کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 71
و خاصم ملك الموت قائلا: قال الله: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» و قد ذقته، و قال:
«وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» و قد وردت النار، و قال: «وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» - و لست أخرج من الجنة بعد دخولها- فأوحى الله إلى ملك الموت خصمك عبدي فاتركه- و لا تتعرض له فبقي في الجنة.
و رواه في العرائس، عن وهب و في آخره": فهو حي هناك فتارة يعبد الله في السماء الرابعة- و تارة يتنعم في الجنة.
و في مستدرك الحاكم، عن سمرة": كان إدريس أبيض طويلا ضخم عريض الصدر- قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس، و كانت إحدى عينيه أعظم من الأخرى، و كانت في صدره نكتة بيضاء من غير برص- فلما رأى الله من أهل الأرض ما رأى من جورهم- و اعتدائهم في أمر الله، رفعه الله إلى السماء السادسة- فهو حيث يقول: «وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» .
أقول: و لا يرتاب الناقد البصير في أن هذه الروايات إسرائيليات لعبت بها أيدي الوضع، و يدفعها الموازين العلمية و الأصول المسلمة من الدين.
3- و يسمى (ع) بهرمس قال القفطي في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء، في ترجمة إدريس: اختلف الحكماء في مولده و منشئه و عمن أخذ العلم قبل النبوة فقالت فرقة: ولد بمصر و سموه هرمس الهرامسة، و مولده بمنف، و قالوا: هو باليونانية إرميس و عرب بهرمس، و معنى إرميس عطارد، و قال آخرون: اسمه باليونانية طرميس، و هو عند العبرانيين خنوخ و عرب أخنوخ، و سماه الله عز و جل في كتابه العربي المبين إدريس.
و قال هؤلاء: إن معلمه اسمه الغوثاذيمون و قيل: إغثاذيمون المصري، و لم يذكروا من كان هذا الرجل؟ إلا أنهم قالوا: إنه أحد الأنبياء اليونانيين و المصريين، و سموه أيضا أورين الثاني و إدريس عندهم أورين الثالث، و تفسير غوثاذيمون السعيد الجد، و قالوا: خرج هرمس من مصر و جاب الأرض كلها ثم عاد إليها و رفعه الله إليه بها، و ذلك بعد اثنين و ثمانين سنة من عمره.
و قالت فرقة أخرى: إن إدريس ولد ببابل و نشأ بها و أنه أخذ في أول عمره
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 72
بعلم شيث بن آدم و هو جد جد أبيه لأن إدريس ابن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث. قال الشهرستاني: إن إغثاذيمون هو شيث.
و لما كبر إدريس آتاه الله النبوة فنهى المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة آدم و شيث فأطاعه أقلهم و خالفه جلهم فنوى الرحلة عنهم و أمر من أطاعه منهم بذلك فثقل عليهم الرحيل من أوطانهم فقالوا له: و أين نجد إذا رحلنا مثل بابل؟ و بابل بالسريانية النهر و كأنهم عنوا بذلك دجلة و الفرات، فقال: إذا هاجرنا لله رزقنا غيره.
فخرج و خرجوا و ساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم الذي سمي بابليون فرأوا النيل و رأوا واديا خاليا من ساكن فوقف إدريس على النيل و سبح الله و قال لجماعته:
بابليون، و اختلف في تفسيره فقيل: نهر كبير، و قيل: نهر كنهركم، و قيل: نهر مبارك، و قيل: إن يون في السريانية مثل أفعل التي للمبالغة في كلام العرب و كان معناه نهر أكبر فسمي الإقليم عند جميع الأمم بابليون، و سائر فرق الأمم على ذلك إلا العرب فإنهم يسمونه إقليم مصر نسبة إلى مصر بن حام النازل به بعد الطوفان و الله أعلم بكل ذلك.
و أقام إدريس و من معه بمصر يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و طاعة الله عز و جل، و تكلم الناس في أيامه باثنين و سبعين لسانا، و علمه الله عز و جل منطقهم ليعلم كل فرقة منهم بلسانها، و رسم لهم تمدين المدن، و جمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسية المدنية، و قرر لهم قواعدها فبنت كل فرقة من الأمم مدنا في أرضها، و كانت عدة المدن التي أنشئت في زمانه مائة مدينة و ثماني و ثمانين مدينة أصغرها الرها و علمهم العلوم.
و هو أول من استخرج الحكمة و علم النجوم فإن الله عز و جل أفهمه سر الفلك و تركيبه و نقط اجتماع الكواكب فيه و أفهمه عدد السنين و الحساب و لو لا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك.
و أقام للأمم سننا في كل إقليم تليق كل سنة بأهلها، و قسم الأرض أربعة أرباع و جعل على كل ربع ملكا يسوس أمر المعمور من ذلك الربع، و تقدم إلى كل ملك بأن يلزم أهل كل ربع بشريعة سأذكر بعضها، و أسماء الأربعة الملوك الذين ملكوا: الأول
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 73
إيلاوس و تفسيره الرحيم، و الثاني أوس، و الثالث سقلبيوس، و الرابع أوسآمون، و قيل: إيلاوسآمون، و قيل: يسيلوخس و هو آمون الملك انتهى موضع الحاجة.
