کتابخانه تفاسیر
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 32
[سورة البقرة (2): آية 2]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
فإن قلت: لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟ «1» قلت: وقعت الإشارة إلى الم بعد ما سبق التكلم به و تقضى، و المتقضى في حكم المتباعد، و هذا في كل كلام. يحدّث الرجل بحديث ثم يقول: و ذلك ما لا شك فيه. و يحسب الحاسب ثم يقول: فذلك كذا و كذا.
و قال اللَّه تعالى: (لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) . و قال: (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ، و لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه، وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك و قد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك. و قيل معناه: ذلك الكتاب الذي وعدوا به. فإن قلت: لم ذكر اسم الإشارة- و المشار إليه مؤنث و هو السورة-؟ «2» قلت: لا أخلو من أن أجعل الكتاب خبره أو صفته. فإن جعلته خبره، كان ذلك في معناه و مسماه مسماه، فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير، كما أجرى عليه في التأنيث في قولهم: من كانت أمّك. و إن جعلته صفته، فإنما أشير به إلى الكتاب صريحاً؛ لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له. تقول:
هند ذلك الإنسان، أو ذلك الشخص فعل كذا. و قال الذبياني:
نُبِّئْتُ نُعْمَى على الهِجْرانِ عاتِبةً
سُقْيَا و رُعْيَا لِذَاكَ العاتِبِ الزَّارِى «3»
(1). قال محمود رحمه اللَّه: «إن قلت لم صحت الاشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد ... الخ»؟ قال أحمد رحمه اللَّه:
و لأن البعد هنا باعتبار علو المنزلة، و بعد مرتبة المشار إليه من مرتبة كل كتاب سواه كما يقطعون بثم للاشعار بتراخي المراتب، و قد يكون المعطوف سابقا في الوجود على المعطوف عليه و سيأتى أمثاله.
(2). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: لم ذكر اسم الاشارة ... الخ»؟ قال أحمد رحمه اللَّه: و لو مثل ذلك بقول القائل: حصان كانت دابتك، لكان أقوم و أسلم من الفرق بما في لفظ «من» من الإبهام الصالح للمذكور و المؤنث. و مثل هذا قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) فيمن وصل الكلام فجعل (هُمُ الْعَدُوُّ) جملة في موضع المفعول الثاني للحسبان، و عدل عن أن يقول: هي العدو، نظراً إلى المفعول الثاني الذي هو في المعنى خبر عن الصيحة، فذكر و جمع لما كان المبتدأ هو الخبر في المعنى. و قد وجه الشيخ أبو عمرو قول الزمخشري، و تسمى الجملة بالتاء و الياء عقيب قوله: و الكلام هو المركب من كلمتين- بهذا التوجيه
(3).
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار
ما ذا يحيون من نؤى و أحجار
لقد أرانى و نعمى لاهيين بها
و الدهر و العيش لم يهمم بإمرار
نبئت نعمى على الهجران عاتبة
سقيا و رعيا لذاك العاتب الزاري
للنابغة الذبياني. و العوج: عطف رأس البعير بالزمام. و نعم: اسم محبوبته. و الدمنة: ما تلبد من البعر و الرماد و القمامة، و المراد مطلق الآثار. و النؤى: الحاجز حول الخباء لئلا يدخله الماء. و المراد بالأحجار: الأثافى التي تنصب عليها القدور، أو بقية الجدران، و هم بالشيء: أراده، و أصله الإدغام، و فكه هنا لغة، أى لم يهم كل منهما.
