کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل
الجزء الأول
مقدمة
(2) سورة البقرة
الجزء الثاني
(3) سورة آل عمران
(4) سورة النساء
(5) سورة المائدة
(6) سورة الأنعام
الجزء الثالث
(7) سورة الأعراف
(8) سورة الأنفال
(9) سورة براءة
(10) سورة يونس
(11) سورة هود
(12) سورة يوسف
(13) سورة الرعد
(14) سورة إبراهيم
(15) سورة الحجر
(16) سورة النحل
(17) سورة بني إسرائيل
(18) سورة الكهف
الجزء الرابع
(19) سورة مريم
(20) سورة طه
(21) سورة الأنبياء
(22) سورة الحج
(23) سورة المؤمنون
(24) سورة النور
(25) سورة الفرقان
(26) سورة الشعراء
(27) سورة النمل
(28) سورة القصص
(29) سورة العنكبوت
(30) سورة الروم
(31) سورة لقمان
(32) سورة السجدة
(33) سورة الأحزاب
(34) سورة سبأ
(35) سورة الملائكة
(36) سورة يس
الجزء الخامس
(37) سورة الصافات
(38) سورة ص
(39) سورة الزمر
(40) سورة المؤمن
(41) سورة فصلت
(42) سورة حم عسق
(43) سورة الزخرف
(44) سورة الدخان
(45) سورة الجاثية
(46) سورة الأحقاف
(47) سورة محمد صلى الله عليه و سلم
(48) سورة الفتح
(49) سورة الحجرات
(50) سورة ق
(51) سورة و الذاريات
(52) سورة و الطور
(53) سورة و النجم
(54) سورة القمر
(55) سورة الرحمن
(56) سورة الواقعة
(57) سورة الحديد
(58) سورة المجادلة
(59) سورة الحشر
(67) سورة الملك
(68) سورة ن
(69) سورة الحاقة
(70) سورة المعارج
(71) سورة نوح
(72) سورة الجن
(73) سورة المزمل
(74) سورة المدثر
(75) سورة القيامة
(76) سورة الإنسان
(77) سورة المرسلات
(78) سورة النبأ
(79) سورة النازعات
(80) سورة عبس
(83) سورة المطففين
(89) سورة الفجر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 27
الصلاة، و لا ينعقد به صريح اليمين، و قد جاء لضرورة الشعر:
ألا لا بارك اللّه في سهيل
إذا ما اللّه بارك في الرّجال
و الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اسمان بنيا للمبالغة من رحم، كالغضبان من غضب، و العليم من علم، و الرحمة في اللغة: رقة القلب، و انعطاف يقتضي التفضل و الإحسان، و منه الرّحم لانعطافها على ما فيها. و أسماء اللّه تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات. و الرَّحْمنِ أبلغ من الرَّحِيمِ ، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قطّع و قطع و كبّار و كبار، و ذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية، و أخرى باعتبار الكيفية، فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن و الكافر، و رحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن، و على الثاني قيل: يا رحمن الدنيا و الآخرة، و رحيم الدنيا، لأن النعم الأخروية كلها جسام، و أما النعم الدنيوية فجليلة و حقيرة، و إنما قدم و القياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى، لتقدم رحمة الدنيا، و لأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، و ذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه و إنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب، ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم و وجودها، و القدرة على إيصالها، و الداعية الباعثة عليه، و التمكن من الانتفاع بها، و القوى التي بها يحصل الانتفاع، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره. أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم و أصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة و الرديف له. أو للمحافظة على رؤوس الآي.
و الأظهر أنه غير مصروف و إن حظر اختصاصه باللّه تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقا له بما هو الغالب في بابه. و إنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها و آجلها، جليلها و حقيرها، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس، و يتمسك بحبل التوفيق، و يشغل سره بذكره و الاستعداد به عن غيره.