و هذه أحاديث و أنباء تنتهي إلى ما قبل التاريخ لا يعول عليها ذاك التعويل غير أن بقاء ذكره الحي بين الفلاسفة و أهل العلم جيلا بعد جيل و تعظيمهم له و احترامهم لساحته و إنهاءهم أصول العلم إليه يكشف عن أنه من أقدم أئمة العلم الذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكر الاستدلالي و الإمعان في البحث عن المعارف الإلهية أو هو أولهم (ع).
[سورة مريم (19): الآيات 58 الى 63]
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
(بيان)
قد تقدم في الكلام على غرض السورة أن الذي يستفاد من سياقها بيان أن عبادته تعالى- و هو دين التوحيد- هو دين أهل السعادة و الرشد من الأنبياء و الأولياء، و أن
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 74
التخلف عن سبيلهم بإضاعة الصلاة و اتباع الشهوات اتباع سبيل الغي إلا من تاب و آمن و عمل صالحا.
فالآيات و خاصة الثلاث الأول منها تتضمن حاق غرض السورة و قد أوردته في صورة الاستنباط من القصص المسرودة فيما تقدم من الآيات، و هذا مما تمتاز به هذه السورة من سائر سور القرآن الطوال فإنما يشار في سائر السور إلى أغراضها بالتلويح في مفتتح السورة و مختتمها ببراعة الاستهلال و حسن الختام لا في وسطها.
قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ» إلخ، الإشارة بقوله:
«أُولئِكَ» إلى المذكورين قبل الآية في السورة و هم زكريا و يحيى و مريم و عيسى و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (ع).
و قد تقدمت الإشارة إليه من سياق آيات السورة و أن القصص الموردة فيها أمثلة، و أن هذه الآية و اللتين بعدها نتيجة مستخرجة منها، و لازم ذلك أن يكون قوله:
«أُولئِكَ» مشيرا إلى أصحاب القصص بأعيانهم مبتدأ، و قوله: «الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» صفة له، و قوله: «إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ» إلخ، خبرا له فهذا هو الذي يهدي إليه التدبر في السياق. و لو أخذ قوله: «الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» خبرا لقوله: «أُولئِكَ» فقوله:
«إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ» إلخ، خبر له بعد خبر لكنه لا يلائم غرض السورة تلك الملاءمة.
و قد أخبر الله سبحانه أنه أنعم عليهم و أطلق القول فيهم ففيه دلالة على أنهم قد غشيتهم النعمة الإلهية من غير نقمة و هذا هو معنى السعادة فليست السعادة إلا النعمة من غير نقمة فهؤلاء أهل السعادة و الفلاح بتمام معنى الكلمة و قد أخبر تعالى عنهم أنهم أصحاب الصراط المستقيم المصون سالكه عن الغضب و الضلال إذ قال: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» : الحمد: 7، و هم في أمن و اهتداء لقوله: «الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ» : الأنعام: 82، فأصحاب الصراط المستقيم المصونون عن الغضب و الضلال و لم يلبسوا إيمانهم بظلم في أمن من كل خطر يهدد الإنسان تهديدا فهم سعداء في سلوكهم سبيل الحياة التي سلكوها و السبيل التي سلكوها، هي سبيل السعادة.
و قوله: «مِنَ النَّبِيِّينَ» من فيه للتبعيض و عديله قوله الآتي: «وَ مِمَّنْ هَدَيْنا
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 75
وَ اجْتَبَيْنا» على ما سيأتي توضيحه. و قد جوز المفسرون كون «من» بيانية و أنت خبير بأن ذلك لا يلائم كون «أُولئِكَ» مشيرا إلى المذكورين من قبل، لأن النبيين أعم، اللهم إلا أن يكون إشارة إليهم بما هم أمثلة لأهل السعادة و يكون المعنى أولئك المذكورون و أمثالهم الذين أنعم الله عليهم هم النبيون و من هدينا و اجتبينا.
و قوله: «مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ» في معنى الصفة للنبيين و من فيه للتبعيض أي من النبيين الذين هم بعض ذرية آدم، و ليس بيانا للنبيين لاختلال المعنى بذلك.
و قوله: «وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ» معطوف على قوله: «مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ» و المراد بهم المحمولون في سفينة نوح (ع) و ذريتهم و قد بارك الله عليهم، و هم من ذرية نوح لقوله تعالى: «وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» : الصافات: 77.
و قوله: «وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ» معطوف كسابقه على قوله: «مِنَ النَّبِيِّينَ» .
و قد قسم الله تعالى الذين أنعم عليهم من النبيين على هذه الطوائف الأربع أعني ذرية آدم و من حمله مع نوح و ذرية إبراهيم و ذرية إسرائيل و قد كان ذكر كل سابق يغني عن ذكر لاحقه لكون ذرية إسرائيل من ذرية إبراهيم و الجميع ممن حمل مع نوح و الجميع من ذرية آدم (ع).
و لعل الوجه فيه الإشارة إلى نزول نعمة السعادة و بركة النبوة على نوع الإنسان كرة بعد كرة فقد ذكر ذلك في القرآن الكريم في أربعة مواطن لطوائف أربع:
أحدها لعامة بني آدم حيث قال: «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» : البقرة: 39.
و الثاني ما في قوله تعالى: «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» : هود: 48، و الثالث ما في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» : الحديد: 26، و الرابع ما في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» : الجاثية: 16.
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 76
فهذه مواعد أربع بتخصيص نوع الإنسان بنعمة النبوة و موهبة السعادة، و قد أشير إليها في الآية المبحوث عنها بقوله: «مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ ، و قد ذكر في القصص السابقة من كل من الذراري الأربع كإدريس من ذرية آدم، و إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح، و إسحاق و يعقوب من ذرية إبراهيم، و زكريا و يحيى و عيسى و موسى و هارون و إسماعيل- على ما استظهرنا- من ذرية إسرائيل.
و قوله: «وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا» معطوف على قوله: «مِنَ النَّبِيِّينَ» و هؤلاء غير النبيين من الذين أنعم الله عليهم فإن هذه النعمة غير خاصة بالنبيين و لا منحصرة فيهم بدليل قوله تعالى: «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» : النساء: 69 و قد ذكر الله سبحانه بين من قص قصته مريم (ع) معتنيا بها إذ قال: «وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ» و ليست من النبيين فالمراد بقوله: «وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا» غير النبيين من الصديقين و الشهداء و الصالحين لا محالة، و كانت مريم من الصديقين لقوله تعالى:
«مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ» : المائدة: 75.
و مما تقدم من مقتضى السياق يظهر فساد قول من جعل «وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا» معطوفا على قوله: «مِنَ النَّبِيِّينَ» مع أخذ من للبيان، و أورد عليه بعضهم أيضا بأن ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال: المراد ممن جمعنا له بين النبوة و الهداية و الاجتباء للكرامة و هو خلاف الظاهر. و فيه منع كون ظاهر العطف المغايرة مصداقا و إنما هو المغايرة في الجملة و لو بحسب الوصف و البيان.
و نظيره قول من قال بكونه معطوفا على قوله: «مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ» و من للتبعيض و قد اتضح وجه فساده مما قدمناه.
و نظيره قول من قال: إن قوله: «وَ مِمَّنْ هَدَيْنا» استئناف من غير عطف فقد تم الكلام عند قوله: «إِسْرائِيلَ» ثم ابتدأ فقال: و ممن هدينا و اجتبينا من الأمم قوم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه، و الوجه منسوب إلى أبي مسلم المفسر.
الميزان فى تفسير القرآن، ج14، ص: 77
و فيه أنه تقدير من غير دليل. على أن في ذلك إفساد غرض على ما يشهد به السياق إذ الغرض منها بيان طريقة أولئك العباد المنعم عليهم و أنهم كانوا خاضعين لله خاشعين له و أن أخلافهم أعرضوا عن طريقتهم و أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات و هذا لا يتأتى إلا بكون قوله: «إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ» إلخ خبرا لقوله: «أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» و أخذ قوله: «وَ مِمَّنْ هَدَيْنا» إلى آخر الآية استئنافا مقطوعا عما قبله إفساد للغرض المذكور من رأس.
و قوله: «إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا» السجد جمع ساجد و البكي على فعول جمع باكي و الجملة خبر للذين في صدر الآية و يحتمل أن يكون الخرور سجدا و بكيا كناية عن كمال الخضوع و الخشوع فإن السجدة ممثل لكمال الخضوع و البكاء لكمال الخشوع و الأنسب على هذا أن يكون المراد بالآيات و تلاوتها ذكر مطلق ما يحكي شأنا من شئونه تعالى.
و أما قول القائل إن المراد بتلاوة الآيات قراءة الكتب السماوية مطلقا أو خصوص ما يشتمل على عذاب الكفار و المجرمين، أو أن المراد بالسجود الصلاة أو سجدة التلاوة أو أن المراد بالبكاء البكاء عند استماع الآيات أو تلاوتها فكما ترى.
فمعنى الآية- و الله أعلم- أولئك المنعم عليهم الذين بعضهم من النبيين من ذرية آدم و ممن حملنا مع نوح و من ذرية إبراهيم و إسرائيل و بعضهم من أهل الهداية و الاجتباء خاضعون للرحمن خاشعون إذا ذكر عندهم و تليت آياته عليهم.
و لم يقل: كانوا إذا تتلى عليهم «إلخ» لأن العناية في المقام متعلقه ببيان حال النوع من غير نظر إلى ماضي الزمان و مستقبله بل بتقسيمه إلى سلف صالح و خلف طالح و ثالث تاب و آمن و عمل صالحا و هو ظاهر.
قوله تعالى: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» قالوا: الخلف بسكون اللام البدل السيئ و بفتح اللام ضده و ربما يعكس على ندرة، و ضياع الشيء فساده أو افتقاده بسبب ما كان ينبغي أن يتسلط عليه يقال: