کتابخانه تفاسیر
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 386
(بحث روائي)
في الفقيه، عن أمير المؤمنين (ع) في وصيته لابن الحنفية: قال الله تعالى: « وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ- أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ » يعني بالجلود الفروج.
و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (ع): في الآية:
يعني بالجلود الفروج و الأفخاذ.
و في المجمع، قال الصادق (ع): ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنه يشرف على النار، و يرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة- إن الله تعالى يقول: « وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ » الآية، ثم قال: إن الله عند ظن عبده- إن خيرا فخير و إن شرا فشر.
و في تفسير القمي، بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (ع) في حديث قال رسول الله ص: ليس من عبد يظن بالله عز و جل خيرا- إلا كان عند ظنه به و ذلك قوله عز و جل: « وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ » الآية.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني و عبد بن حميد و مسلم و أبو داود و ابن ماجة و ابن حبان و ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله ص: لا يموتن أحدكم إلا و هو يحسن الظن بالله- فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله عز و جل- قال الله:
« وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ- أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ».
أقول: و قد روي في سبب نزول بعض الآيات السابقة ما لا يلائم سياقها تلك الملاءمة و لذلك أغمضنا عن إيراده.
[سورة فصلت (41): الآيات 26 الى 39]
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 388
(بيان)
رجوع إلى حديث كفرهم بالقرآن المذكور في أول السورة و ذكر كيدهم لإبطال حجته، و في الآيات ذكر الكفار و بعض ما في عقبى ضلالتهم و أهل الاستقامة من المؤمنين و بعض ما لهم في الآخرة و متفرقات أخر.
قوله تعالى: « وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ » اللغو من الأمر ما لا أصل له و من الكلام ما لا معنى له يقال: لغا يلغى و يلغو لغوا أي أتى باللغو، و الإشارة إلى القرآن مع ذكر اسمه دليل على كمال عنايتهم بالقرآن لإعفاء أثره.
و الآية تدل على نهاية عجزهم عن مخاصمة القرآن بإتيان كلام يعادله و يماثله أو إقامة حجة تعارضه حتى أمر بعضهم بعضا أن لا ينصتوا له و يأتوا بلغو الكلام عند قراءة النبي ص القرآن ليختل به قراءته و لا تقرع أسماع الناس آياته فيلغو أثره و هو الغلبة.
قوله تعالى: « فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً » إلخ اللام للقسم، و المراد بالذين كفروا بحسب مورد الآية هم الذين قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن و إن كانت الآية مطلقة بحسب اللفظ.
و قوله: « وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ » قيل: المراد العمل السيئ الذي كانوا يعملون بتجريد أفعل عن معنى التفضيل، و قيل: المراد بيان جزاء ما هو أسوأ أعمالهم و سكت عن الباقي مبالغة في الزجر.
قوله تعالى: « ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ » إلخ « ذلِكَ جَزاءُ » مبتدأ و خبر و « النَّارُ » بدل أو عطف بيان من « ذلِكَ » أو خبر مبتدإ محذوف و التقدير هي النار أو مبتدأ خبره « لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ ».
و قوله: « لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ » أي النار محيطة بهم جميعا و لكل منهم فيها دار
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 389
تخصه خالدا فيها.
و قوله: « جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ » مفعول مطلق لفعل مقدر، و التقدير يجزون جزاء أو للمصدر المتقدم أعني قوله: « ذلِكَ جَزاءُ » نظير قوله : «فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً:» إسراء:- 63.
قوله تعالى: « وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ » محكي قول يقولونه و هم في النار، يسألون الله أن يريهم متبوعيهم من الجن و الإنس ليجعلوهما تحت أقدامهم إذلالا لهما و تشديدا لعذابهما كما يشعر به قولهم ذيلا: « نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ».
قوله تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ » إلخ قال الراغب: الاستقامة تقال في الطريق الذي يكون على خط مستو، و به شبه طريق الحق نحو « اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ». قال: و استقامة الإنسان لزومه المنهج المستقيم نحو قوله: « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ». انتهى. و في الصحاح،: الاستقامة الاعتدال يقال: استقام له الأمر. انتهى.