[سورة الفاتحة (1): آية 2]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد: هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها، و المدح: هو الثناء على الجميل مطلقا. تقول حمدت زيدا على علمه و كرمه، و لا تقول حمدته على حسنه، بل مدحته. و قيل هما أخوان. و الشكر: مقابلة النعمة قولا و عملا و اعتقادا قال:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي و لساني و الضّمير المحجّبا
فهو أعم منهما من وجه، و أخص من آخر و لما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة، و أدل على مكانها لخفاء الاعتقاد، و ما في آداب الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر و العمدة فيه
فقال عليه الصلاة و السلام : «الحمد رأس الشكر، و ما شكر اللّه من لم يحمده».
و الذم نقيض الحمد و الكفران نقيض الشكر. و رفعه بالابتداء و خبره للّه و أصله النصب و قد قرئ به، و إنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد و ثباته له دون تجدده و حدوثه. و هو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تستعمل معها، و التعريف فيه للجنس و معناه: الإشارة إلى ما يعرف كل أحد أن الحمد ما هو؟ أو للاستغراق، إذ الحمد في الحقيقة كله له، إذ ما من خير إلا و هو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال تعالى: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ و فيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم. إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه. و قرئ الحمد للّه بإتباع الدال اللام و بالعكس تنزيلا لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 28
رَبِّ الْعالَمِينَ الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية: و هي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثم وصف به للمبالغة كالصوم و العدل. و قيل: هو نعت من ربّه يربه فهو رب، كقولك نم ينم فهو نم، ثم سمي به المالك لأنه يحفظ ما يملكه و يربيه. و لا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا كقوله: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ و العالم اسم لما يعلم به، كالخاتم و القالب، غلب فيما يعلم به الصانع تعالى، و هو كل ما سواه من الجواهر و الأعراض، فإنها لإمكانها و افتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده، و إنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، و غلب العقلاء منهم فجمعه بالياء و النون كسائر أوصافهم. و قيل: اسم وضع لذوي العلم من الملائكة و الثقلين، و تناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع. و قيل: عني به الناس هاهنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث أنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر و الأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير، و لذلك سوى بين النظر فيهما، و قال تعالى: وَ فِي أَنْفُسِكُمْ، أَ فَلا تُبْصِرُونَ . و قرئ رَبِّ الْعالَمِينَ بالنصب على المدح. أو النداء. أو بالفعل الذي دل عليه الحمد، و فيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها.
[سورة الفاتحة (1): الآيات 3 الى 4]
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كرره للتعليل على ما سنذكره.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قراءة عاصم و الكسائي و يعقوب و يعضده قوله تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ . و قرأ الباقون: ملك. و هو المختار لأنه قراءة أهل الحرمين و لقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ . و لما فيه من التعظيم. و المالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من الملك. و الملك هو المتصرف بالأمر و النهي في المأمورين من الملك. و قرئ ملك بالتخفيف و ملك بلفظ الفعل. و مالكا بالنصب على المدح أو الحال، و مالك بالرفع منونا و مضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف، و ملك مضافا بالرفع و النصب. و يوم الدين يوم الجزاء و منه «كما تدين تدان» و بيت الحماسة:
و لم يبق سوى العدوا
ن دناهم كما دانوا
أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار، و معناه، ملك الأمور يوم الدين على طريقة وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ . أوله الملك في هذا اليوم، على وجه الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية معدة لوقوعه صفة للمعرفة، و قيل: الدِّينِ الشريعة، و قيل: الطاعة.
و المعنى يوم جزاء الدين، و تخصيص اليوم بالإضافة: إما لتعظيمه، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه، و إجراء هذه الأوصاف على اللّه تعالى من كونه موجدا للعالمين ربا لهم منعما عليهم بالنعم كلها ظاهرها و باطنها عاجلها و آجلها، مالكا لأمورهم يوم الثواب و العقاب، للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له، و للإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلا عن أن يعبد، فيكون دليلا على ما بعده، فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد، و هو الإيجاد و التربية. و الثاني و الثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد. و الرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما، و تضمين الوعد للحامدين و الوعيد للمعرضين.
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، و وصف بصفات عظام تميز بها عن سائر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 29
الذوات و تعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك، أي: يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة و الاستعانة، ليكون أدل على الاختصاص، و للترقي من البرهان إلى العيان و الانتقال من الغيبة إلى الشهود، فكأن المعلوم صار عيانا و المعقول مشاهدا و الغيبة حضورا، بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر و الفكر و التأمل في أسمائه و النظر في آلائه و الاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه و باهر سلطانه، ثم قفى بما هو منتهى أمره و هو أن يخوض لجة الوصول و يصير من أهل المشاهدة فيراه عيانا و يناجيه شفاها.
اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر. و من عادة العرب التفنن في الكلام و العدول من أسلوب إلى آخر تطرية له و تنشيطا للسامع، فيعدل من الخطاب إلى الغيبة، و من الغيبة إلى التكلم و بالعكس، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ و قوله: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ و قول امرئ القيس:
تطاول ليلك بالإثمد
و نام الخليّ و لم ترقد
و بات و باتت له ليلة
كليلة ذي العائر الأرمد
و ذلك من نبأ جاءني
و خبرته عن أبي الأسود
و إيا ضمير منصوب منفصل، و ما يلحقه من الياء و الكاف و الهاء حروف زيدت لبيان التكلم و الخطاب و الغيبة لا محل لها من الإعراب، كالتاء في أنت و الكاف في أ رأيتك. و قال الخليل: إيا مضاف إليها، و احتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه و إيا الشواب، و هو شاذ لا يعتمد عليه. و قيل: هي الضمائر، و إيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به، و قيل:
الضمير هو المجموع. و قرئ إِيَّاكَ بفتح الهمزة و «هياك» بقلبها هاء.
و العبادة: أقصى غاية الخضوع و التذلل و منه طريق معبّد أي مذلل، و ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة، و لذلك لا تستعمل إلا في الخضوع للّه تعالى.
و الاستعانة: طلب المعونة و هي: إما ضرورية، أو غير ضرورية. و الضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل و تصوره و حصول آلة و مادة يفعل بها فيها و عند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة و يصح أن يكلف بالفعل. و غير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل و يسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي، أو يقرب الفاعل إلى الفعل و يحثه عليه، و هذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف و المراد طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات، و الضمير المستكن في الفعلين للقارئ و من معه من الحفظة، و حاضري صلاة الجماعة. أو له و لسائر الموحدين. أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم و خلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها و يجاب إليها و لهذا شرعت الجماعة و قدم المفعول للتعظيم و الاهتمام به و الدلالة على الحصر و لذلك قال ابن عباس رضي اللّه عنهما (معناه نعبدك و لا نعبد غيرك) و تقديم ما هو مقدم في الوجود و التنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا و بالذات، و منه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه و وصلة سنية بينه و بين الحق، فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس و غاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسه و لا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها ملاحظة له و منتسبة إليه، و لذلك فضل ما حكى اللّه عن حبيبه حين قال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا . على ما حكاه عن كليمه حين قال: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ . و كرر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير، و قدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي، و يعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة.
و أقول: لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أو هم ذلك تبجحا و اعتدادا منه بما يصدر عنه، فعقبه بقوله:
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 30
وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ليدل على أن العبادة أيضا مما لا يتم و لا يستتب له إلا بمعونة منه و توفيق، و قيل: الواو للحال و المعنى نعبدك مستعينين بك. و قرئ بكسر النون فيهما و هي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها.
[سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال: كيف أعينكم فقالوا اهْدِنَا . أو إفراد لما هو المقصود الأعظم. و الهداية دلالة بلطف و لذلك تستعمل في الخير و قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وارد على التهكم. و منه الهداية و هوادي الوحش لمقدماتها، و الفعل منه هدى، و أصله أن يعدى باللام، أو إلى، فعومل معاملة اختار في قوله تعالى: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ و هداية اللّه تعالى تتنوع أنواعا لا يحصيها عد كما قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها و لكنها تنحصر في أجناس مترتبة:
الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية و الحواس الباطنة و المشاعر الظاهرة.
الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق و الباطل و الصلاح و الفساد و إليه أشار حيث قال: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ و قال: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى .
الثالث: الهداية بإرسال الرسل و إنزال الكتب، و إياها عنى بقوله: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا و قوله:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .
الرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر و يريهم الأشياء كما هي بالوحي، أو الإلهام و المنامات الصادقة، و هذا قسم يختص بنيله الأنبياء و الأولياء و إياه عني بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ . و قوله:
وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا . فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى، أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المرتبة عليه. فإذا قاله العارف باللّه الواصل عنى به: أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، و تميط غواشي أبداننا، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك. و الأمر و الدعاء يتشاركان لفظا و معنى و يتفاوتان بالاستعلاء و التسفل، و قيل: بالرتبة.
و السراط: من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة، و لذلك سمي لقما لأنه يلتقمهم. و الصِّراطَ من قلب السين صادا ليطابق الطاء في الإطباق، و قد يشم الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه. و قرأ ابن كثير برواية قنبل عنه، و رويس عن يعقوب بالأصل، و حمزة بالإشمام، و الباقون بالصاد و هو لغة قريش، و الثابت في الإمام و جمعه سرط ككتب و هو كالطريق في التذكير و التأنيث.
و الْمُسْتَقِيمَ المستوي و المراد به طريق الحق، و قيل: هو ملة الإسلام.
[سورة الفاتحة (1): آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل من الأول بدل الكل، و هو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة، و فائدته التوكيد و التنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه و أبلغه لأنه جعل كالتفسير و البيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أن الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين. و قيل: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الأنبياء، و قيل: النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه و قيل: أصحاب موسى و عيسى عليهما الصلاة و السلام قبل التحريف و النسخ. و قرئ: «صراط من أنعمت عليهم» و الإنعام: إيصال النعمة، و هي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة و هي اللين، و نعم اللّه و إن كانت
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 31
لا تحصى كما قال: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها تنحصر في جنسين: دنيوي و أخروي.
و الأول قسمان: موهبي و كسبي و الموهبي قسمان: روحاني كنفخ الروح فيه و إشراقه بالعقل و ما يتبعه من القوى كالفهم و الفكر و النطق، و جسماني كتخليق البدن و القوى الحالة فيه و الهيئات العارضة له من الصحة و كمال الأعضاء و الكسبي تزكية النفس عن الرذائل و تحليتها بالأخلاق السنية و الملكات الفاضلة، و تزيين البدن بالهيئات المطبوعة و الحلي المستحسنة و حصول الجاه و المال.
و الثاني: أن يغفر له ما فرط منه و يرضى عنه و يبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين.
و المراد هو القسم الأخير و ما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن و الكافر.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ بدل من الَّذِينَ على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب و الضلال. أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، و هي نعمة الإيمان، و بين السلامة من الغضب و الضلال و ذلك إنما يصح بأحد تأويلين، إجراء الموصول مجرى النكرة إذا لم يقصد به معهود كالمحلي في قوله:
و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني و قولهم: إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني. أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ماله ضد واحد و هو المنعم عليهم، فيتعين تعين الحركة من غير السكون.
و عن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور و العامل أنعمت. أو بإضمار أعني. أو بالاستثناء إن فسر النعم بما يعم القبيلين، و الغضب: ثوران النفس إرادة الانتقام، فإذا أسند إلى اللّه تعالى أريد به المنتهى و الغاية على ما مر، و عليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول، و لا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي، فكأنه قال: لا المغضوب عليهم و لا الضالين، و لذلك جاز أنا زيدا غير ضارب، كما جاز أنا زيدا لا ضارب، و إن امتنع أنا زيدا مثل ضارب، و قرئ «و غير الضالين» و الضلال: العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ، و له عرض عريض و التفاوت ما بين أدناه و أقصاه كثير.
قيل: الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ اليهود لقوله تعالى فيهم: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ . و الضَّالِّينَ النصارى لقوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً . و قد روي مرفوعا، و يتجه أن يقال: المغضوب عليهم العصاة و الضالين الجاهلون باللّه، لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته و الخير للعمل به، و كان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة و العاملة. و المخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدا وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ . و المخل بالعقل جاهل ضال لقوله: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ .
و قرئ: و لا «الضألين» بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين.
- آمين- اسم الفعل الذي هو استجب. و
عن ابن عباس قال سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن معناه فقال: «افعل بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين»
، و جاء مد ألفه و قصرها قال:
و يرحم اللّه عبدا قال آمينا و قال:
أمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا و ليس من القرآن وفاقا، لكن يسن ختم السورة به
لقوله عليه الصلاة و السلام «علمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة و قال إنه كالختم على الكتاب»
. و في معناه
قول علي رضي اللّه عنه : آمين خاتم رب العالمين، ختم به دعاء عبده
. يقوله الإمام و يجهر به في الجهرية لما
روي عن وائل بن حجر «أنه عليه الصلاة و السلام كان إذا قرأ و لا الضالين قال آمين و رفع بها صوته».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 32
و عن أبي حنيفة رضي اللّه عنه أنه لا يقوله: و المشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مغفل و أنس، و المأموم يؤمن معه
لقوله عليه الصلاة و السلام : «إذا قال الإمام «و لا الضالين» فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه»
. و
عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال لأبيّ «ألا أخبرك بسورة لم ينزّل في التوراة و الإنجيل و القرآن مثلها». قال: قلت بلى يا رسول اللّه.
قال: فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته».
و
عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم جالس إذ أتاه ملك فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، و خواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته».
و
عن حذيفة بن اليمان أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال : «إن القوم ليبعث اللّه عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فيسمعه اللّه تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 33
(2) سورة البقرة
مدنية و آيها مائتان و سبع و ثمانون آية
[سورة البقرة (2): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم و سائر الألفاظ التي يتهجى بها، أسماء مسمياتها الحروف التي ركبت منها الكلم لدخولها في حد الاسم، و اعتوار ما يخص به من التعريف و التنكير و الجمع و التصغير و نحو ذلك عليها، و به صرح الخليل و أبو علي. و ما
روي ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال: «من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف و لام حرف و ميم حرف»
فالمراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه، فإن تخصيصه به عرف مجدّد بل المعنى اللغوي، و لعله سماه باسم مدلوله.
و لما كانت مسمياتها حروفا وحدانا و هي مركبة، صدرت بها لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع، و استعيرت الهمزة مكان الألف لتعذر الابتداء بها و هي ما لم تلها العوامل موقوفة خالية عن الإعراب لفقد موجبه و مقتضية، لكنها قابلة إياه و معرضة له إذ لم تناسب مبنى الأصل و لذلك قيل: ص و ق مجموعا فيهما بين الساكنين و لم تعامل معاملة أين و هؤلاء. ثم إن مسمياتها لما كانت عنصر الكلام و بسائطه التي يتركب منها. افتتحت السورة بطائفة منها إيقاظا لمن تحدى بالقرآن و تنبيها على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير اللّه لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم و قوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه، و ليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بنوع من الإعجاز، فإن النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط و درس، فأما من الأمي الذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة و التلاوة سيما و قد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنه، و هو أنه أورد في هذه الفواتح أربعة عشر اسما هي نصف أسامي حروف المعجم، إن لم يعد فيها الألف حرفا برأسها في تسع و عشرين سورة بعددها إذا عد فيها الألف الأصلية مشتملة على أنصاف أنواعها، فذكر من المهموسة و هي ما يضعف الاعتماد على مخرجه و يجمعها (ستشحثك خصفه) نصفها الحاء و الكاف و الهاء و الصاد و السين و الكاف، و من البواقي المجهورة نصفها يجمعه (لن يقطع أمر). و من الشديدة الثمانية المجموعة في (أجدت طبقك) أربعة يجمعها (أقطك). و من البواقي الرخوة عشرة يجمعها «خمس» على نصره، و من المطبقة التي هي الصاد و الضاد و الطاء و الظاء نصفها، و من البواقي المنفتحة نصفها، و من القلقلة و هي: حروف تضطرب عند خروجها و يجمعها (قد طبج) نصفها الأقل لقلتها، و من اللينتين الياء لأنها أقل ثقلا، و من المستعلية و هي: