کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 100
و غير خفي أنه خلاف الظاهر و خاصة على تقدير كون « ما » مصدرية و لو كان قوله: « هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ » إلخ. جوابا من الله أو الملائكة لقولهم: « مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا » لأجيب بالفاعل دون الفعل لأنهم سألوا عن فاعل البعث! و ما قيل: إن العدول إليه لتذكير كفرهم و تقريعهم عليه مع تضمنه الإشارة إلى الفاعل هذا. لا يغني طائلا.
و ظهر أيضا أن قوله: « هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ » مبتدأ و خبر، و قيل « هذا » صفة لمرقدنا بتأويل اسم الإشارة إلى المشتق و « ما » مبتدأ خبره محذوف تقديره ما وعد الرحمن حق و هو بعيد عن الفهم.
قوله تعالى: « إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ » اسم كان محذوف و التقدير إن كانت الفعلة أو النفخة إلا نفخة واحدة تفاجئهم أنهم مجموع محضرون لدينا من غير تأخير و مهلة.
و التعبير بقوله: « لَدَيْنا » لأن اليوم يوم الحضور لفصل القضاء عند الله سبحانه.
قوله تعالى: « فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » أي في هذا اليوم يقضي بينهم قضاء عدلا و يحكم حكما حقا فلا تظلم نفس شيئا.
و قوله: « وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » عطف تفسير لقوله: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً » و هو في الحقيقة بيان برهاني لانتفاء الظلم يومئذ لدلالته على أن جزاء أعمال العاملين يومئذ نفس أعمالهم، و لا يتصور مع ذلك ظلم لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه و تحميل العامل عمله وضع الشيء في موضعه ضرورة.
و خطاب الآية من باب تمثيل يوم القيامة و إحضاره و إحضار من فيه بحسب العناية الكلامية، و ليس- كما توهم- حكاية عما سيقال لهم أو يخاطبون به من جانب الله سبحانه أو الملائكة أو المؤمنين يوم القيامة فلا موجب له من جهة السياق.
و المخاطب بقوله: « وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » السعداء و الأشقياء جميعا.
و ما قيل عليه أن الحصر يأبى التعميم فإنه تعالى يوفي المؤمنين أجورهم و يزيدهم من فضله أضعافا مضاعفة مدفوع بأن الحصر في الآية نازل إلى جزاء العمل و أجره و ما
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 101
يدل من الآيات على المزيد كقوله : «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ:» ق:- 35 أمر وراء الجزاء و الأجر خارج عن طور العمل.
و ربما أجيب عنه بأن معنى الآية أن الصالح لا ينقص ثوابه و الطالح لا يزاد عقابه فإن الحكمة تنافيه أما زيادة الثواب و نقض العقاب فلا مانع منه أو أن المراد بقوله:
« لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » أنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير و إن شرا فشر.
و فيه أن مدلول الآية لو كان ما ذكر اندفع الإشكال لكن الشأن في دلالتها على ذلك.
قوله تعالى: « إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ » الشغل الشأن الذي يشغل الإنسان و يصرفه عما عداه، و الفاكه من الفكاهة و هي التحدث بما يسر أو التمتع و التلذذ و لا فعل له من الثلاثي المجرد على ما قيل.
و قيل: « فاكِهُونَ » معناه ذوو فاكهة نحو لابن و تامر و يبعده أن الفاكهة مذكورة في السياق و لا موجب لتكرارها.
و المعنى أن أصحاب الجنة في هذا اليوم في شأن يشغلهم عن كل شيء دونه و هو التنعم في الجنة متمتعون فيها.
قوله تعالى: « هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ » الظلال جمع ظل و قيل جمع ظلة بالضم و هي السترة من الشمس من سقف أو شجر أو غير ذلك، و الأريكة كل ما يتكأ عليه من وسادة أو غيرها.
و المعنى: هم أي أصحاب الجنة و أزواجهم من حلائلهم المؤمنات في الدنيا أو من الحور العين في ظلال أو أستار من الشمس و غيرها متكئون على الأرائك اتكاء الأعزة.
قوله تعالى: « لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ » الفاكهة ما يتفكه به من الثمرات كالتفاح و الأترج و نحوهما، و قوله: « يَدَّعُونَ » من الادعاء بمعنى التمني أي لهم في الجنة فاكهة و لهم فيها ما يتمنونه و يطلبونه.
قوله تعالى: « سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ » سلام مبتدأ محذوف الخبر و التنكير للتفخيم و التقدير سلام عليهم أو لهم سلام، و « قَوْلًا » مفعول مطلق لفعل محذوف و التقدير
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 102
أقوله قولا من رب رحيم.
و الظاهر أن السلام منه تعالى و هو غير سلام الملائكة المذكور في قوله : «وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ:» الرعد:- 24.
قوله تعالى: « وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ » أي و نقول اليوم للمجرمين امتازوا من أصحاب الجنة و هو تمييزهم منهم يوم القيامة و إنجاز لما في قوله في موضع آخر : «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ:» - ص:- 28، و قوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ:» الجاثية:- 21.
قوله تعالى: « أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ » العهد الوصية، و المراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس و يأمر به إذ لا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته، و قد علل النهي عن طاعته بكونه عدوا مبينا لأن العدو لا يريد بعدوه خيرا.
و قيل: المراد بعبادته عبادة الآلهة من دون الله و إنما نسبت إلى الشيطان لكونها بتسويله و تزيينه، و هو تكلف من غير موجب.
