کتابخانه تفاسیر
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل
الجزء الأول
سورة البقرة
سورة آل عمران
سورة النساء
سورة المائدة
الجزء الثاني
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة التوبة
سورة يونس
سورة هود عليه السلام
سورة يوسف
سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
سورة النحل
سورة الإسراء
سورة الكهف
الجزء الثالث
سورة مريم
سورة طه
سورة الأنبياء
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبإ
سورة الملائكة
الجزء الرابع
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
سورة المؤمن
سورة[فصلت، و تسمى] السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
سورة الدخان
سورة الجاثية
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة التغابن
سورة الملك
سورة ن
سورة الحاقة
سورة الجن
سورة المزمل
سورة المرسلات
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 13
على اختصاص الحمد به و أنه به حقيق في قوله الحمد للَّه- دليل على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد و الثناء عليه بما هو أهله.
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
(إيا) ضمير منفصل للمنصوب، و اللواحق التي تلحقه من الكاف و الهاء و الياء في قولك: إياك، و إياه، و إياى، لبيان الخطاب و الغيبة و التكلم، و لا محل لها من الإعراب، كما لا محل للكاف في أ رأيتك، و ليست بأسماء مضمرة، و هو مذهب الأخفش و عليه المحققون، و أما ما حكاه الخليل عن بعض العرب: «إذا بلغ الرجل الستين فإياه و إيا الشواب» فشيء شاذ لا يعوّل عليه، و تقديم المفعول لقصد الاختصاص، كقوله تعالى: (قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) ، (قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) . و المعنى نخصك بالعبادة، و نخصك بطلب المعونة. و قرئ: إياك بتخفيف الياء، و أياك بفتح الهمزة و التشديد، و هياك بقلب الهمزة هاء. قال طفيل الغنوي:
فَهَيَّاكَ و الأَمْرَ الَّذِى إنْ تَرَاحَبَتْ
مَوَارِدُهُ ضاقَتْ عليْكَ مَصادِرُهُ «1»
و العبادة أقصى غاية الخضوع و التذلل. و منه ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة و قوّة النسج، و لذلك لم تستعمل إلا في الخضوع للَّه تعالى، لأنه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع. فإن قلت: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت: هذا يسمى الالتفات في علم البيان قد يكون «2» من الغيبة إلى الخطاب، و من الخطاب إلى الغيبة، و من الغيبة إلى التكلم،
(1). لمضرس بن ربعي، و قيل لطفيل، و هياك: أصله إياك، قلبت همزته هاء، و هو في محل نصب بمحذوف وجوبا، و الأمر: عطف عليه، و الأصل: احذر تلاقى نفسك و الأمر فحذف ما عدا ضمير الخطاب و ما عطف عليه لكثرة الاستعمال، و لأن مقام التحذير يقتضى السرعة و إيجاز الكلام، و قيل أصله: باعد نفسك من الأمر و باعد الأمر من نفسك، فحذف لذلك، و شبه أسباب الدخول في الأمر بالموارد: أى مواضع الورود إلى نحو الماء، و أسباب الخروج منه بالمصادر: أى مواضع الصدور: أى الرجوع، فكل منهما استعارة تصريحية، و أما تشبيه الأمر بشيء له موارد و مصادر كالماء على طريقة المكنية، فهو خارج عن قانون البيان؛ لأن الأمر يطلق على كل شيء، فتخصيصه بغير نحو الماء ثم تشبيهه به، بالقصد لا بالوضع. و يروى هكذا:
فإياك و الأمر الذي إن توسعت
موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه
و ليس له من سائر الناس عاذر
أى فليس عذر المرء لنفسه حسناً: أى قبوله لاعتذارها بعد وقوعها في الورطة، و قوله: و ليس له الخ: جملة حالية و على هذا فحقه حرف الراء.
(2). قوله «في علم البيان قد يكون» لعله و قد، و عبارة النسفي: و هو قد يكون. (ع)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 14
كقوله تعالى: (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ) . و قوله تعالى: (وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) . و قد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات: «1»
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بالإثْمدِ
و نَامَ الخَلِىُّ و لَم تَرْقُدِ
و بَاتَ و باتَتْ لهُ لَيْلةٌ
كلَيْلةِ ذِى العائرِ الأرْمَدِ
و ذلِكَ مِنْ نَبَإ جَاءَنى
و خُبِّرْتُهُ عن أَبى الأَسْوَدِ «2»
و ذلك على عادة افتنانهم في الكلام و تصرفهم فيه، و لأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، و إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، و قد تختص مواقعه بفوائد. و مما اختص به هذا الموضع: أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، و أجرى عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء و غاية الخضوع و الاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات، فقيل: إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة و الاستعانة، لا نعبد غيرك و لا نستعينه، ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به. فإن قلت: لم قرنت الاستعانة بالعبادة؟
قلت: ليجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربهم و بين ما يطلبونه و يحتاجون إليه من جهته.
فإن قلت: فلم قدّمت العبادة على الاستعانة؟ «3» قلت: لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة
(1). قال محمود رحمه اللَّه: «و قد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات ... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: يعنى أنه ابتدأ بالخطاب ثم التفت إلى الغيبة، ثم إلى التكلم و على هذا فهما التفاتان لا غير، و إنما أراد الزمخشري و اللَّه أعلم أنه أتى بثلاثة أساليب: خطاب لحاضر، و غائب، و لنفسه، فوهم بقوله ثلاث التفاتات، أو تجعل الأخير ملتفتا التفاتين عن الثاني و عن الأول فيكون ثلاثا، و الأمر فيه سهل.
(2). لامرئ القيس بن حجر الجاهلى، و قال ابن هشام: هو غلط، و قائله امرؤ القيس بن عابس الصحابي، و قيل لعمرو بن معديكرب، و الأثمد كأحمد، و قد تضم ميمه، و قد يروى بكسرها: اسم موضع، و العائر اسم جامد يطلق على قذى تدمع منه العين، و على الرمد، و على كل ما أعل العين، و في الشعر ثلاث التفاتات، لكن الأول على مذهب السكاكي فقط: و هو أنه كان الظاهر التعبد بطريق التكلم فالتفت إلى الخطاب و ذلك في البيت الأول.
و الثاني: عدوله عن الخطاب إلى الغيبة في الثاني. و الثالث: التفاته عن الغيبة إلى التكلم في الثالث. و الجمهور يجعلون الأول من قبيل التجريد. و أبو الأسود: كنية صاحب الشاعر الذي يرثيه، و قيل هو المخبر و اسمه ظالم بن عمرو و هو عم امرئ القيس. و قيل أبى مضاف لياء المتكلم و الأسود صفته، و يروى: عن بنى الأسود.
(3). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت لم قدمت العبادة على الاستعانة ... الخ». قال أحمد: معتقد أهل السنة أن العبد لا يستوجب على ربه جزاء- تعالى اللَّه عن ذلك- و الثواب عندنا- من الاعانة في الدنيا على العبادة و من صنوف النعيم في الآخرة- ليس بواجب على اللَّه تعالى، بل فضل منه و إحسان. و في الحديث «أنه عليه الصلاة و السلام قال:
لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل: و لا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: و لا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته» مضافا إلى دليل العقل المحيل أن يجب على اللَّه تعالى شيء، لكن قام الدليل عقلا و شرعا على أنه تعالى لا يجب عليه شيء، فقد قام عقلا و شرعا على أن خبره تعالى صدق و وعده حق، أى يجب عقلا أن يقع، فاما أن يكون الزمخشري تسامح في إطلاق الاستيجاب و أراد وجوب صدق الخبر، و إما أن يكون أخرجه على قواعد البدعية في اعتقاد وجوب الخير على اللَّه تعالى و إن لم يكن وعد.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 15
ليستوجبوا الإجابة إليها. فإن قلت: لم أطلقت الاستعانة؟ قلت: ليتناول كل مستعان فيه، و الأحسن أن تراد الاستعانة به و بتوفيقه على أداء العبادة، و يكون قوله: اهْدِنَا بيانا للمطلوب من المعونة، كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا الصراط المستقيم، و إنما كان أحسن لتلاؤم الكلام و أخذ بعضه بحجزة بعض. و قرأ ابن حبيش: نستعين، بكسر النون.
[سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
هدى أصله أن يتعدى باللام أو بإلى، كقوله تعالى: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ، (وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، فعومل معاملة- اختار- في قوله تعالى: (وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) .
و معنى طلب الهداية- و هم مهتدون- طلب زيادة الهدى بمنح الإلطاف، كقوله تعالى: (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) ، (وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) . و عن على و أبىّ رضى اللَّه عنهما: اهدنا ثبتنا، و صيغة الأمر و الدعاء واحدة، لأنّ كل واحد منهما طلب، و إنما يتفاوتان في الرتبة.
و قرأ عبد اللَّه: أرشدنا.
(السراط) الجادّة، من سرط الشيء إذا ابتلعه، لأنه يسترط السابلة إذا سلكوه، كما سمى: لقما، لأنه يلتقمهم. و الصراط من قلب السين صاداً لأجل الطاء، كقوله: مصيطر، في مسيطر، و قد تشم الصاد صوت الزاى، و قرئ بهنّ جميعا، و فصاحهنّ إخلاص الصاد، و هي لغة قريش و هي الثابتة في الإمام، و يجمع سرطا، نحو كتاب و كتب، و يذكر و يؤنث كالطريق و السبيل، و المراد طريق الحق و هو ملة الإسلام.
[سورة الفاتحة (1): آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل من الصراط المستقيم، و هو في حكم تكرير العامل، كأنه قيل: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، كما قال: (الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)* لمن آمن منهم. فإن قلت: ما فائدة البدل؟ و هلا قيل اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؟ قلت:
فائدته التوكيد لما فيه من التثنية و التكرير، و الإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه و تفسيره:
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 16
صراط المسلمين؛ ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه و آكده، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس و أفضلهم؟ فلان؛ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم و الفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك ثنيت ذكره مجملا أوّلا، و مفصلا ثانيا، و أوقعت فلانا تفسيراً و إيضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم و الفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع و لا منازع. و الذين أنعمت عليهم: هم المؤمنون، و أطلق الإنعام ليشمل كل إنعام؛ «1» لأنّ من أنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته و اشتملت عليه. و عن ابن عباس: هم أصحاب موسى قبل أن يغيروا، و قيل هم الأنبياء. و قرأ ابن مسعود: (صراط من أنعمت عليهم) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل من الذين أنعمت عليهم، على معنى أنّ المنعم عليهم: هم الذين سلموا من غضب اللَّه و الضلال، أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة و هي نعمة الإيمان، و بين السلامة من غضب اللَّه و الضلال. فإن قلت: كيف صح أن يقع (غير) صفة للمعرفة و هو لا يتعرّف و إن أضيف إلى المعارف؟ قلت: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لا توقيت فيه كقوله:
وَ لَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّنى «2»
(1). قال محمود رحمه اللَّه: و أطلق الانعام ليشمل كل إنعام. قال أحمد رحمه اللَّه: إن إطلاق الانعام يفيد الشمول كقوله:
إن إطلاق الاستعانة يتناول كل مستعان فيه، و ليس بمسلم فان الفعل لا عموم لمصدره، و التحقيق أن الإطلاق إنما يقتضى إبهاما و شيوعا، و النفس إلى المبهم أشوق منها إلى المقيد لتعلق الأمل مع الإبهام لكل نعمة تخطر بالبال
(2).
و لقد أمر على اللئيم يسبني
فمضيت ثمة قلت لا يعنيني
غضبان ممتلئ على إهابه
إنى و ربك سخطه يرضيني
لرجل من بنى سلول، و يسبني صفة للئيم و إن قرن بأل، لأنه ليس المراد لئيما بعينه بدليل مقام التمدح فأل فيه للعهد الذهني لا الخارجي، و مدخولها في المعنى كالنكرة، فجاز وصفه بالجملة و إن كانت لا يوصف بها إلا النكرة، و هذا يفيد اتصافه بالسب دائما لا حال المرور فقط و هو المراد، و كان الظاهر أن يقول: فأمضى ثم أقول، و لكن أتى بالماضي دلالة على تحقق ذلك منه، و روى: فأعف ثم أقول: أى أكف عنه و عن مكافأته، و يحتمل أنه أراد صررت على صبغه الماضي بالمضارع لحكايه الحال، هذا و الظاهر أن الجملة حالية، أى: أمر على اللئيم حال كونه يسبني و أنا أسمع فأعرض عنه و أقول إنه لا يقصدني بذلك السب الذي سمعته منه، و ليس المراد وصفه بالسب الدائم، لأنه لا يظهر مع تخصيص السب بوقوعه على ضمير المار، على أنه يمكن جعل الحال لازمة فتفيد الدوام. هو غضبان ممتلئ جلده غضبا على لكن لا أبالى بذلك، فانى و حق ربك غضبه يرضيني، فليدم عليه و ليزدد منه، و الإهاب: الجلد قبل دبغه بل و قبل سلخه كما هنا.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 17
و لأنّ المغضوب عليهم و الضالين خلاف المنعم عليهم، فليس في- غير- إذاً الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف، و قرئ بالنصب على الحال و هي قراءة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم و عمر بن الخطاب، و رويت عن ابن كثير. و ذو الحال الضمير في عليهم، و العامل أنعمت، و قيل المغضوب عليهم: هم اليهود؛ لقوله عز و جل: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ) . و الضالون:
هم النصارى؛ لقوله تعالى: (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) . فإن قلت: ما معنى غضب اللَّه؟ قلت: هو إرادة الانتقام «1» من العصاة، و إنزال العقوبة بهم، و أن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده- نعوذ باللَّه من غضبه، و نسأله رضاه و رحمته. فإن قلت: أى فرق بين (عليهم) الأولى و (عليهم) الثانية؟ قلت: الأولى محلها النصب على المفعولية، و الثانية محلها الرفع على الفاعلية.
فإن قلت: لم دخلت لَا في وَ لَا الضَّالِّينَ ؟ قلت: لما في- غير- من معنى النفي، كأنه قيل:
لا المغضوب عليهم و لا الضالين. و تقول: أنا زيداً غير ضارب، مع امتناع قولك: أنا زيداً مثل ضارب؛ لأنه بمنزلة قولك أنا زيداً لا ضارب. و عن عمر و على رضى اللَّه عنهما أنهما قرءا: و غير الضالين. و قرأ أيوب السختياني: و لا الضألين- بالهمز، كما قرأ عمرو بن عبيد: (و لا جأن) و هذه لغة من جدّ في الهرب من التقاء الساكنين. و منها ما حكاه أبو زيد من قولهم: شأبة، و دأبة.
آمين: صوت سمى به الفعل الذي هو استجب، كما أنّ «رويد، و حيهل، و هلم» أصوات سميت بها الأفعال التي هي «أمهل، و أسرع، و أقبل». و عن ابن عباس: سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم عن معنى آمين «2» فقال: «افعل» و فيه لغتان: مدّ ألفه، و قصرها. قال:
وَ يَرْحَمُ اللَّهُ عَبْداً قالَ آمِينَا «3»
(1). قال محمود رحمه اللَّه: «و معنى الغضب من اللَّه تعالى إرادة الانتقام ... الخ» قال أحمد: أدرج في هذا ما يقتضى عنده وجوب وعيد العصاة، و ليس مذهب أهل السنة، بل الأمر عندهم في المؤمن العاصي موكول إلى المشيئة: فمنهم من أراد اللَّه تعالى عقوبته و الانتقام منه فيقع ذلك لا محالة، و منهم من أراد العفو عنه و إثابته فضلا منه تعالى، على أن المغضوب عليهم و الضالين واقعان على الكفار، و وعيدهم واقع لا محالة و مراد، و اللَّه الموفق. أقول: قال الزمخشري رحمه اللَّه: الغضب من اللَّه تعالى إرادة الانتقام من العصاة الخ لا يدل على ما فسره، فان وجوب وعيد العصاة لا يعلم منه.
و الغضب من اللَّه عند أهل السنة و المعتزلة: عبارة عما ذكره الزمخشري رحمه اللَّه، إلا أن عند أهل السنة أن اللَّه تعالى إن شاء عذب صاحب الكبيرة و إن شاء غفر له، و عند المعتزلة وجوب عذابه؛ فعند المعتزلة ظاهر أن الغضب عبارة عن إرادة الانتقام، و عند أهل السنة: إن غفر له فلا غضب، و إن لم يغفر له فغضبه عبارة عما ذكره.
(2). أخرجه الثعلبي من رواية أبى صالح عنه بإسناد و اه
(3).
يا رب إنك ذو من و مغفرة
ببت بعافية ليل المحبينا
الذاكرين الهوى من بعد ما رقدوا
الساقطين على الأيدى المكبينا
يا رب لا تسلبنى حبها أبداً
و يرحم اللَّه عبداً قال آمينا
لقيس بن معاذ الملوح مجنون لبلى العامرية، اشتد وجده بها، فأخذه أبوه إلى الكعبة ليدعو اللَّه عسى أن يشفيه، فأخذ بحلقة بابها و قال ذلك. و الدعاء لليل المحبين مجاز عقلى، و هو في الحقيقة لهم، و بين أن رقادهم ليس على المعتاد بقوله: الساقطين على الأيدى، المكيين على الوجوه حيرة و سكرة، ثم دعا بأن يديم اللَّه حبها، و دعا لمن يؤمن على دعائه بأن يقول: آمين، و هو اسم فعل، أى استجب يا اللَّه هذا الدعاء، و هو بالمد، و يجوز قصره.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 18
و قال:
أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ ما بَيْننَا بُعْدَا «1»
و عن النبي صلى اللَّه عليه و سلم: «لقني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب «2» و قال: إنه كالختم على الكتاب»، و ليس من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف.
و عن الحسن: لا يقولها الإمام لأنه الداعي. و عن أبى حنيفة رحمه اللَّه مثله، و المشهور عنه و عن أصحابه أنه يخفيها. و روى الإخفاء عبد اللَّه بن مغفل و أنس عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم «3» . و عند الشافعي يجهر بها. و عن وائل بن حجر أنّ النبي صلى اللَّه عليه و سلم كان إذا قرأ: و لا الضالين، قال آمين و رفع بها صوته «4» . و عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم «5»
(1).
تباعد عنى فطحل إذ دعوته
أمين فزاد اللَّه ما بيننا بعدا
لجبير كان قد سأل فطحلا الأسدى فأعرض عنه فدعا عليه، و يروى تباعد منى فطحل و أبى، و أمين: بقصر الهمزة على اللغة العربية الأصلية، و أما بالمد فقيل أعجمي؛ لأنه ليس في لغة العرب فاعيل. و قيل: أصله بالقصر فأشبعت همزته: اسم فعل بمعنى استجب، و رتبته بعد ما بعده. قدمه حرصا على طلب الاجابة و وقوع الدعاء مجابا من أول وهلة. و الفاء للسببية عما قبلها، أى: حيثما تباعد عنى فزد ما بيننا بعداً يا اللَّه، و بعداً: يجوز أن يكون تمييزاً، و أن يكون منقولا.
(2). لم أجده هكذا. و في الدعاء لابن أبى شيبة من رواية أبى ميسرة أحد كبار التابعين قال: «أقرأ جبريل عليه السلام النبي صلى اللَّه عليه و سلم فاتحة الكتاب فلما قال وَ لَا الضَّالِّينَ قال له قل: آمين. فقال آمين» قلت و عند أبى داود عن أبى زهير قال «آمين مثل الطابع على الصحيفة» و روى ابن مردويه عن أبى هريرة مرفوعا «آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين» و هو في الدعاء للطبراني
(3). لم أجده عن واحد منهما
(4). أخرجه أبو داود من رواية حجر بن عنبسة عنه. و إسناده حسن
(5). قوله: و عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم: اعلم أن صاحب الكتاب التزم أن يذكر آخر كل سورة حديثا لبيان فضلها، و لكن ليست كلها صحيحة فقد قال الجلال السيوطي: اعلم أن السور التي صحت الأحاديث في فضلها:
الفاتحة، و الزهراوان، و الأنعام، و السبع الطوال مجملا، و الكهف، و يس، و الدخان، و الملك، و الزلزلة، و النصر، و الكافرون. و الإخلاص، و المعوذتان. و ما عداها لم يصح فيه شيء اه. و الزهراوان: البقرة، و آل عمران.