کتابخانه تفاسیر
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 72
و من أنحاء اللفظة الدين الحال.
قال النضر بن شميل: «سألت أعرابيا عن شيء فقال لي لو لقيتني على دين غير هذه لأخبرتك». و من أنحاء اللفظة الدين الداء، عن اللحياني و أنشد: [البسيط] ما دين قلبك من سلمى و قد دينا قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي اللّه عنه: أما هذا الشاهد فقد يتأول على غير هذا النحو، فلم يبق إلا قول اللحياني.
و قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ .
نطق المؤمن به إقرار بالربوبية و تذلل و تحقيق لعبادة اللّه، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام و غير ذلك، و قدم المفعول على الفعل اهتماما، و شأن العرب تقديم الأهم.
و يذكر أن أعرابيا سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له السابّ: «إياك أعني» فقال الآخر:
«و عنك أعرض» فقدّما الأهم.
و قرأ الفضل الرقاشي: «أياك» بفتح الهمزة، و هي لغة مشهورة و قرأ عمرو بن فائد: «إياك» بكسر الهمزة و تخفيف الياء، و ذاك أنه كره تضعيف الياء لثقلها و كون الكسرة قبلها، و هذا كتخفيف «رب» و «إن» و قرأ أبو السوار الغنوي: «هيّاك نعبد و هيّاك نستعين» بالهاء، و هي لغة. و اختلف النحويون في إِيَّاكَ* فقال الخليل: إيّا اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف، و حكي عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه و ايا الشواب. و قال المبرد: إيّا اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، و حكى ابن كيسان عن بعض الكوفيين أنّ إِيَّاكَ* بكماله اسم مضمر، و لا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره، و حكي عن بعضهم أنه قال: الكاف و الهاء و الياء هي الاسم المضمر، لكنها لا تقوم بأنفسها و لا تكون إلا متصلات، فإذا تقدمت الأفعال جعل «إيّا» عمادا لها. فيقال «إياك» و «إياه» و «إيّاي»، و إذا تأخرت اتصلت بالأفعال و استغني عن «ايا». و حكي عن بعضهم أن أيا اسم مبهم يكنى به عن المنصوب، و زيدت الكاف و الياء و الهاء تفرقة بين المخاطب و الغائب و المتكلم، و لا موضع لها من الإعراب فهي كالكاف في ذلك و في أرايتك زيدا ما فعل.
و نَعْبُدُ معناه نقيم الشرع و الأوامر مع تذلل و استكانة، و الطريق المذلل يقال له معبد، و كذلك البعير. و قال طرفة: [الطويل].
تباري عتاق الناجيات و أتبعت
وظيفا وظيفا فوق مور معبد
و تكررت إِيَّاكَ* بحسب اختلاف الفعلين، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد و اهتمام.
و نَسْتَعِينُ معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، و هذا كله تبرؤ من الأصنام. و قرأ الأعمش و ابن وثاب و النخعي: «و نستعين» بكسر النون، و هي لغة لبعض قريش في النون و التاء و الهمزة و لا يقولونها في ياء الغائب و إنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو فيما يأتي من الثلاثي على فعل يفعل
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 73
بكسر العين في الماضي و فتحها في المستقبل نحو علم و شرب، و كذلك فيما جاء معتل العين نحو خال يخال، فإنهم يقولون تخال و أخال.
و نَسْتَعِينُ أصله نستعون نقلت حركة الواو إلى العين و قلبت ياء لانكسار ما قبلها، و المصدر استعانة أصله استعوانا نقلت حركة الواو إلى العين فلما انفتح ما قبلها و هي في نية الحركة انقلبت ألفا، فوجب حذف أحد الألفين الساكنين، فقيل حذفت الأولى لأن الثانية مجلوبة لمعنى، فهي أولى بالبقاء، و قيل حذفت الثانية لأن الأولى أصلية فهي أولى بالبقاء، ثم لزمت الهاء عوضا من المحذوف، و قوله تعالى:
اهْدِنَا* رغبة لأنها من المربوب إلى الرب، و هكذا صيغة الأمر كلها، فإذا كانت من الأعلى فهي أمر، و الهداية في اللغة الإرشاد، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد، و كلها إذا تؤملت رجعت إلى الإرشاد، فالهدى يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، و منه قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ* [البقرة: 5] و قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: 25] و قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص:
56] و قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: 125].