و إنما وجه الخطاب إلى المجرمين بعنوان أنهم بنو آدم لأن عداوة الشيطان إنما نشبت أول ما نشبت بآدم حيث أمر أن يسجد له فأبى و استكبر فرجم ثم عاد ذريته بعداوته و أوعدهم كما حكاه الله تعالى إذ قال : «أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا:» الإسراء:- 62.
و أما عهده تعالى و وصيته إلى بني آدم أن لا يطيعوه فهو الذي وصاهم به بلسان رسله و أنبيائه و حذرهم عن اتباعه كقوله تعالى : «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ:» الأعراف:- 27: و قوله : «وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ:» الزخرف:- 62.
و قيل: المراد بالعهد عهده تعالى إليهم في عالم الذر حيث قال: « أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ». و قد عرفت مما قدمناه في تفسير آية الذر أن العهد الذي هناك هو بوجه عين العهد الذي وجه إليهم في الدنيا.
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 103
قوله تعالى: « وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ » عطف تفسير لما سبقه، و قد تقدم كلام في معنى الصراط المستقيم في تفسير قوله: « اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ » من سورة الفاتحة.
قوله تعالى: « وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ » الجبل الجماعة و قيل: الجماعة الكثيرة و الكلام مبني على التوبيخ و العتاب.
قوله تعالى: « هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » أي كان يستمر عليكم الإيعاد بها مرة بعد مرة بلسان الأنبياء و الرسل (ع) و أول ما أوعد الله سبحانه بها حين قال لإبليس : «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ:» الحجر:- 43 و في لفظ الآية إشارة إلى إحضار جهنم يومئذ.
قوله تعالى: « اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ » الصلا . اللزوم و الاتباع، و قيل: مقاساة الحرارة و يظهر بقوله: « بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ » أن الخطاب للكفار و هم المراد بالمجرمين.
قوله تعالى: « الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ » أي يشهد كل منها بما كانوا يكسبونه بواسطته فالأيدي بالمعاصي التي كسبوها بها و الأرجل بالمعاصي الخاصة بها على ما يعطيه السياق.
و من هنا يظهر أن كل عضو ينطق بما يخصه من العمل و أن ذكر الأيدي و الأرجل من باب الأنموذج و لذا ذكر في موضع آخر السمع و البصر و الفؤاد كما في سورة الإسراء الآية 36. و في موضع آخر الجلود كما في سورة حم السجدة الآية 20، و سيأتي بعض ما يتعلق به من الكلام في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.
(بحث روائي)
في تفسير القمي،": في قوله تعالى: « ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً » الآية- قال:
ذلك في آخر الزمان يصاح فيهم صيحة- و هم في أسواقهم يتخاصمون- فيموتون كلهم في مكانهم- لا يرجع أحد منهم إلى منزله و لا يوصي بوصية، و ذلك قوله عز و جل:
« فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ».
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 104
و في المجمع، في الحديث": تقوم الساعة و الرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعان- فما يطويانه حتى تقوم الساعة، و الرجل يرفع أكلته إلى فيه حتى تقوم الساعة، و الرجل يليط «1» حوضه ليسقي ماشيته- فما يسقيها حتى تقوم.:
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور عن أبي هريرة عن النبي ص و كذا عن قتادة عنه (ص) مرسلا .
و في تفسير القمي،": و قوله عز و جل: « وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ » قال:. من القبور: و
في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (ع): في قوله:
تعالى « يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا » فإن القوم كانوا في القبور- فلما قاموا حسبوا أنهم كانوا نياما و قالوا: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا . قالت الملائكة: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ .
و في الكافي، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال: كان أبو ذر رحمه الله يقول في خطبته: و ما بين الموت و البعث- إلا كنومة نمتها ثم استيقظت منها.
و في تفسير القمي،": في قوله تعالى: « إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ » قال يفاكهون النساء و يلاعبونهن.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (ع): في قوله عز و جل: « فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ » الأرائك السرر عليها الحجال.
و فيه،": في قوله عز و جل: « سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ » قال: السلام منه هو الأمان. و قوله: « وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ » قال: إذا جمع الله الخلق يوم القيامة- بقوا قياما على أقدامهم حتى يلجمهم العرق فينادون: يا رب حاسبنا و لو إلى النار- قال:
فيبعث الله رياحا فتضرب بينهم و ينادي مناد: « وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ » فيميز بينهم فصار المجرمون في النار، و من كان في قلبه الإيمان صار إلى الجنة.
أقول: و قد ورد في بعض الروايات أن الله سبحانه يتجلى لهم فيشتغلون به عن كل من سواه ما دام التجلي و المراد به ارتفاع كل حجاب بينهم و بين ربهم دون الرؤية
(1) لاطه أي ملأه.
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 105
البصرية التي لا تتحقق إلا بمقارنة الجهات و الأبعاد فإنها مستحيلة في حقه تعالى.
و في اعتقادات الصدوق، قال (ع): من أصغى إلى ناطق فقد عبده- فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، و إن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (ع) في حديث قال: و ليست تشهد الجوارح على مؤمن- إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب- فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عز و جل- : «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ- وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا:»
الإسراء:- 71.
و في تفسير العياشي، عن مسعد بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال: قال أمير المؤمنين (ع) في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم الله على الأفواه فلا تكلم- و تكلمت الأيدي و شهدت الأرجل- و نطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر يأتي بعضها في ذيل تفسير قوله تعالى : «شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ» الآية: حم السجدة:- 20، و تقدم بعضها في الكلام على قوله : «إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا:» الإسراء:- 36.
[سورة يس (36): الآيات 66 الى 83]