فالمراد بقوله: « ثُمَّ اسْتَقامُوا لزوم وسط الطريق من غير ميل و انحراف و الثبات على القول الذي قالوه، قال تعالى : «فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ:» التوبة:- 7 و قال : «وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ:» الشورى:- 15 و ما ورد فيها من مختلف التفاسير يرجع إلى ما ذكر.
و الآية و ما يتلوها بيان حسن حال المؤمنين كما كانت الآيات قبلها بيان سوء حال الكافرين.
و قوله: « تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » إخبار عما سيستقبلهم به الملائكة من تقوية قلوبهم و تطييب نفوسهم و البشرى بالكرامة.
فالملائكة يؤمنونهم من الخوف و الحزن، و الخوف إنما يكون من مكروه متوقع كالعذاب الذي يخافونه و الحرمان من الجنة الذي يخشونه، و الحزن إنما يكون من
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 390
مكروه واقع و شر لازم كالسيئات التي يحزنون من اكتسابها و الخيرات التي يحزنون لفوتها عنهم فيطيب الملائكة أنفسهم أنهم في أمن من أن يخافوا شيئا أو يحزنوا لشيء فالذنوب مغفورة لهم و العذاب مصروف عنهم.
ثم يبشرونهم بالجنة الموعودة بقولهم: « وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » و في قولهم: « كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » دلالة على أن تنزلهم بهذه البشرى عليهم إنما هو بعد الحياة الدنيا.
قوله تعالى: « نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ » إلخ من تتمة البشارة، و على هذا فذكر ولايتهم لهم في الحياة الدنيا مع انقضاء وقتها كما تقدم من باب التوطئة و التمهيد إلى ذكر الآخرة للإشارة إلى أن ولاية الآخرة مترتبة على ولاية الدنيا فكأنه قيل نحن أولياؤكم في الآخرة كما كنا- لما كنا- أولياءكم في الحياة الدنيا و سنتولى أمركم بعد هذا كما توليناه قبل.
و كون الملائكة أولياء لهم لا ينافي كونه تعالى هو الولي لأنهم وسائط الرحمة و الكرامة ليس لهم من الأمر شيء، و لعل ذكر ولايتهم لهم في الآية دون ولايته تعالى للمقابلة و المقايسة بين أوليائه تعالى و أعدائه إذ قال في حق أعدائه: « وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ » إلخ و قال في حق أوليائه عن لسان ملائكته: « نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ ».
و بالمقابلة يستفاد أن المراد ولايتهم لهم بالتسديد و التأييد فإن الملائكة المسددين هم المخصوصون بأهل ولاية الله و أما الملائكة الحرس و موكلو الأرزاق و الآجال و غيرهم فمشتركون بين المؤمن و الكافر.
و قيل: الآية من كلام الله دون الملائكة.
و قوله: « وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ » ضمير « فِيها » في الموضعين للآخرة، و أصل الشهوة نزوع النفس بقوة من قواها إلى ما تريده تلك القوة و تلتذ به كشهوة الطعام و الشراب و النكاح، و أصل الادعاء - و هو افتعال من الدعاء- هو الطلب فالجملة الثانية أعني قوله: « وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ » أوسع نطاقا من الأولى أعني قوله: « لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ » فإن الشهوة طلب خاص و مطلق الطلب أعم منها.
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 391
فالآية تبشرهم بأن لهم في الآخرة ما يمكن أن تتعلق به شهواتهم من أكل و شرب و نكاح و غير ذلك بل ما هو أوسع من ذلك و أعلى كعبا و هو أن لهم ما يشاءون فيها كما قال تعالى : «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها : ق- 35.
قوله تعالى: « وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ » الآية اتصال بقوله السابق: « وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ، وَ الْغَوْا فِيهِ » الآية فإنهم كانوا يخاصمون النبي ص كما ينازعون القرآن، و قد ذكر في أول السورة قولهم: « قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ » الآية فأيد سبحانه في هذه الآية نبيه بأن قوله و هو دعوته أحسن القول.
فقوله: « وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ » المراد به النبي ص و إن كان لفظ الآية يعم كل من دعا إلى الله و لما أمكن أن يدعو الداعي إلى الله لغرض فاسد و ليست الدعوة التي هذا شأنها من القول الأحسن قيده بقوله: « وَ عَمِلَ صالِحاً » فإن العمل الصالح يكشف عن نية صالحة غير أن العمل الصالح لا يكشف عن الاعتقاد الحق و الالتزام به، و لا حسن في قول لا يقول به صاحبه و لذا قيده بقوله: « وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ » و المراد بالقول الرأي و الاعتقاد على ما يعطيه السياق.
فإذا تم الإسلام لله و العمل الصالح للإنسان ثم دعا إلى الله كان قوله أحسن القول لأن أحسن القول أحقه و أنفعه و لا قول أحق من كلمة التوحيد و لا أنفع منها و هي الهادية للإنسان إلى حاق سعادته.
قوله تعالى: « لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ » الآية لما ذكر أحسن القول و أنه الدعوة إلى الله و القائم به حقا هو النبي ص التفت إليه ببيان أحسن الطريق إلى الدعوة و أقربها من الغاية المطلوبة منها و هي التأثير في النفوس فخاطبه بقوله:
« لا تَسْتَوِي » إلخ.
فقوله: « لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ » أي الخصلة الحسنة و السيئة من حيث حسن التأثير في النفوس، و « لا » في « لَا السَّيِّئَةُ » زائدة لتأكيد النفي.
و قوله: « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » استئناف في معنى دفع الدخل كأن المخاطب لما سمع قوله: « لا تَسْتَوِي » إلخ قال: فما ذا أصنع؟ فقيل: « ادْفَعْ » إلخ و المعنى
الميزان فى تفسير القرآن، ج17، ص: 392
ادفع بالخصلة التي هي أحسن الخصلة السيئة التي تقابلها و تضادها فادفع بالحق الذي عندك باطلهم لا بباطل آخر و بحلمك جهلهم و بعفوك إساءتهم و هكذا.
و قوله: « فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ » بيان لأثر الدفع بالأحسن و نتيجته و المراد أنك إن دفعت بالتي هي أحسن فاجأك أن عدوك صار كأنه ولي شفيق.
قيل: « الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ » أبلغ من «عدوك» و لذا اختاره عليه مع اختصاره.
ثم عظم الله سبحانه الدفع بالتي هي أحسن و مدحه أحسن التعظيم و أبلغ المدح بقوله: « وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ » أي ذو نصيب وافر من كمال الإنسانية و خصال الخير.
و في الآية مع ذلك دلالة ظاهرة على أن الحظ العظيم إنما يوجد لأهل الصبر خاصة.
قوله تعالى: « وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » النزغ النخس و هو غرز جنب الدابة أو مؤخرها بقضيب و نحوه ليهيج، و « إِمَّا » في « إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ » زائدة و الأصل و إن ينزغنك فاستعذ.
و النازغ هو الشيطان أو تسويله و وسوسته، و الأول هو الأنسب لمقام النبي ص فإنه لا سبيل للشيطان إليه بالوسوسة غير أنه يمكن أن يقلب له الأمور بالوسوسة على المدعوين من أهل الكفر و الجحود فيبالغوا في جحودهم و مشاقتهم و إيذائهم له فلا يؤثر فيهم الدفع بالأحسن و يؤول هذا إلى نزغ من الشيطان بتشديد العداوة في البين كما في قوله : «مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي:» يوسف:- 100، قال تعالى : «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» الآية: الحج:- 52.
و لو حمل على الوجه الثاني فالمتعين حمله على مطلق الدستور تتميما للأمر، و هو بوجه من باب «إياك أعني و اسمعي يا جارة».
و قوله: « فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » العوذ و العياذ بكسر العين و المعاذ و الاستعاذة بمعنى و هو الالتجاء و المعنى فالتجئ بالله من نزغه إنه هو السميع لمسألتك العليم بحالك أو السميع لأقوالكم العليم بأفعالكم.