کتابخانه تفاسیر
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 65
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قال ابن عباس، و موسى بن جعفر عن أبيه، و علي بن الحسين، و قتادة، و أبو العالية، و محمد بن يحيى بن حبان: إنها مكية، و يؤيد هذا أن في سورة الحجر وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] و الحجر مكية بإجماع. و في حديث أبي بن كعب أنها السبع المثاني، و السبع الطّول نزلت بعد الحجر بمدد، و لا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، و ما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير الحمد للّه رب العالمين.
و روي عن عطاء بن يسار، و سوادة بن زياد، و الزهري محمد بن مسلم، و عبد اللّه بن عبيد بن عمير أن سورة الحمد مدنية.
و أما أسماؤها فلا خلاف أنها يقال لها فاتحة الكتاب، لأن موضعها يعطي ذلك، و اختلف هل يقال لها أم الكتاب، فكره الحسن بن أبي الحسن ذلك و قال: «أم الكتاب و الحلال و الحرام». قال اللّه تعالى: آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7].
و قال ابن عباس و غيره: «يقال لها أم الكتاب».
و قال البخاري: سميت أم الكتاب لأنها يبدأ بكتابتها في المصحف و بقراءتها في الصلاة، و في تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة رضي اللّه عنه، و اختلف هل يقال لها أم القرآن؟ فكره ذلك ابن سيرين و جوزه جمهور العلماء.
قال يحيى بن يعمر: «أم القرى مكة، و أم خراسان مرو، و أم القرآن سورة الحمد».
و قال الحسن بن أبي الحسن: اسمها أم القرآن. و أما المثاني فقيل سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة و قيل سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخرا لها.
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 66
و أما فضل هذه السورة فقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في حديث أبي بن كعب «إنها لم ينزل في التوراة و لا في الإنجيل و لا في الفرقان مثلها». و يروى أنها تعدل ثلثي القرآن، و هذا العدل إما أن يكون في المعاني، و إما أن يكون تفضيلا من اللّه تعالى لا يعلل، و كذلك يجيء عدل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] و عدل زُلْزِلَتِ [الزلزلة: 1].
و روى أنس بن مالك أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «الحمد للّه رب العالمين فضل ثلاثين حسنة على سائر الكلام». و ورد حديث آخر أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «من قال لا إله إلا اللّه كتبت له عشرون حسنة، و من قال الحمد للّه رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة».
و هذا الحديث هو في الذي يقولها من المؤمنين مؤتجرا طالب ثواب، لأن قوله الحمد للّه في ضمنها التوحيد الذي هو معنى لا إله إلا اللّه، ففي قوله توحيد و حمد، و في قول لا إله إلا اللّه توحيد فقط. فأما إذا أخذا بموضعهما من شرع الملة و محلهما من رفع الكفر و الإشراك فلا إله إلا اللّه أفضل، و الحاكم بذلك قول النبي صلى اللّه عليه و سلم: «أفضل ما قلته أنا و النبيون من قبلي لا إله إلا اللّه».
الْحَمْدُ* معناه الثناء الكامل، و الألف و اللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد، و هو أعم من الشكر، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر، و شكره حمد ما، و الحمد المجرد هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئا، فالحامد من الناس قسمان: الشاكر و المثني بالصفات.
و ذهب الطبري إلى أن الحمد و الشكر بمعنى واحد، و ذلك غير مرضي.
و حكي عن بعض الناس أنه قال: «الشكر ثناء على اللّه بأفعاله و أنعامه، و الحمد ثناء بأوصافه».
قال القاضي أبو محمد: و هذا أصح معنى من أنهما بمعنى واحد. و استدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك الحمد للّه شكرا. و هو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه. لأن قولك شكرا إنما خصصت به الحمد أنه على نعمة من النعم. و أجمع السبعة و جمهور الناس على رفع الدال من «الحمد للّه».
و روي عن سفيان بن عيينة و رؤبة بن العجاج «الحمد للّه» بفتح الدال و هذا على إضمار فعل.
و روي عن الحسن بن أبي الحسن و زيد بن علي: «الحمد للّه»، بكسر الدال على إتباع الأول الثاني.
و روي عن ابن أبي عبلة: «الحمد للّه»، بضم الدال و اللام، على اتباع الثاني و الأول.
قال الطبري: الْحَمْدُ لِلَّهِ* ثناء أثنى به على نفسه، و في ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه، فكأنه قال:
«قولوا الحمد للّه» و على هذا يجيء «قولوا إياك» قال: و هذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، كما قال الشاعر:
و أعلم أنني سأكون رمسا
إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم
فقال القائلون لهم وزير
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 67
المعنى المحفور له وزير، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه، و هذا كثير.
و قرأت طائفة «ربّ» بالنصب.
