کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل
الجزء الأول
مقدمة
(2) سورة البقرة
الجزء الثاني
(3) سورة آل عمران
(4) سورة النساء
(5) سورة المائدة
(6) سورة الأنعام
الجزء الثالث
(7) سورة الأعراف
(8) سورة الأنفال
(9) سورة براءة
(10) سورة يونس
(11) سورة هود
(12) سورة يوسف
(13) سورة الرعد
(14) سورة إبراهيم
(15) سورة الحجر
(16) سورة النحل
(17) سورة بني إسرائيل
(18) سورة الكهف
الجزء الرابع
(19) سورة مريم
(20) سورة طه
(21) سورة الأنبياء
(22) سورة الحج
(23) سورة المؤمنون
(24) سورة النور
(25) سورة الفرقان
(26) سورة الشعراء
(27) سورة النمل
(28) سورة القصص
(29) سورة العنكبوت
(30) سورة الروم
(31) سورة لقمان
(32) سورة السجدة
(33) سورة الأحزاب
(34) سورة سبأ
(35) سورة الملائكة
(36) سورة يس
الجزء الخامس
(37) سورة الصافات
(38) سورة ص
(39) سورة الزمر
(40) سورة المؤمن
(41) سورة فصلت
(42) سورة حم عسق
(43) سورة الزخرف
(44) سورة الدخان
(45) سورة الجاثية
(46) سورة الأحقاف
(47) سورة محمد صلى الله عليه و سلم
(48) سورة الفتح
(49) سورة الحجرات
(50) سورة ق
(51) سورة و الذاريات
(52) سورة و الطور
(53) سورة و النجم
(54) سورة القمر
(55) سورة الرحمن
(56) سورة الواقعة
(57) سورة الحديد
(58) سورة المجادلة
(59) سورة الحشر
(67) سورة الملك
(68) سورة ن
(69) سورة الحاقة
(70) سورة المعارج
(71) سورة نوح
(72) سورة الجن
(73) سورة المزمل
(74) سورة المدثر
(75) سورة القيامة
(76) سورة الإنسان
(77) سورة المرسلات
(78) سورة النبأ
(79) سورة النازعات
(80) سورة عبس
(83) سورة المطففين
(89) سورة الفجر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 30
وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ليدل على أن العبادة أيضا مما لا يتم و لا يستتب له إلا بمعونة منه و توفيق، و قيل: الواو للحال و المعنى نعبدك مستعينين بك. و قرئ بكسر النون فيهما و هي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها.
[سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال: كيف أعينكم فقالوا اهْدِنَا . أو إفراد لما هو المقصود الأعظم. و الهداية دلالة بلطف و لذلك تستعمل في الخير و قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وارد على التهكم. و منه الهداية و هوادي الوحش لمقدماتها، و الفعل منه هدى، و أصله أن يعدى باللام، أو إلى، فعومل معاملة اختار في قوله تعالى: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ و هداية اللّه تعالى تتنوع أنواعا لا يحصيها عد كما قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها و لكنها تنحصر في أجناس مترتبة:
الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية و الحواس الباطنة و المشاعر الظاهرة.
الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق و الباطل و الصلاح و الفساد و إليه أشار حيث قال: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ و قال: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى .
الثالث: الهداية بإرسال الرسل و إنزال الكتب، و إياها عنى بقوله: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا و قوله:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .
الرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر و يريهم الأشياء كما هي بالوحي، أو الإلهام و المنامات الصادقة، و هذا قسم يختص بنيله الأنبياء و الأولياء و إياه عني بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ . و قوله:
وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا . فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى، أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المرتبة عليه. فإذا قاله العارف باللّه الواصل عنى به: أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، و تميط غواشي أبداننا، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك. و الأمر و الدعاء يتشاركان لفظا و معنى و يتفاوتان بالاستعلاء و التسفل، و قيل: بالرتبة.
و السراط: من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة، و لذلك سمي لقما لأنه يلتقمهم. و الصِّراطَ من قلب السين صادا ليطابق الطاء في الإطباق، و قد يشم الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه. و قرأ ابن كثير برواية قنبل عنه، و رويس عن يعقوب بالأصل، و حمزة بالإشمام، و الباقون بالصاد و هو لغة قريش، و الثابت في الإمام و جمعه سرط ككتب و هو كالطريق في التذكير و التأنيث.
و الْمُسْتَقِيمَ المستوي و المراد به طريق الحق، و قيل: هو ملة الإسلام.