و الإمرار: صيرورة الشيء مرا، و الاحلاء: صيرورته حلوا، و جعل الطعم مراً، و جعله حلواً، و يروى زارية بدل عاتبة. و الزاري: العائب، يقال: زرى عليه يزرى إذا عاب عليه. و قوله ما ذا تحيون: استشعار للخطأ في الأمر بالتحية و رجوع عنه لأنه لا يجدى شيئا. و «من» بيان لما ذا، و فيه معنى التحقير، و نعمى: عطف على ضمير النصب، و الواو للحال، أى و الحال أن الدهر و العيش لم يتغير كل منهما إلى البؤس، شبههما بما تصح منه الارادة على طريق الكناية، فأسند لهما الهم تخييلا، أو استعار الهم المشارفة و القرب تصريحا، و شبههما بالمطعوم فأثبت لهما الإمرار، أو استعاره لتكدرهما و نغصهما بجامع كراهية النفس لكل. و على الهجران: أى مع هجرانها، أو لأحل هجرانى لها. و سقيا، و رعيا: منصوبان على المصدرية، أى سقاها اللَّه و رعاها. و ذلك إشارة إلى الإنسان أو الشخص و هي المراد، و وصفها بما للذكر تعظيما لها و تفخيما لشأنها.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 33
فإن قلت: أخبرنى عن تأليف ذلِكَ الْكِتابُ مع (الم) . قلت: إن جعلت (الم) اسما للسورة ففي التأليف وجوه: أن يكون (الم) مبتدأ، و (ذلِكَ) . مبتدأ ثانيا، و (الْكِتابُ) خبره، و الجملة خبر المبتدأ الأوّل. و معناه: أنّ ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، و أنه الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كما تقول: هو الرجل، أى الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال. و كما قال:
هُمّ الْقَوْمُ كلُّ الْقَوْمِ يا أُمَّ خَالِدِ «1»
و أن يكون الكتاب صفة. و معناه: هو ذلك الكتاب الموعود، و أن يكون (الم) خبر مبتدإ محذوف، أى هذه الم، و يكون ذلك خبرا ثانيا أو بدلا، على أن الكتاب صفة، و أن يكون: هذه الم جملة، و ذلك الكتاب جملة أخرى. و إن جعلت الم بمنزلة الصوت، كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب، أى ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل. أو الكتاب صفة و الخبر ما بعده، أو قدّر مبتدأ محذوف، أى هو- يعنى المؤلف من هذه الحروف- ذلك الكتاب. و قرأ عبد اللَّه: الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه. و تأليف هذا ظاهر.
(1).
و إن الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد
للأشهب بن رميلة. و قيل لحريث بن مخفض. و الذي: أصله الذين، فحذفت النون تخفيفاً. و روى: و إن الألى، و هو بمعنى الذين، و هم المذكورون في أول الأبيات و هو:
ألم تر أنى بعد عمرو و مالك
و عروة و ابن الهول لست بخالد
و حانت: أتى حين هلاكها، و هو كناية عن الهلاك. و يقال: حان حينا: هلك، و أحانه اللَّه: أهلكه؛ فهو حقيقة. و فلج- بالفتح- اسم موضع بطريق البصرة، و دماؤهم: نفوسهم. و هم القوم كل القوم: أى هم المختصون بجميع صفات الرجال الحميدة دون غيرهم.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 34
و الريب: مصدر رابنى، إذا حصل فيك الريبة. و حقيقة الريبة: قلق النفس و اضطرابها.
و منه ما روى الحسن بن على قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك «1» فإن الشك ريبة، و إنّ الصدق طمأنينة» أى فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس و لا تستقرّ. و كونه صحيحا صادقا مما تطمئن له و تسكن. و منه: ريب الزمان، و هو ما يقلق النفوس و يشخص بالقلوب من نوائبه. و منه أنه مر بظبي حاقف «2» فقال:
«لا يربه أحد بشيء «3» . فإن قلت: كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق؟ و كم من مرتاب فيه؟ قلت: ما نفى أنّ أحدا لا يرتاب فيه «4» و إنما المنفي كونه متعلقا للريب و مظنة له؛ لأنه من وضوح الدلالة و سطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى:
(وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، فما أبعد وجود الريب منهم؟ و إنما عرفهم الطريق إلى مزيل الريب، و هو أن يحزروا أنفسهم و يروزوا قواهم في البلاغة، هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها؟ فيتحققوا عند عجزهم أن ليس فيه مجال للشبهة و لا مدخل للريبة. فإن قلت: فهلا قدّم الظرف على الريب، كما قدّم على الغول في قوله تعالى:
(لا فِيها غَوْلٌ) ؟ قلت: لأنّ القصد في إيلاء الريب حرف النفي، نفى الريب عنه، و إثبات أنه حق و صدق لا باطل و كذب، كما كان المشركون يدّعونه، و لو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد، و هو أنّ كتابا آخر فيه الريب لا فيه، كما قصد في قوله: (لا فِيها غَوْلٌ) تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها
(1). أخرجه الترمذي في آخر الطب، و الحاكم في الأحكام و في البيوع. و الطبراني و البزار. و رواه البيهقي في الشعب بلفظ «فان الشر ريبة و الخير طمأنينة»
(2). قوله «أنه مر بظبي حاقف» لعله: أنه صلى اللَّه عليه و سلم الخ. و في الصحاح أنه عليه السلام مر بظبي حاتف في ظل شجرة، و هو الذي انحنى و تثنى في نومه اه (ع)
(3). أخرجه في الموطأ. و النسائي في الحج. و ابن حبان من رواية عمر بن سلمة الضمري عن البهرى: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم خرج يريد مكة و هو محرم، حتى إذا كان بالاثاية بين الرويثة و العرج، إذا ظبى حاتف في ظل و فيه سهم. فأمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزوه. و لإسحاق في مسنده: فقال لبعض القوم: «كن حتى يمر الناس و لا يريبه أحد بشيء» اه. البهرى وقع في مسند أبى يعلى أن اسمه مخول، و لفظه: تبعت حبائل لي بالأبواء فوقع فيها ظبى، فأقلت و الحبل في رجله، فخرجت أقفوه فسبقني إليه رجل فاحتضنها، ثم ترافعنا إلى النبي صلى اللَّه عليه و سلم فجعله بيننا نصفين.
(4). قوله «أن أحداً لا يرتاب فيه» لعله أن أحداً يرتاب فيه. و قد يقال المراد ما نفى الريب على معنى أن أحداً لا يرتاب فيه. (ع)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 35
ما في غيرها من هذا العيب و النقيصة: و قرأ أبو الشعثاء: (لا ريب فيه) بالرفع: و الفرق بينها و بين المشهورة، أنّ المشهورة توجب الاستغراق، و هذه تجوّزه. و الوقف على: (فِيهِ) هو المشهور. و عن نافع و عاصم أنهما وقفا على: (لا رَيْبَ) و لا بد للواقف من أن ينوى خبرا.
و نظيره قوله تعالى: (قالُوا لا ضَيْرَ) ، و قول العرب: لا بأس، و هي كثيرة في لسان أهل الحجاز.
و التقدير: لا ريب فيه.
فِيهِ هُدىً الهدى مصدر على فعل، كالسرى و البكى، و هو الدلالة الموصلة إلى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابلته. قال اللَّه تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى)* .
و قال تعالى: (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) . و يقال: مهدى، في موضع المدح كمهتد؛ و لأن اهتدى مطلوع هدى- و لن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله- ألا ترى إلى نحو:
غمه فاغتم، و كسره فانكسر، و أشباه ذلك: فإن قلت: فلم قيل: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ و المتقون مهتدون؟ «1» قلت: هو كقولك للعزيز المكرم: أعزك اللَّه و أكرمك، تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه و استدامته، كقوله: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) . و وجه آخر، و هو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى: متقين، كقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم «من قتل قتيلا فله سلبه» «2» و عن ابن عباس: «إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض و تضل الضالة، و تكتفّ الحاجة» «3» فسمى المشارف للقتل و المرض و الضلال:
(1). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فلم قيل هدى للمتقين و المتقون مهتدون ... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: الهدى يطلق في القرآن على معنيين: أحدهما الإرشاد و إيضاح سبيل الحق. و منه قوله تعالى: (وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) . و على هذا يكون الهدى للضال باعتبار أنه رشد إلى الحق، سواء حصل له الاهتداء أولا.
و الآخر خلق اللَّه تعالى الاهتداء في قلب العبد، و منه: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعاً. و أما قول الزمخشري: إن القرآن لا يكون هدى للمعلوم بقاؤهم على الضلالة، فإنما يستقيم إذا أريد بالهدى خلق الاهتداء في قلوبهم. و أما إذا أريد معناه الأول، فلا يمتنع أن اللَّه تعالى أرشد الخلق أجمعين، و بين للناس ما نزل إليهم، فمنهم من اهتدى، و منهم من حقت عليهم الضلالة. هذا مذهب أهل السنة.
(2). متفق عليه من حديث أبى قتادة. و فيه قصته. و غلط الطيبي فقرأه لأبى داود عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، و الذي فيه أنه قال يوم بدر «من قتل قتيلا فله كذا أو كذا» لم يقل «فله سلبه».
