کتابخانه تفاسیر
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 53
و المالك: من له التّصرّف فيما في حوزته، و الملك: من له التّصرّف في الأمور- في الأمر و النّهي- بالغلبة.
و الدين: الجزاء، و منه:
«كما تدين تدان». «1»
و
عن الباقر عليه السلام: أنه الحساب. «2»
و إضافة اسم الفاعل الى الظّرف لإجرائه مجرى المفعول به توسّعا، و سوّغ وصف المعرفة به قصد معنى المضيّ؛ تنزيلا لمحقّق الوقوع منزلة ما وقع، أو قصد الاستمرار الثّبوتيّ. و المعنى: ملك الأمر كلّه في ذلك اليوم، أو له الملك- بكسر الميم- فيه، فإضافته حقيقيّة، و كذا إضافة «ملك» إذ لا مفعول للصّفة المشبّهة.
و تخصيص اليوم بالإضافة- مع أنه تعالى مالك و ملك لجميع الأشياء في كلّ الأوقات- لتعظيم اليوم، أو لتفرّده تعالى بالملك و الملك فيه؛ لأن ما حصل منهما للبعض في الدنيا بحسب الظاهر يزول و ينفرد سبحانه بهما لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ . «3» و في التّعبير باسم الذّات الدّالّ على استجماع الكمالات، و تعقيبه بتلك الصّفات المنتفية عمّا سواه تعالى، دلالة على انحصار استحقاق الحمد فيه، و قصر العبادة و الاستعانة عليه تعالى، و إرشاد الى المبدأ و المعاد، و تنبيه على أنّ من يحمده النّاس إمّا أن يحمدوه لكماله الذّاتيّ، أو لإنعامه عليهم، أو لرجائهم إحسانه في المستقبل، أو لخوفهم من كمال قهره، فكأنّه تعالى يقول: أيها النّاس إن كنتم تحمدون للكمال الذّاتي؛ فأنا اللّه، أو للإنعام و التّربية؛ فأنا ربّ العالمين، أو للرجاء في المستقبل؛ فأنا الرّحمن الرّحيم، أو للخوف من كمال القهر؛ فأنا مالك
(1) و هو قول أمير المؤمنين عليه السّلام كما ورد في نهج البلاغة (الخطبة: 153).
(2) تفسير التبيان 1: 36 و تفسير مجمع البيان 1: 24.
(3) سورة المؤمن: 40/ 16.
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 54
يوم الدّين.
[5]- إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «إيّا»: ضمير منصوب منفصل، و لواحقه من «الكاف» و «الياء» و «الهاء» حروف لبيان الخطاب و التكلّم و الغيبة لا محل لها من الإعراب ككاف «ذلك»- على أصحّ الأقوال-. «1» و العبادة أعلى مراتب الخضوع و التذلّل؛ و لذا لا يستحقها إلّا المولي لأعظم النّعم- من الوجود و الحياة و توابعها-.
و الاستعانة: طلب المعونة في الفعل، و يراد بها- هنا-: طلب المعونة في كلّ المهمات، و لذا حذف المستعان فيه، أو: في أداء العبادة بوظائفها، بقرينة توسّطها بين «نعبد» و «اهدنا» فحذف اختصارا للقرينة.
و تقديم المفعول، لقصر العبادة و الاستعانة عليه تعالى قصرا حقيقيّا، أو إضافيا إفراديّا، و لتقدّمه تعالى في الوجود، و للتّنبيه على أنّ العابد و المستعين ينبغي أن يكون نظرهما- بالذّات- الى الحقّ سبحانه، ثم منه الى أنفسهما، «2» لا من حيث ذواتهما، بل من حيث انّها ملاحظة له تعالى، ثم الى عبادتهما «3» - و نحوها- لا من حيث صدورها عنهما، «4» بل من حيث إنها وصلة بينهما «5» و بينه تعالى.
و تكرير الضّمير للتنصيص على التّخصيص بالاستعانة، فينتفي احتمال تقدير مفعولها مؤخّرا، و يرتفع توهّم إرادة التخصيص بمجموع الأمرين لا بكل منهما، و لبسط الكلام مع المحبوب كآية: هِيَ عَصايَ . «6» و تقديم العبادة على الاستعانة ليتوافق الفواصل في متلوّ الآخر؛ و لأنّ تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة، و لمناسبة تقديم مطلوبه تعالى من
(1) راجع الأقوال المتعددة الواردة عن كبار النحويين في تفسير مجمع البيان 1: 25.
(2، 3، 4، 5) وردت الكلمة بصيغة الجمع- في المواضع الأربعة- و صححناه نظرا الي السياق.
(6) سورة طه: 20/ 18.
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 55
العباد على مطلوبهم منه، و لأنّ المتكلّم لمّا نسب العبادة الى نفسه كان كالمعتدّ بما يصدر منه فعقّبه «1» ب «إيّاك نستعين»، إيذانا بأنّ العبادة لا تتمّ إلّا بمعونته.