فقال بعضهم: «هو نصب على المدح».
و قال بعضهم: «هو على النداء، و عليه يجيء إِيَّاكَ .
و الرب في اللغة: المعبود، و السيد المالك، و القائم بالأمور المصلح لما يفسد منها، و الملك،- تأتي اللفظة لهذه المعاني-.
فمما جاء بمعنى المعبود قول الشاعر [غاوي بن عبد العزى]:
أربّ يبول الثعلبان برأسه
لقد هان من بالت عليه الثّعالب
و مما جاء بمعنى السيد المالك قولهم: رب العبيد و المماليك.
و مما جاء بمعنى القائم بالأمور الرئيس فيها قول لبيد:
و أهلكن يوما ربّ كندة و ابنه
و ربّ معدّ بين خبت و عرعر
و مما جاء بمعنى الملك قوله النابغة:
تخبّ إلى النعمان حتّى تناله
فدى لك من ربّ طريفي و تالدي
و من معنى الإصلاح قولهم: أديم مربوب، أي مصلح، قال الشاعر الفرزدق: [البسيط].
كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت
سلاءها في أديم غير مربوب
و من معنى الملك قول صفوان بن أمية لأخيه يوم حنين: «لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن».
و منه قول ابن عباس في شأن عبد اللّه بن الزبير، و عبد الملك بن مروان: «و إن كان لا بد لأن يربني رجل من بني عمي أحبّ إليّ من أن يربني غيرهم». ذكره البخاري في تفسير سورة براءة. و من ذلك قول الشاعر علقمة بن عبدة: [الطويل].
و كنت امرأ أفضت إليك ربابتي
و من قبل ربتني فضعت ربوب
و هذه الاستعمالات قد تتداخل، فالرب على الإطلاق الذي هو رب الأرباب على كل جهة هو اللّه تعالى.
و الْعالَمِينَ* جمع عالم، و هو كل موجود سوى اللّه تعالى، يقال لجملته عالم، و لأجزائه من الإنس و الجن و غير ذلك عالم، و بحسب ذلك يجمع على العالمين، و من حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر حسن جمعها، و لفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه و هو مأخوذ من العلم و العلامة لأنه يدل على موجده، كذا قال الزجاج. و قد تقدم القول في «الرحمن الرحيم».
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 68
و اختلف القراء في قوله تعالى: ملك يوم الدين.
فقرأ عاصم و الكسائي «مالك يوم الدين».
قال الفارسي: «و كذلك قرأها قتادة و الأعمش».
قال مكي: «و روى الزهري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قرأها كذلك بالألف، و كذلك قرأها أبو بكر، و عمر، و عثمان، و علي، و ابن مسعود، و أبي بن كعب، و معاذ بن جبل، و طلحة، و الزبير، رضي اللّه عنهم».
و قرأ بقية السبعة «ملك يوم الدين»، و أبو عمرو منهم يسكن اللام فيقرأ «ملك يوم الدين». هذه رواية عبد الوارث عنه.
و روي عن نافع إشباع الكسرة من الكاف في ملك فيقرأ «ملكي» و هي لغة للعرب ذكرها المهدوي.
و قرأ أبو حيوة «ملك» بفتح الكاف و كسر اللام.
و قرأ ابن السميفع، و عمر بن عبد العزيز، و الأعمش، و أبو صالح السمان، و أبو عبد الملك الشامي «مالك» بفتح الكاف. و هذان على النداء ليكون ذلك توطئة لقوله إِيَّاكَ* .
ورد الطبري على هذا و قال: «إن معنى السورة: قولوا الحمد للّه، و على ذلك يجيء إِيَّاكَ* و اهْدِنَا .
و ذكر أيضا أن من فصيح كلام العرب الخروج من الغيبة إلى الخطاب، و بالعكس، كقول أبي كبير الهذلي: [الكامل].
يا ويح نفسي كان جلدة خالد
و بياض وجهك للتراب الأعفر
و كما قال لبيد: [البسيط].
قامت تشكّى إليّ النفس مجهشة
و قد حملتك سبعا بعد سبعينا
و كقول اللّه تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22].
و قرأ يحيى بن يعمر و الحسن بن أبي الحسن، و علي بن أبي طالب «ملك يوم الدين» على أنه فعل ماض.
و قرأ أبو هريرة «مليك» بالياء و كسر الكاف.
قال أبو علي: و لم يمل أحد من القراء ألف «مالك»، و ذلك جائز، إلا أنه لا يقرأ بما يجوز، إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض، و «الملك» و «الملك» بضم الميم و كسرها و ما تصرف منهما راجع كله إلى ملك بمعنى شد و ضبط، ثم يختص كل تصريف من اللفظة بنوع من المعنى، يدلك على الأصل في ملك قول الشاعر قيس بن الخطيم: [الطويل]:
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 69
و هذا يصف طعنة فأراد شددت، و من ذلك قول أوس بن حجر: [الطويل].