[سورة الفاتحة (1): آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل من الأول بدل الكل، و هو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة، و فائدته التوكيد و التنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه و أبلغه لأنه جعل كالتفسير و البيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أن الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين. و قيل: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الأنبياء، و قيل: النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه و قيل: أصحاب موسى و عيسى عليهما الصلاة و السلام قبل التحريف و النسخ. و قرئ: «صراط من أنعمت عليهم» و الإنعام: إيصال النعمة، و هي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة و هي اللين، و نعم اللّه و إن كانت
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 31
لا تحصى كما قال: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها تنحصر في جنسين: دنيوي و أخروي.
و الأول قسمان: موهبي و كسبي و الموهبي قسمان: روحاني كنفخ الروح فيه و إشراقه بالعقل و ما يتبعه من القوى كالفهم و الفكر و النطق، و جسماني كتخليق البدن و القوى الحالة فيه و الهيئات العارضة له من الصحة و كمال الأعضاء و الكسبي تزكية النفس عن الرذائل و تحليتها بالأخلاق السنية و الملكات الفاضلة، و تزيين البدن بالهيئات المطبوعة و الحلي المستحسنة و حصول الجاه و المال.
و الثاني: أن يغفر له ما فرط منه و يرضى عنه و يبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين.
و المراد هو القسم الأخير و ما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن و الكافر.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ بدل من الَّذِينَ على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب و الضلال. أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، و هي نعمة الإيمان، و بين السلامة من الغضب و الضلال و ذلك إنما يصح بأحد تأويلين، إجراء الموصول مجرى النكرة إذا لم يقصد به معهود كالمحلي في قوله:
و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني و قولهم: إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني. أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ماله ضد واحد و هو المنعم عليهم، فيتعين تعين الحركة من غير السكون.
و عن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور و العامل أنعمت. أو بإضمار أعني. أو بالاستثناء إن فسر النعم بما يعم القبيلين، و الغضب: ثوران النفس إرادة الانتقام، فإذا أسند إلى اللّه تعالى أريد به المنتهى و الغاية على ما مر، و عليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول، و لا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي، فكأنه قال: لا المغضوب عليهم و لا الضالين، و لذلك جاز أنا زيدا غير ضارب، كما جاز أنا زيدا لا ضارب، و إن امتنع أنا زيدا مثل ضارب، و قرئ «و غير الضالين» و الضلال: العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ، و له عرض عريض و التفاوت ما بين أدناه و أقصاه كثير.
قيل: الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ اليهود لقوله تعالى فيهم: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ . و الضَّالِّينَ النصارى لقوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً . و قد روي مرفوعا، و يتجه أن يقال: المغضوب عليهم العصاة و الضالين الجاهلون باللّه، لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته و الخير للعمل به، و كان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة و العاملة. و المخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدا وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ . و المخل بالعقل جاهل ضال لقوله: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ .
و قرئ: و لا «الضألين» بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين.
- آمين- اسم الفعل الذي هو استجب. و
عن ابن عباس قال سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن معناه فقال: «افعل بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين»
، و جاء مد ألفه و قصرها قال:
و يرحم اللّه عبدا قال آمينا و قال:
أمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا و ليس من القرآن وفاقا، لكن يسن ختم السورة به
لقوله عليه الصلاة و السلام «علمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة و قال إنه كالختم على الكتاب»
. و في معناه
قول علي رضي اللّه عنه : آمين خاتم رب العالمين، ختم به دعاء عبده
. يقوله الإمام و يجهر به في الجهرية لما
روي عن وائل بن حجر «أنه عليه الصلاة و السلام كان إذا قرأ و لا الضالين قال آمين و رفع بها صوته».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 32
و عن أبي حنيفة رضي اللّه عنه أنه لا يقوله: و المشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مغفل و أنس، و المأموم يؤمن معه
لقوله عليه الصلاة و السلام : «إذا قال الإمام «و لا الضالين» فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه»
. و
عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال لأبيّ «ألا أخبرك بسورة لم ينزّل في التوراة و الإنجيل و القرآن مثلها». قال: قلت بلى يا رسول اللّه.
قال: فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته».
و
عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم جالس إذ أتاه ملك فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، و خواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته».