(3). موقوف. عزاه الطيبي لأبى داود وحده مرفوعا و قال: ليس فيه الزيادات، يعنى قوله: فيه يمرض إلى آخره. انتهى. و الحديث بتمامه عند ابن ماجة، و أحمد و إسحاق في مسنديهما مرفوعا، و فيه أبو إسرائيل المكي، و هو صدوق سيئ الحفظ.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 36
قتيلا و مريضاً و ضالا. و منه قوله تعالى: (وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ، أى صائراً إلى الفجور و الكفر. فإن قلت: فهلا قيل هدى للضالين؟ قلت: لأن الضالين فريقان: فريق علم بقاؤهم على الضلالة و هم المطبوع على قلوبهم، و فريق علم أنّ مصيرهم إلى الهدى؛ فلا يكون هدى للفريق الباقين على الضلالة، فبقى أن يكون هدى لهؤلاء، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل: هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال، فاختصر الكلام باجرائه على الطريقة التي ذكرنا، فقيل: هدى للمتقين. و أيضاً فقد جعل ذلك سلما إلى تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين و سنام القرآن و أول المثاني، بذكر أولياء اللَّه و المرتضين من عباده.
و المتقى في اللغة اسم فاعل، من قولهم: وقاه فاتقى. و الوقاية: فرط الصيانة. و منه: فرس واق، و هذه الدابة تقى من وجاها، إذا أصابه ضلع «1» من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. و هو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. و اختلف في الصغائر «2» و قيل الصحيح أنه لا يتناولها، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر. و قيل: يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال، و المتقى لا يطلق إلا عن خبرة، كما لا يجوز إطلاق العدل إلا على المختبر.
و محل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الرفع، لأنه خبر مبتدإ محذوف، أو خبر مع (لا رَيْبَ فِيهِ) لذلك، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدّم خبراً عنه. و يجوز أن ينصب على الحال، و العامل فيه معنى الإشارة أو الظرف. و الذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً، و أن يقال إن قوله: (الم) جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. و (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة ثانية. و (لا رَيْبَ فِيهِ) ثالثة. و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) رابعة.
(1). قوله «من وجاها إذا أصابه ضلع» في الصحاح: الوجي: الوجع في الحافر. و الضلع: الميل و الاعوجاج:
و الظلع: غمز في مشية البعير. (ع)
(2). قال محمود رحمه اللَّه: «و اختلف في الصغائر ... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: و من تمنى القدرية على اللَّه تعالى اعتقادهم أن الصغائر ممحوة عنهم ما اجتنبوا الكبائر، و أنه يجب أن يعفو اللَّه عنها لمجتنب الكبائر، كما يجب عندهم أن لا يعفو عن مرتكب الكبائر، و هذا هو الخطأ الصراح، و المحادة لآيات اللَّه البينات و سنن رسوله صلى اللَّه عليه و سلم الصحاح. و الحق أن غفران الصغائر- و إن اجتنبت الكبائر- موكول إلى المشيئة، كما أن غفران الكبائر موكول إليها أيضا. و من لا يعتقد ذلك و هم القدرية يضطرون إلى الوقوف عند قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فانه ناطق بالمؤاخذة بالصغائر. و يتحيرون عند قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) فانه مصرح بمغفرة الكبائر. أما أهل السنة فقد ألفوا بين هاتين الآيتين بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)* فان التقييد بالمشيئة في هذه يقضى على الآيتين المطلقتين.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 37
و قد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة و موجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، و ذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، و هلم جراً إلى الثالثة و الرابعة. بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدّى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريراً لجهة التحدي، و شدّاً من أعضاده. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة و تسجيلا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق و اليقين، و لا نقص أنقص مما للباطل و الشبهة. و قيل لبعض العلماء:
فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحا، و في شبهة تتضاءل افتضاحا. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرّر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، و حقا لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه. ثم لم تخل كل واحدة من الأربع، بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، و نظمت هذا النظم السرى، من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف و الرمز إلى الغرض بألطف وجه و أرشقه. و في الثانية ما في التعريف من الفخامة. و في الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف. و في الرابعة الحذف. و وضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» و إيراده منكراً. و الإيجاز في ذكر المتقين.