فملّك بالليط تحت قشرها
كغرقىء بيض كنّه القيض من عل
أراد شدد، و هذا يصف صانع قوس ترك من قشرها ما يحفظ قلب القوس، و الذي مفعول و ليس بصفة لليط، و من ذلك قولهم: إملاك المرأة و إملاك فلان إنما هو ربط النكاح، كما قالوا: عقدة النكاح، إذ النكاح موضع شد و ربط، فالمالك للشيء شادّ عليه ضابط له، و كذلك الملك، و احتج من قرأ «ملك» بأن لفظة «ملك» أعم من لفظة «مالك»، إذ كل ملك مالك و ليس كل مالك ملكا. و الملك الذي يدبر المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك. و تتابع المفسرون على سرد هذه الحجة و هي عندي غير لازمة، لأنهم أخذوا اللفظتين مطلقتين لا بنسبة إلى ما هو المملوك و فيه الملك. فأما إذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك فالمالك أبلغ، مثال ذلك أن نقدر مدينة آهلة عظيمة ثم نقدر لها رجلا يملكها أجمع أو رجلا هو ملكها فقط إنما يملك التدبير و الاحكام، فلا شك أن المالك أبلغ تصرفا و أعظم، إذ إليه إجراء قوانين الشرع فيها، كما لكل أحد في ملكه، ثم عنده زيادة التملك، و ملك اللّه تعالى ليوم الدين هو على هذا الحد، فهو مالكه و ملكه، و القراءتان حسنتان.
و حكى أبو علي في حجة من قرأ «مالك يوم الدين» أن أول من قرأ «ملك يوم الدين» مروان بن الحكم و أنه قد يدخل في المالك ما لا يدخل في الملك فيقال مالك الدنانير، و الدراهم، و الطير، و البهائم، و لا يقال ملكها، و مالك في صفة اللّه تعالى يعم ملك أعيان الأشياء و ملك الحكم فيها، و قد قال اللّه تعالى:
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: 26].
قال أبو بكر: «الأخبار الواردة تبطل أن أول من قرأ «ملك يوم الدين» مروان بن الحكم بل القراءة بذلك أوسع و لعل قائل ذلك أراد أنه أول من قرأ في ذلك العصر أو البلد و نحوه».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي اللّه عنه: و في الترمذي أن النبي صلى اللّه عليه و سلم و أبا بكر و عمر رضي اللّه عنهما قرؤوا «ملك يوم الدين» بغير ألف، و فيه أيضا أنهم قرؤوا «مالك يوم الدين» بألف.
قال أبو بكر: و الاختيار عندي «ملك يوم الدين» لأن «الملك» و «الملك» يجمعهما معنى واحد و هو الشد و الرّبط كما قالوا ملكت العجين أي شددته إلى غير ذلك من الأمثلة، و الملك أفخم و أدخل في المدح، و الآية إنما نزلت بالثناء و المدح للّه سبحانه، فالمعنى أنه ملك الملوك في ذلك اليوم، لا ملك لغيره.
قال: و الوجه لمن قرأ «مالك» أن يقول: إن المعنى أن اللّه تعالى يملك ذلك اليوم أن يأتي به كما يملك سائر الأيام لكن خصّصه بالذكر لعظمه في جمعه و حوادثه.
قال أبو الحسن الأخفش: «يقال «ملك» بين الملك، بضم الميم، و مالك بين «الملك» و «الملك» بفتح الميم و كسرها، و زعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى، و روى بعض البغداديين لي في هذا الوادي «ملك» و «ملك» و «ملك» بمعنى واحد».
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 70
قال أبو علي: «حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة ب «ملك» أن اللّه سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله (رب العالمين) فلا فائدة في قراءة من قرأ مالك لأنها تكرير».
قال أبو علي و لا حجة في هذا، لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة، تقدم العام ثم ذكر الخاص، كقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر: 24] ف الْخالِقُ يعم و ذكر الْمُصَوِّرُ لما في ذلك من التنبيه على الصنعة و وجوه الحكمة، و كما قال تعالى: وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4] بعد قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] و الغيب يعم الآخرة و غيرها و لكن ذكرها لعظمها، و التنبيه على وجوب اعتقادها، و الرد على الكفرة الجاحدين لها، و كما قال تعالى: «الرحمن الرحيم» فذكر الرحمن الذي هو عام، و ذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى: وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43].