قال أبو المعالي: فهذه آية لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان في القلب، و هو محض الإرشاد.
قال القاضي أبو محمد رحمه اللّه: و قد جاء الهدى بمعنى الدعاء، من ذلك قوله تعالى: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7] أي داع و قوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] و هذا أيضا يبين فيه الإرشاد، لأنه ابتداء إرشاد، أجاب المدعو أو لم يجب، و قد جاء الهدى بمعنى الإلهام، من ذلك قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 5].
قال المفسرون: معناه «ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها». و هذا أيضا بين فيه معنى الإرشاد، و قد جاء الهدى بمعنى البيان، من ذلك قوله تعالى: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: 17].
قال المفسرون: «معناه بينا لهم». قال أبو المعالي: معناه دعوناهم و من ذلك قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [الليل: 12] أي علينا أن نبين، و في هذا كله معنى الإرشاد.
قال أبو المعالي: و قد ترد الهداية و المراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان و الطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد:
5] و منه قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] معناه فاسلكوهم إليها.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي اللّه عنه: و هذه الهداية بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، و هي ضد الضلال و هي الواقعة في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ على صحيح التأويل، و ذلك بين من لفظ الصِّراطَ ، و الهدى لفظ مؤنث، و قال اللحياني: «هو مذكر» قال ابن سيده: «و الهدى اسم من أسماء النهار» قال ابن مقبل: [البسيط].
حتى استبنت الهدى و البيد هاجمة
يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 74
و الصِّراطَ* في اللغة الطريق الواضح فمن ذلك قول جرير: [الوافر].
أمير المؤمنين على صراط
إذا اعوج الموارد مستقيم
و منه قول الآخر: فصد عن نهج الصراط الواضح.
و حكى النقاش: «الصراط الطريق بلغة الروم».
قال القاضي أبو محمد: و هذا ضعيف جدا. و اختلف القراء في الصِّراطَ فقرأ ابن كثير و جماعة من العلماء: «السراط» بالسين، و هذا هو أصل اللفظة.
قال الفارسي: «و رويت عن ابن كثير بالصاد». و قرأ باقي السبعة غير حمزة بصاد خالصة و هذا بدل السين بالصاد لتناسبها مع الطاء في الاطباق فيحسنان في السمع، و حكاها سيبويه لغة.
قال أبو علي: روي عن أبي عمرو السين و الصاد، و المضارعة بين الصاد و الزاي، رواه عنه العريان بن أبي سفيان. و روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة.
قال بعض اللغويين: «ما حكاه الأصمعي من هذه القراءة خطأ منه، إنما سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة فتوهمها زايا، و لم يكن الأصمعي نحويا فيؤمن على هذا».
قال القاضي أبو محمد: و حكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد. و قرأ حمزة بين الصاد و الزاي. و روي أيضا عنه أنه إنما يلتزم ذلك في المعرفة دون النكرة.
قال ابن مجاهد: «و هذه القراءة تكلف حرف بين حرفين، و ذلك أصعب على اللسان، و ليس بحرف يبنى عليه الكلام و لا هو من حروف المعجم، و لست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب، إلا أن الصاد أفصح و أوسع».
و قرأ الحسن و الضحاك: «اهدنا صراطا مستقيما» دون تعريف و قرأ جعفر بن محمد الصادق: «اهدنا صراط المستقيم» بالإضافة و قرأ ثابت البناني: «بصرنا الصراط». و اختلف المفسرون في المعنى الذي استعير له الصِّراطَ في هذا الموضع و ما المراد به، فقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ هنا القرآن» و قال جابر: «هو الإسلام» يعني الحنيفية. و قال: سعته ما بين السماء و الأرض. و قال محمد بن الحنفية: «هو دين اللّه الذي لا يقبل من العباد غيره» و قال أبو العالية: «هو رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و صاحباه أبو بكر و عمر». و ذكر ذلك للحسن بن أبي الحسن، فقال: صدق أبو العالية و نصح.