و إيثار صيغة المتكلّم مع الغير على المتكلّم وحده، ليلاحظ القارئ دخول الحفظة أو حاضري صلاة الجماعة، او كلّ موجود وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، «2» و ليؤذن بحقارة نفسه عن عرض العبادة و طلب المعونة منفردا على باب الكبرياء بدون انضمامه إلى جماعة تشاركه في العرض، كما يصنع في عرض الهدايا، و رفع الحوائج إلى الملوك، و ليحترز عن الكذب لو انفرد في ادّعائه: قصر خضوعه التّام و استعانته عليه تعالى، مع خضوعه التّام لأهل الدنيا من الملوك و نحوهم.
و في الجمع يمكن أن يقصد تغليب الخلّص على غيرهم فيصدق، و ليدرج عبادته و حاجته في عبادة المقرّبين و حاجتهم لعلّها تقبل و تجاب ببركتهم.
و العدول من الغيبة الى الخطاب التفات، و يكون بالعكس، و من أحدهما الى التّكلّم و بالعكس، و من عادة العرب العدول من أسلوب الى آخر تفنّنا في الكلام، و تطرية له، و تنشيطا للسّامع، و تختصّ مواقعه بنكت.
و ممّا اختص به هذا الموضع: أنّ الحمد إظهار مزايا المحمود، فالمخاطب به غيره تعالى، فالمناسب له طريق الغيبة.
و أما العبادة و الاستعانة، فينبغي كتمانهما من غير المعبود و المستعان؛ ليكون أقرب الى الإخلاص و أبعد عن الرّياء، فالمناسب له طريق الخطاب.
و منه: التّلويح إلى ما
في حديث: «اعبد اللّه كأنّك تراه» «3»
إذ العبادة الكاملة هي ما يكون العابد حال اشتغاله بها مستغرقا في الحضور، كأنّه مشاهد لجناب معبوده.
(1) في «ج»: فعقّب.
(2) سورة الإسراء: 17/ 44.
(3) عوالي اللآلي 1: 405 الحديث 65.
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 56
و منه التّنبيه على علوّ مرتبة الذّكر، و أنّ العبد بإجراء هذا القدر منه على لسانه صار أهلا للخطاب، فكيف لو لازمه ليلا و نهارا.
و منه الإيماء إلى أنّ من تأدّب و كسر نفسه و رءاها بعيدة عن ساحة القرب حقيق أن تدركه رحمة إلهيّة توصله إلى مقام أهل القرب و الخطاب.
[6]- اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فصل عمّا قبله لكمال الانقطاع؛ لتخالفهما خبرا و إنشاء، أو لكمال الاتّصال لأنّه بيان للمعونة المطلوبة كأنّه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: «اهدنا».
و الهداية: الدّلالة بلطف- أوصلت إلى المطلوب أم لا-، و قيل: الموصلة. «1» و يدفعه فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى . «2» و قيل: إراءة ما يوصل، «3» و يدفعه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «4» و قيل إن تعدّت الى ثاني مفعوليها بنفسها فالموصلة، و لا تسند إلّا اليه تعالى، أو بالحرف فالإراءة و تسند الى النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن، و يدفعه: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «5» و الإسناد إلى غيره تعالى في: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا . «6» ثمّ إنّ أصناف هديته سبحانه- و إن لم يحصرها العدّ- على أربعة أوجه:
الاول: إفاضة القوى و الحواس لجلب النّفع و دفع الضّرر أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى . «7»
(1) ذكره البيضاوي في تفسيره 1: 34.
(2) سورة فصّلت: 41/ 17 و تمامه: «و أمّا ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى علي الهدى».
(3) أشار اليه البيضاوي في تفسيره 1: 35.
(4) سورة القصص: 28/ 56.
(5) سورة البلد: 90/ 10.
(6) سورة مريم: 19/ 43.
(7) سورة طه: 20/ 50.
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 57
الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحقّ و الباطل وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ . «1» الثالث: إرسال الرّسل و إنزال الكتب وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ . «2» الرابع: إزالة الغواشي البدنيّة و إراءة الأشياء كما هي، بالوحي أو الإلهام أو المنام الصّادق، و الاستغراق في ملاحظة جماله و جلاله، و هذا يختصّ به الأنبياء و الأولياء و نحوهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ ، «3» فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ، «4» فإذا تلا هذه الآية غير الواصلين أرادوا بالهداية: المرتبة الرّابعة، و إذا تلاها الواصلون أرادوا: زيادة ما منحوه من الهدى وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً . «5» و الثبات عليه.
عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «اهدنا»: ثبّتنا. «6»
و الصّراط: الجادّة، من: سرط الطّعام، أي ابتلعه، فكأنّه يسترط السّابلة و هم يسترطونه، كما سمّي: لقما كأنّه يلتقمهم. و جمعه: ككتب، و يذكّر و يؤنّث كالسّبيل، و أصله: السين، قلبت صادا لتطابق الطاء في الإطباق، و قد يشمّ الصّاد صوت الزّاء.
و قرأ «ابن كثير» بالأصل «7» و «حمزة» بالإشمام، «8» و الباقون بالصّاد- و هي لغة قريش-. «9» و المراد ب «الصراط المستقيم»: طريق الحقّ أو دين الإسلام، أو كتاب اللّه.
[7]- صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل كلّ من: الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ،
(1) سورة البلد: 90/ 10.
(2) سورة فصّلت: 41/ 17.
(3) سورة الزمر: 39/ 18.
(4) سورة الانعام: 6/ 90.
(5) سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: 47/ 17.
(6) رواه الزمخشري في تفسير الكشّاف: 1/ 67.
(7، 8، 9) الكشف عن وجوه القراءات 1: 34.
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 58
للتأكيد و التّنصيص على أنّ الطريق الذي هو علم في الاستقامة هو طريق المنعم عليهم، حيث جعل كالتّفسير له.
و المراد بهم المذكورون في قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ . «1» و قيل: المراد بهم المسلمون، «2» فإنّ نعمة الإسلام أصل كلّ النّعم. و قيل: الأنبياء. «3» و الإنعام: إيصال النّعمة، و هي- في الأصل- مصدر، بمعنى: الحالة المستلذّة، ككون الإنسان مليّا- مثلا، ثمّ أطلقت على نفس الشّيء المستلذّ، تسمية للسّبب باسم المسبّب.
و نعمه سبحانه- على كثرتها و تعذّر حصرها وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «4» - ثمانية أنواع: إمّا دنيويّ موهبيّ روحاني- كإفاضة العقل-، أو جسمانيّ- كخلق الأعضاء-.
و إمّا دنيويّ كسبيّ روحانيّ- كتحلية النّفس بالأخلاق الزّكية-، أو جسمانيّ- كتزيين البدن بالهيئات المطبوعة.
و إمّا أخرويّ موهبيّ روحانيّ- كغفران ذنب من لم يتب-، أو جسماني كأنهار العسل، و امّا أخرويّ كسبي روحانيّ كغفران ذنب التائب او جسماني كاللذّات الجسمانية المستجلبة بالطّاعات.
و المراد- هنا-: الأربعة الأخيرة، و ما يكون وصلة إليها من الأربعة الاول- لاشتراك المؤمن و الكافر فيما عدا ذلك-. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ .
(1) سورة النساء: 4/ 69.
(2) قاله وكيع كما في تفسير ابن كثير 1: 28.
(3) أورد هذا القول ابن كثير في تفسيره (1: 28) أيضا.
(4) سورة النحل: 16/ 18.
الوجيز فى تفسير القرآن العزيز، ج1، ص: 59
الغضب: ثوران النفس «1» لإرادة الانتقام، فإن أسند إليه تعالى فباعتبار الغاية- كالرّحمة-.
و العدول عن اسناده إليه تعالى إلى صيغة المجهول، و إسناد عديله اليه سبحانه تأسيس لمباني الرّحمة، فكأنّ الغضب صادر من غيره تعالى، و إلّا فالظّاهر: غير الذين غضبت عليهم، و مثله- في التّصريح بالوعد و التّعريض بالوعيد- كثير في الكتاب المجيد، و منه: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ «2» و المقابل: لاعذبنّكم.
و الضّلال: العدول عن الطّريق السّويّ و لو خطأ، و شعبه كثيرة، بشهادة
قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ستفترق امّتي ثلاثا و سبعين فرقة، فرقة ناجية و الباقون في النار». «3»
و تفسير «المغضوب عليهم» باليهود، و «الضّالين» بالنصارى مشهور. «4» و قيل: المراد بهما مطلق الكفار، «5» و قيل: مطلق الموصوفين بالعنوانين من الكفّار و غيرهم. «6» و «غير» بدل كلّ من «الذين»، و المعنى: أنّ المنعم عليهم هم الذين- سلموا من الغضب و الضّلال، فيفيد التأكيد و التنصيص- كما مرّ-، أو صفة له.
و يبتنى- كونها مبيّنة او مقيّدة- على تفاسير «المنعم عليهم»، و «المغضوب عليهم» و «الضّالّين»، و لا يكاد يخفى على المتدبّر.
(1) اي: هيجانها- كما في مجمع البحرين «ثور».
(2) سورة ابراهيم: 14/ 7.
(3) أورده السيوطي في الجامع الصغير 1: 184 و الدر المنثور 1: 136 و غيره، و قد الّف في هذا الحديث عدّة كتب، فينظر.
(4) ذهب اليه كثير من علمائنا و منهم العياشي في تفسيره 1: 22 و الطبرسي في تفسير مجمع البيان 1: 31.
(5) نقل هذا القول الطبرسي في تفسير مجمع البيان 1: 30.