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: و أيضا: فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك كقوله:
[الطويل] (و من قبل ربتني فضعت ربوب) و غير ذلك من الشواهد، فتنعكس الحجة على من قرأ «مالك يوم الدين» و الجر في «ملك» أو «مالك» على كلتا القراءتين هو على الصفة للاسم المجرور قبله، و الصفات تجري على موصوفيها إذا لم تقطع عنهم لذم أو مدح، و الإضافة إلى يَوْمِ الدِّينِ* في كلتا القراءتين من باب يا سارق الليلة أهل الدار، اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به، ثم وقعت الإضافة إليه على هذا الحد، و ليس هذا كإضافة قوله تعالى: وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الزخرف: 85]، لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة، أي إنه يعلم الساعة و حقيقتها، فليس أمرها على ما الكفار عليه من إنكارها.
قال القاضي أبو محمد رحمه اللّه: و أما على المعنى الذي قاله ابن السراج من أن معنى «مالك يوم الدين» أنه يملك مجيئه و وقوعه، فإن الإضافة إلى اليوم كإضافة المصدر إلى الساعة، لأن اليوم على قوله مفعول به على الحقيقة، و ليس ظرفا اتسع فيه.
قال أبو علي: و من قرأ «مالك يوم الدين» فأضاف اسم الفاعل إلى الظرف المتسع فيه فإنه حذف المفعول من الكلام للدلالة عليه تقديره مالك يوم الدين الاحكام، و مثل هذه الآية في حذف المفعول به مع الظرف قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] فنصب الشَّهْرَ على أنه ظرف و التقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر، و لو كان الشهر مفعولا للزم الصوم للمسافر، لأن شهادته للشهر كشهادة المقيم، و شهد يتعدى إلى مفعول يدل على ذلك قول الشاعر: [الطويل].
و يوما شهدناه سليما و عامرا و الدين لفظ يجيء في كلام العرب على أنحاء، منها الملة. قال اللّه تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] إلى كثير من الشواهد في هذا المعنى، و سمي حظ الرجل منها في أقواله و أعماله و اعتقاداته دينا، فيقال فلان حسن الدين، و منه قول النبي صلى اللّه عليه و سلم في رؤياه في قميص
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 71
عمر الذي رآه يجره: «قيل: فما أولته يا رسول اللّه؟ قال: الدين» و قال علي بن أبي طالب: «محبة العلماء دين يدان به». و من أنحاء اللفظة الدين بمعنى العادة. فمنه قول العرب في الريح: «عادت هيف لأديانها».
و منه قول امرئ القيس: [الطويل] كدينك من أمّ الحويرث قبلها و منه قول الشاعر: [المثقب العبدي] [الوافر]:
أ هذا دينه أبدا و ديني إلى غير ذلك من الشواهد، يقال دين و دينة أي عادة، و من أنحاء اللفظة: الدين سيرة الملك و ملكته، و منه قول زهير: [البسيط].
لئن حللت بجوّ في بني أسد
في دين عمرو و حالت بيننا فدك
أراد في موضع طاعة عمرو و سيرته، و هذه الأنحاء الثلاثة لا يفسر بها قوله ملك يوم الدين. و من أنحاء اللفظة الدين الجزاء، فمن ذلك قول الفند الزماني: [شهل بن شيبان] [الهزج].
و لم يبق سوى العدوا
ن دنّاهم كما دانوا
أي جازيناهم. و منه قول كعب بن جعيل: [المتقارب].
إذا ما رمونا رميناهم
و دناهم مثل ما يقرضونا
و منه قول الآخر:
و اعلم يقينا أنّ ملكك زائل
و اعلم بأنّ كما تدين تدان
و هذا النحو من المعنى هو الذي يصلح لتفسير قوله تعالى: ملك يوم الدين أي يوم الجزاء على الأعمال و الحساب بها، كذلك قال ابن عباس، و ابن مسعود، و ابن جريج، و قتادة و غيرهم.
قال أبو علي: يدل على ذلك قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غافر: 17]، و الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28]. و حكى أهل اللغة: دنته بفعله دينا بفتح الدال و دينا بكسرها جزيته، و قيل الدين المصدر و الدين بكسر الاسم.
و قال مجاهد: ملك يوم الدين أي يوم الحساب، مدينين محاسبين و هذا عندي يرجع إلى معنى الجزاء. و من أنحاء اللفظة الدين الذل، و المدين العبد، و المدينة الأمة، و منه قول الأخطل:
ربت و ربا في حجرها ابن مدينة
تراه على مسحاته يتركّل
أي ابن أمة، و قيل بل أراد ابن مدينة من المدن، الميم أصيلة، و نسبه إليها كما يقال ابن ماء و غيره.
و هذا البيت في صفة كرمة فأراد أن أهل المدن أعلم بفلاحة الكرم من أهل بادية العرب. و من أنحاء اللفظة الدين السياسة، و الديان السائس، و منه قول ذي الأصبع الحدثان بن الحارث: [البسيط].
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب