مقتضيات الأوصاف البشرية و التخلق بالأخلاق المرضية و الخصائل السنية الإلهية و لا يحصل لك هذا عند الميل الا بالعزلة و الفرار عن الناس المنهمكين في الغفلة و الانقطاع عنهم و عن رسومهم و عاداتهم بالمرة و الا فالطبيعة سارقة و الأمراض سارية و النفوس آمرة بالهوى مائلة عن المولى عصمنا اللّه من شرورها و خلصنا من غرورها بمنه و جوده‏

[سورة البقرة]

فاتحة سورة البقرة

لا يخفى على السالكين المتدرجين في مسالك التحقيق المتعطشين بزلال التوحيد ان الطرق الى اللّه بعدد أنفاس الخلائق إذ ما من ذرة من ذرائر العالم الا و له طريق منها و أقوم الطرق و أحسنها و أوضح السبل و أبينها هو الذي اختاره اللّه سبحانه لحبيبه صلّى اللّه عليه و سلّم و لورثته من الأولياء زاد اللّه فتوحهم في كتابه‏

الفواتح الالهية و المفاتح الغيبية، ج‏1، ص: 20

المسور بالسور المفصلة بالآيات المنقسمة بالمحكمات و المتشابهات المشتملة كل سورة منها على احكام الشريعة و آداب الطريقة و اسرار الحقيقة فلا بد للخصائص في لجج بحار القرآن. و الغائص فيها لاستخراج فرائد اليقين و العرفان. ان يتأمل في كل سورة منها على وجه ينكشف له ما فيه من الأسرار بقدر استعداده و قابليته و الا فغوره بعيد و قعره عميق منها سورة البقرة المشتملة اوائلها على الاحكام الشرعية المهذبة للظاهر عن الرذائل الردية و الخصال الغير المرضية و أواسطها على آداب الطريقة من الشيم الجميلة و الأخلاق الحميدة المصفية للباطن عن الكدورات البشرية و أواخرها على التوحيد الصرف الذاتي الخالص عن شوب الكثرة و شين الثنوية قطعا و انما خصص صلّى اللّه عليه و سلّم بأواخر هذه السورة لأنه صلّى اللّه عليه و سلّم هو المظهر للتوحيد الذاتي بخلاف الأنبياء السالفة صلوات اللّه عليهم فإنهم لم يظهروه لذلك ختم ببعثته صلّى اللّه عليه و سلّم امر النبوة و الرسالة و انسد طريق الوحى و الإنزال ثم لما أراد سبحانه ارشاد عباده الى سبيل الهداية و ابعادهم عن طريق الضلال انزل عليهم هذه السورة الجامعة لهما فقال متيمنا متبركا على وجه التعليم مخاطبا لنبيه المبعوث على الخلق العظيم‏ بِسْمِ اللَّهِ‏ المتوحد المتفرد المستغنى بذاته عن جميع الأكوان المتلبس بواسطة أسمائه و صفاته ملابس الحدوث و الإمكان‏ الرَّحْمنِ‏ لعباده الذين هم مظاهر أسمائه و صفاته برش نوره عليهم و مد ظله إليهم في معاشهم‏ الرَّحِيمِ‏ لهم في معادهم ينجيهم عن ظلمة الإمكان المعبر عنها بلسان الشرع بالسعير و الجحيم و يهديهم الى روضة الرضى و جنة التسليم‏

[الآيات‏]

الم‏ ايها الإنسان الكامل اللائق لخلافتنا الملازم لاستكشاف اسرار ربوبيتنا و كيفية سريان هويتنا الذاتية السارية على صفحات المكونات المداوم للاستفادة و الاستنباط من حضرة علمنا المحيط المنتزع عنها و المأخوذ منها

ذلِكَ الْكِتابُ‏ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه البعيدة درجة كماله عن افهام البشر الجامع لجميع مراتب الأسماء و الصفات في عالم الغيب و الشهادة المنزل على مرتبتك الجامعة لجميع مراتب الكائنات من الأزل الى الأبد بحيث لا يشذ عنها مرتبة أصلا لا رَيْبَ فِيهِ‏ بانه منزل من عندنا لفظا و معنى اما لفظا فلعجز جماهير البلغاء و مشاهير الفصحاء عن معارضة اقصر آية منه مع وفور دواعيهم و اما معنى فلاشتماله على جميع احوال الحقائق العينية و الأسرار الغيبية مما كان و سيكون في النشأتين و لا يتيسر الاطلاع عليها و الإتيان بها على هذا النمط البديع الا لمن هو علام الغيوب و انما أنزلناه إليك ايها اللائق لأمر الرسالة و النيابة لتهتدى به أنت الى بحر الحقيقة و تهدى به ايضا من تبعك من التابعين في بيداء الضلالة. إذ فيه‏ هُدىً‏ عظيم‏ لِلْمُتَّقِينَ‏