زادنا اللَّه اطلاعا على أسرار كلامه، و تبيينا لنكت تنزيله، و توفيقاً للعمل بما فيه.
[سورة البقرة (2): آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو مدح منصوب، أو مرفوع بتقدير: أعنى الذين يؤمنون، أو هم الذين يؤمنون. و إما مقتطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب (أُولئِكَ عَلى هُدىً) . فإذا كان موصولا، كان الوقف على المتقين حسناً غير تامّ. و إذا كان مقتطعاً، كان وقفاً تاما. فإن قلت: ما هذه الصفة، أ واردة بيانا و كشفا للمتقين؟
أم مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها؟ أم جاءت على سبيل المدح و الثناء كصفات اللَّه الجارية عليه تمجيداً؟ قلت: يحتمل أن ترد على طريق البيان و الكشف لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات و ترك السيئات. أمّا الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات و منصبها، و ذكر الصلاة و الصدقة؛ لأنّ هاتين أُمّا العبادات البدنية و المالية، و هما العيار على غيرهما. ألم تر كيف سمى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم الصلاة عماد الدين، و جعل الفاصل بين الإسلام و الكفر ترك الصلاة؟ و سمى الزكاة قنطرة
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص: 38
الإسلام؟ «1» و قال اللَّه تعالى: (وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) . فلما كانتا بهذه المثابة كان من شأنهما استجرار سائر العبادات و استتباعها. و من ثم اختصر الكلام اختصاراً، بأن استغنى عن عدّ الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها، و الذي إذا وجد لم تتوقف أخواته أن تقترن به، مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين. و أما الترك فكذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ) ؟ و يحتمل أن لا تكون بيانا للمتقين، و تكون صفة برأسها دالة على فعل الطاعات، و يراد بالمتقين الذين يجتنبون المعاصي.
و يحتمل أن تكون مدحا للموصوفين بالتقوى، و تخصيصاً للإيمان بالغيب و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة بالذكر؛ إظهاراً لإنافتها على سائر ما يدخل تحت حقيقة هذا الاسم من الحسنات و الإيمان: إفعال من الأمن. يقال: أمنته و آمنته غيرى. ثم يقال: آمنه إذا صدّقه.
و حقيقته: آمنه التكذيب و المخالفة. و أمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ و أعترف. و أمّا ما حكى أبو زيد عن العرب: ما آمنت أن أجد صحابة- أى ما وثقت- فحقيقته: صرت ذا أمن به، أى ذا سكون و طمأنينة، و كلا الوجهين حسن في (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أى يعترفون به أو يثقون بأنه حق. و يجوز أن لا يكون (بالغيب) صلة للإيمان، و أن يكون في موضع الحال، أى يؤمنون غائبين عن المؤمن به. و حقيقته: ملتبسين بالغيب، كقوله: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ)* ، (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) . و يعضده ما روى «أن أصحاب عبد اللَّه ذكروا أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم «2» و إيمانهم، فقال ابن مسعود: إنّ أمر محمد كان بيناً لمن رآه. و الذي لا إله غيره، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية. فإن قلت: فما المراد بالغيب إن جعلته صلة؟ و إن جعلته حالا؟ قلت: إن جعلته صلة كان بمعنى
(1). أما الحديث الأول، فأخرجه البيهقي في الشعب من طريق عكرمة عن عمر رضى اللَّه عنه في حديث في آخره «و الصلاة عماد الدين» قال: و عكرمة لم يسمع من عمر. قال: و أراه عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما. و له شاهد من حديث على رضى اللَّه عنه بلفظ «الصلاة عماد الإسلام» أخرجه الأصبهانى في الترغيب. و غفل ابن الصلاح في مشكل الوسيط فقال: هذا حديث غير معروف. قلت: و الطيبي عزاه لتخريج الترمذي في حديث معاذ ففيه «و عموده الصلاة»، و لا يخفى بعده.
و أما الحديث الثاني، فرواه مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه بلفظ «بين الرجل و بين الكفر تركه الصلاة».
و أما الحديث الثالث، فرواه إسحاق في مسنده من حديث أبى الدرداء رضى اللَّه عنه به سواء. و فيه الضحاك ابن حمق. و هو ضعيف.