قال القاضي أبو محمد: و يجتمع من هذه الأقوال كلها أن الدعوة إنما هي في أن يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيين، و الصديقين، و الشهداء، و الصالحين في معتقداته، و في التزامه لأحكام شرعه، و ذلك هو مقتضى القرآن و الإسلام، و هو حال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و صاحبيه، و هذا الدعاء إنما أمر به المؤمنون و عندهم المعتقدات و عند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قولهم اهْدِنَا فيما هو حاصل عندهم طلب التثبيت و الدوام، و فيما ليس بحاصل إما من جهة الجهل به أو التقصير في المحافظة عليه طلب الإرشاد إليه. و أقول إن كل داع به فإنما يريد الصِّراطَ بكماله في أقواله و أفعاله و معتقداته، فيحسن على هذا أن يدعو في الصراط على الكمال من عنده بعضه و لا يتجه أن يراد ب اهْدِنَا في
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 75
هذه الآية اخلق الإيمان في قلوبنا، لأنها هداية مقيدة إلى صراط و لا أن يراد بها ادعنا، و سائر وجوه الهداية يتجه، و الصِّراطَ نصب على المفعول الثاني، و الْمُسْتَقِيمَ الذي لا عوج فيه و لا انحراف، و المراد أنه استقام على الحق و إلى غاية الفلاح، و دخول الجنة، و إعلال مستقيم أن أصله مستقوم نقلت الحركة إلى القاف و انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، و صراط الذين بدل من الأول.
و قرأ عمر بن الخطاب، و ابن الزبير: «صراط من أنعمت عليهم».
و الَّذِينَ* جمع الذي، و أصله «لذ»، حذفت منه الياء للتنوين كما تحذف من عم، و قاض، فلما دخلته الألف و اللام ثبتت الياء. و «الذي» اسم مبهم ناقص محتاج إلى صلة و عائد، و هو مبني في إفراده و جمعه معرب في تثنيته. و من العرب من يعرب جمعه، فيقول في الرفع اللذون، و كتب الذي بلام واحدة في الإفراد و الجمع تخفيفا لكثرة الاستعمال، و اختلف الناس في المشار إليهم بأنه أنعم عليهم.
فقال ابن عباس و جمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، و انتزعوا ذلك من قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً، وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 66- 69] فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، و هو المطلوب في آية الحمد.
و قال ابن عباس أيضا: «المنعم عليهم هم المؤمنون».
و قال الحسن بن أبي الحسن: «المنعم عليهم أصحاب محمد صلى اللّه عليه و سلم».
و حكى مكي و غيره عن فرقة من المفسرين أن المنعم عليهم مؤمنو بني إسرائيل، بدليل قوله تعالى:
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ* [البقرة: 40، 47، 122].
و قال ابن عباس: «المنعم عليهم أصحاب موسى قبل أن يبدلوا».
قال القاضي أبو محمد: و هذا و الذي قبله سواء.
و قال قتادة بن دعامة: «المنعم عليهم الأنبياء خاصة».
و حكى مكي عن أبي العالية أنه قال: «المنعم عليهم محمد صلى اللّه عليه و سلم و أبو بكر و عمر».
قال القاضي أبو محمد رحمه اللّه: و قد تقدم ما حكاه عنه الطبري من أنه فسر الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بذلك، و على ما حكى مكي ينتقض الأول و يكون الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* طريق محمد صلى اللّه عليه و سلم و أبي بكر و عمر رضي اللّه عنهما. و هذا أقوى في المعنى، لأن تسمية أشخاصهم طريقا تجوز، و اختلف القراء في الهاء من عَلَيْهِمْ ، فقرأ حمزة «عليهم» بضم الهاء و إسكان الميم، و كذلك لديهم و إليهم. قرأ الباقون في جميعها بكسر الهاء و اختلفوا في الميم.
فروي عن نافع التخيير بين ضمها و سكونها. و روي عنه أنه كان لا يعيب ضم الميم، فدل ذلك على أن قراءته كانت بالإسكان.
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 76
و كان عبد اللّه بن كثير يصل الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت فيقرأ «عليهم و و قلوبهمو و سمعهمو و أبصارهمو».
و قرأ ورش الهاء مكسورة و الميم موقوفة، إلا أن تلقى الميم ألفا أصلية فيلحق في اللفظ واوا مثل قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ* [البقرة: 6].