الَّذِينَ‏ يحفظون بامتثال أوامره و اجتناب نواهيه نفوسهم عن خبائث المعاصي المانعة عن الطهارة الحقيقية و من الوصول الى المرتبة الاصلية التي هي الوحدة الذاتية و الذين‏ يُؤْمِنُونَ‏ يوقنون و يذعنون باسراره و معارفه‏ بِالْغَيْبِ‏ اى غيب الهوية الوحدانية التي هي ينبوع بحر الحقيقة و إليها منتهى الكل و بعد ذلك يتوجهون بمقتضيات أحكامها نحوها و يهتدون إليها بسببها وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ اى يديمون الميل بجميع الأعضاء و الجوارح على وجه الخضوع و التذلل الى جنابه إذ هو المقصد للكل اجمالا و تفصيلا و لكل عضو و جارحة تذلل خاص و له طريق مخصوص يناسبه يرشدك الى تفاصيل الطرق فعله صلّى اللّه عليه و سلّم في صلاته على الوجه الذي وصل إلينا من الرواة المجتهدين رضوان اللّه عليهم أجمعين‏ وَ لما تنبهوا له بمتابعته و مالوا نحو جنابه سبحانه بالميل الحقيقي بالكلية لم يبق لهم ميل الى ما سواه من المزخرفات الفانية بل الى أنفسهم ايضا لذلك‏ مِمَّا رَزَقْناهُمْ‏ و سقنا إليهم ليكون مبقيا لحياتهم و مقوما لمزاجهم‏ يُنْفِقُونَ‏ في سبيلنا طلبا لمرضاتنا و هربا عما يشغلهم عنا فكيف‏

الفواتح الالهية و المفاتح الغيبية، ج‏1، ص: 21

انفاق الفواضل منه‏

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ‏ ينقادون و يمتثلون‏ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏ من الكتاب الجامع اسرار جميع ما انزل من الكتب السالفة على الوجه الأحسن الأبلغ و من السنن و الأخلاق الملهمة إليك‏ وَ مع ذلك يعتقدون صريحا ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏ من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين‏ وَ مع الايمان بجميع الكتب المنزلة و ان كان كل كتاب متضمنا للايمان بالنشأة الآخرة بل هو المقصد الأقصى من جميعها بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏ أفردها بالذكر اهتماما بشأنها لكثرة المرتابين فيها

و بالجملة أُولئِكَ‏ المؤمنون المعتقدون بجميع الكتب المنزلة على الرسل و الموقنون المذعنون بالنشأة الآخرة خاصة عَلى‏ هُدىً‏ عظيم‏ مِنْ رَبِّهِمْ‏ الذي رباهم بأنواع اللطف و الكرم الى ان يبلغوا الى هذه المرتبة التي هي الاهتداء الى جناب قدسه‏ وَ مع ذلك الجزاء العظيم و النفع الجسيم‏ أُولئِكَ‏ السعداء المقبولون‏ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏ الفائزون الى فضاء الوجوب الناجون عن مضائق الإمكان رزقنا اللّه النجاة عنه و الوصول اليه‏

ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية في كتابه هذا من تعقيب الوعد بالوعيد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا الحق و اعرضوا عنه و أظهروا الباطل و أصروا عليه عنادا و استكبارا لا ينفعهم إنذارك يا أكمل الرسل و عدمه بل‏ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏ بك و بكتابك‏

لأنهم قد خَتَمَ اللَّهُ‏ المحيط بذواتهم و اوصافهم و أفعالهم‏ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ‏ كيلا يكونوا من ارباب المكاشفة وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ‏ كيلا يصيروا من اصحاب المجاهدة وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ‏ كيلا يكونوا من ارباب المشاهدة غِشاوَةٌ ستر عظيم و غطاء كثيف لا يمكنك رفعها بل‏ وَ لَهُمْ‏ فيها عَذابٌ عَظِيمٌ‏ هو عذاب الطرد و البعد عن ساحة عز الحضور في مقعد الصدق و لا عذاب أعظم منه و بالجملة أولئك الأشقياء المردودون هم الضالون في تيه الحرمان الباقون في ظلمة الإمكان بأنواع الخيبة و الخذلان أعاذنا اللّه من ذلك‏

وَ مِنَ النَّاسِ‏ الذين نسوا العهود السابقة التي عهدوها مع اللّه في مبدأ الفطرة مَنْ يَقُولُ‏ قولا لا يوافق اعتقادهم و هو انهم يقولون تزويرا و تلبيسا آمَنَّا و اذعنا بِاللَّهِ‏ الذي انزل علينا الكتاب و الرسول‏ وَ قد أيقنا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الموعود به لجزاء الأعمال‏ وَ الحال انه‏ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ‏ موقنين بهما في بواطنهم‏

بل ما غرضهم من هذا التلبيس و التزوير الا انهم يظنون انهم‏ يُخادِعُونَ اللَّهَ‏ المحيط بجميع أحوالهم و أفعالهم مخادعتهم مع آحاد الناس تعالى عن ذلك‏ وَ ايضا يخادعون الموحدين‏ الَّذِينَ آمَنُوا باحاطة اللّه بتوفيقه و الهامه و انما خادعوا بما خادعوا و قالوا ما قالوا حفظا لدمائهم و أموالهم منهم‏ وَ هم لم يعلموا انهم‏ ما يَخْدَعُونَ‏ بهذا الخداع‏ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ‏ لان اللّه سبحانه و من هو في حمايته من المؤمنين أجل و أعلى من ان ينخدعوا منهم فثبت انهم ما يخدعون بهذا الخداع الا أنفسهم‏ وَ ما يَشْعُرُونَ‏ بخداعهم و انخداعهم‏

لأنه كان‏ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏ اى غشاوة و غطاء مختوم على قلوبهم لا ينكشف الا بكتاب اللّه المنزل على رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم و لما لم يؤمنوا به و لم يلتفتوا اليه عن ظهر القلب بل كذبوا رسوله المنزل عليه كتابه‏ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً غشاوة و غطاء لأجل ذلك احكاما لختمه و تأكيدا لحكمه‏ وَ لَهُمْ‏ مع ذلك في يوم الجزاء عَذابٌ أَلِيمٌ‏ مؤلم و هو ابعادهم و طردهم عن ساحة عز الحضور كل ذلك جزاء بِما كانُوا يَكْذِبُونَ‏ و يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم تغريرا و خداعا

صفحه بعد