و كان أبو عمرو، و عاصم، و ابن عامر، و الكسائي، يكسرون، و يسكنون الميم، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا فكان عاصم، و ابن كثير، و نافع يمضون على كسر الهاء و ضم الميم، مثل قوله تعالى:
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ* [البقرة: 61، آل عمران: 112] و مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ [القصص: 23] و ما أشبه ذلك، و كان أبو عمرو يكسر الهاء و الميم فيقول: عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ* و إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس: 14] و ما أشبه ذلك.
و كان الكسائي يضم الهاء و الميم معا، فيقرأ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ و مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ .
قال أبو بكر أحمد بن موسى: و كل هذا الاختلاف في كسر الهاء و ضمها إنما هو في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا الضم، فإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم يجز في الميم إلا الضم و التسكين في مثل قوله تعالى: منكم و أنتم.
قال القاضي أبو محمد: و حكى صاحب الدلائل قال: «قرأ بعضهم عليهم و بواو و ضمتين، و بعضهم بضمتين و ألغى الواو، و بعضهم بكسرتين و ألحق الياء، و بعضهم بكسرتين و ألغى الياء، و بعضهم بكسر الهاء و ضم الميم».
قال: «و ذلك مروي عن الأئمة و رؤساء اللغة».
قال ابن جني: «حكى أحمد بن موسى عليهم و و عليهم بضم الميم من غير إشباع إلى الواو، و عليهم بسكون الميم».
و قرأ الحسن و عمرو بن فائد «عليهمي».
و قرىء «عليهم» بكسر الميم دون إشباع إلى الياء.
و قرأ الأعرج: «عليهم» بكسر الياء و ضم الميم من غير إشباع.
و هذه القراءات كلها بضم الهاء إلا الأخيرة و بإزاء كل واحدة منها قراءة بكسر الهاء فيجيء في الجميع عشر قراءات.
و قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ .
اختلف القراء في الراء من غير، فقرأ نافع و عاصم و أبو عمرو و ابن عامر و حمزة و الكسائي بخفض الراء، و قرأ ابن كثير بالنصب، و روي عنه الخفض.
قال أبو علي: «الخفض على ضربين: على البدل، من الَّذِينَ ، أو على الصفة للنكرة، كما تقول مررت برجل غيرك، و إنما وقع هنا صفة ل الَّذِينَ لأن الَّذِينَ هنا ليس بمقصود قصدهم، فالكلام بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه».
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 77
قال: «و النصب في الراء على ضربين: على الحال كأنك قلت أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم، أو على الاستثناء كأنك قلت إلا المغضوب عليهم، و يجوز النصب على أعني». و حكي نحو هذا عن الخليل.
و مما يحتج به لمن ينصب أن غَيْرِ نكرة فكره أن يوصف بها المعرفة، و الاختيار الذي لا خفاء به الكسر. و قد روي عن ابن كثير، فأولى القولين ما لم يخرج عن إجماع قراء الأمصار.
قال أبو بكر بن السراج: «و الذي عندي أن غَيْرِ في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة، و هذا شيء فيه نظر و لبس، فليفهم عني ما أقول: اعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة، و إنما تنكرت غير و مثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، و ذلك إذا قلت رأيت غيرك فكل شيء سوى المخاطب فهو غيره، و كذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى لكثرة وجوه المماثلة، فإنما صارا نكرتين من أجل المعنى فأما إذا كان شيء معرفة له ضد واحد و أردت إثباته، و نفي ضده، و علم ذلك السامع فوصفته بغير و أضفت غير إلى ضده فهو معرفة، و ذلك كقولك عليك بالحركة غير السكون، و كذلك قولك غير المغضوب لأن من أنعم عليه لا يعاقبه إلا من غضب عليه، و من لم يغضب عليه فهو الذي أنعم عليه، فمتى كانت غير على هذه الصفة و قصد بها هذا المقصد فهي معرفة».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي اللّه عنه: أبقى أبو بكر الَّذِينَ على حد التعريف، و جوز نعتها ب غَيْرِ لما بينه من تعرف غير في هذا الموضع، و غير أبي بكر وقف مع تنكر غير، و ذهب إلى تقريب الَّذِينَ من النكرة إذ هو اسم شائع لا يختص به معين، و على هذا جوز نعتها بالنكرة، و الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ اليهود، و الضالون النصارى. و هكذا قال ابن مسعود، و ابن عباس، و مجاهد، و السدي، و ابن زيد، و روي ذلك عدي بن حاتم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و ذلك بين من كتاب اللّه تعالى، لأن ذكر غضب اللّه على اليهود متكرر فيه كقوله: وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ* [البقرة: 61، آل عمران: 112]، و كقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ [المائدة: 60] فهؤلاء اليهود، بدلالة قوله تعالى بعده: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة: 65] و الغضب عليهم هو من اللّه تعالى، و غضب اللّه تعالى عبارة عن إظهاره عليهم محنا و عقوبات و ذلة و نحو ذلك، مما يدل على أنه قد أبعدهم عن رحمته بعدا مؤكدا مبالغا فيه، و النصارى كان محققوهم على شرعة قبل ورود شرع محمد صلى اللّه عليه و سلم، فلما ورد ضلوا، و أما غير محققيهم فضلالهم متقرر منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه السلام. و قد قال اللّه تعالى فيهم:
وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77].
قال مكي رحمه اللّه حكاية: دخلت لَا في قوله وَ لَا الضَّالِّينَ لئلا يتوهم أن الضَّالِّينَ عطف على الَّذِينَ .
قال: «و قيل هي مؤكدة بمعنى غير».
و حكى الطبري أن لَا زائدة، و قال: هي هنا على نحو ما هي عليه في قول الراجز:
فما ألوم البيض ألا تسخرا- أراد أن تسخر- و في قول الأحوص: [الطويل]
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص: 78
و يلحينني في اللهو أن لا أحبّه
و للهو داع دائب غير غافل
و قال الطبري: يريد: و يلحينني في اللهو أن أحبه».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي اللّه عنه: و بيت الأحوص إنما معناه إرادة أن لا أحبه ف «لا» فيه متمكنة.
قال الطبري: و منه قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] و إنما جاز أن تكون لا بمعنى الحذف، و لأنها تقدمها الجحد في صدر الكلام، فسيق الكلام الآخر مناسبا للأول، كما قال الشاعر:
ما كان يرضي رسول اللّه فعلهم
و الطيبان أبو بكر و لا عمر
و قرأ عمر بن الخطاب و أبي بن كعب: «غير المغضوب عليهم و غير الضالين».
و روي عنهما في الراء النصب و الخفض في الحرفين.
قال الطبري: «فإن قال قائل أليس الضلال من صفة اليهود، كما أن النصارى عليهم غضب فلم خص كل فريق بذكر شيء مفرد؟ قيل: هم كذلك و لكن و سم اللّه لعباده كل فريق بما قد تكررت العبارة عنه به و فهم به أمره».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: و هذا غير شاف، و القول في ذلك أن أفاعيل اليهود من اعتدائهم، و تعنتهم، و كفرهم مع رؤيتهم الآيات، و قتلهم الأنبياء أمور توجب الغضب في عرفنا، فسمى تعالى ما أحل بهم غضبا، و النصارى لم يقع لهم شيء من ذلك، إنما ضلوا من أول كفرهم دون أن يقع منهم ما يوجب غضبا خاصا بأفاعيلهم، بل هو الذي يعم كل كافر و إن اجتهد، فلهذا تقررت العبارة عن الطائفتين بما ذكر، و ليس في العبارة ب الضَّالِّينَ تعلق للقدرية في أنهم أضلوا أنفسهم لأن هذا إنما هو كقولهم تهدم الجدار و تحركت الشجرة و الهادم و المحرك غيرهما، و كذلك النصارى خلق اللّه الضلال فيهم و ضلوا هم بتكسبهم.
و قرأ أيوب السختياني: «الضألين» بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين، و هي لغة.
حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ: «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جأن» فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة و شأبة.
قال أبو الفتح: و على هذه اللغة قول كثير [الطويل].
إذا ما العوالي بالعبيط احمأرّت و قول الآخر: [الطويل].
و للأرض أما سودها فتجللت
بياضا و أمّا بيضها فادهأمّت