و
عن حذيفة بن اليمان أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال : «إن القوم ليبعث اللّه عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فيسمعه اللّه تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 33
(2) سورة البقرة
مدنية و آيها مائتان و سبع و ثمانون آية
[سورة البقرة (2): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم و سائر الألفاظ التي يتهجى بها، أسماء مسمياتها الحروف التي ركبت منها الكلم لدخولها في حد الاسم، و اعتوار ما يخص به من التعريف و التنكير و الجمع و التصغير و نحو ذلك عليها، و به صرح الخليل و أبو علي. و ما
روي ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال: «من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف و لام حرف و ميم حرف»
فالمراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه، فإن تخصيصه به عرف مجدّد بل المعنى اللغوي، و لعله سماه باسم مدلوله.
و لما كانت مسمياتها حروفا وحدانا و هي مركبة، صدرت بها لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع، و استعيرت الهمزة مكان الألف لتعذر الابتداء بها و هي ما لم تلها العوامل موقوفة خالية عن الإعراب لفقد موجبه و مقتضية، لكنها قابلة إياه و معرضة له إذ لم تناسب مبنى الأصل و لذلك قيل: ص و ق مجموعا فيهما بين الساكنين و لم تعامل معاملة أين و هؤلاء. ثم إن مسمياتها لما كانت عنصر الكلام و بسائطه التي يتركب منها. افتتحت السورة بطائفة منها إيقاظا لمن تحدى بالقرآن و تنبيها على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير اللّه لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم و قوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه، و ليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بنوع من الإعجاز، فإن النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط و درس، فأما من الأمي الذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة و التلاوة سيما و قد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنه، و هو أنه أورد في هذه الفواتح أربعة عشر اسما هي نصف أسامي حروف المعجم، إن لم يعد فيها الألف حرفا برأسها في تسع و عشرين سورة بعددها إذا عد فيها الألف الأصلية مشتملة على أنصاف أنواعها، فذكر من المهموسة و هي ما يضعف الاعتماد على مخرجه و يجمعها (ستشحثك خصفه) نصفها الحاء و الكاف و الهاء و الصاد و السين و الكاف، و من البواقي المجهورة نصفها يجمعه (لن يقطع أمر). و من الشديدة الثمانية المجموعة في (أجدت طبقك) أربعة يجمعها (أقطك). و من البواقي الرخوة عشرة يجمعها «خمس» على نصره، و من المطبقة التي هي الصاد و الضاد و الطاء و الظاء نصفها، و من البواقي المنفتحة نصفها، و من القلقلة و هي: حروف تضطرب عند خروجها و يجمعها (قد طبج) نصفها الأقل لقلتها، و من اللينتين الياء لأنها أقل ثقلا، و من المستعلية و هي:
التي يتصعد الصوت بها في الحنك الأعلى، و هي سبعة القاف و الصاد و الطاء و الخاء و الغين و الضاد و الظاء نصفها الأقل، و من البواقي المنخفضة نصفها، و من حروف البدل و هي أحد عشر على ما ذكره سيبويه، و اختاره ابن جني و يجمعها (أجد طويت) منها الستة الشائعة المشهورة التي يجمعها (أهطمين) و قد زاد بعضهم سبعة أخرى و هي اللام في (أصيلال) و الصاد و الزاي في (صراط و زراط) و الفاء في (أجداف) و العين في (أعن) و الثاء في (ثروغ الدلو) و الباء في «باسمك» حتى صارت ثمانية عشر و قد ذكر منها تسعة الستة المذكورة
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 34
و اللام و الصاد و العين. و مما يدغم في مثله و لا يدغم في المقارب و هي خمسة عشر: الهمزة و الهاء و العين و الصاد و الطاء و الميم و الياء و الخاء و الغين و الضاد و الفاء و الظاء و الشين و الزاي و الواو نصفها الأقل. و مما يدغم فيهما و هي الثلاثة عشر الباقية نصفها الأكثر: الحاء و القاف و الكاف و الراء و السين و اللام و النون لما في الإدغام من الخفة و الفصاحة، و من الأربعة التي لا تدغم فيما يقاربها و يدغم فيها مقاربها و هي: الميم و الزاي و السين و الفاء نصفها.
و لما كانت الحروف الذلقية التي يعتمد عليها بذلق اللسان و هي ستة يجمعها (رب منفل) و الحلقية التي هي الحاء و الخاء و العين و الغين و الهاء و الهمزة، كثيرة الوقوع في الكلام ذكر ثلثيهما. و لما كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعية ذكر من الزوائد العشرة التي يجمعها (اليوم تنساه) سبعة أحرف منها تنبيها على ذلك، و لو استقريت الكلم و تراكيبها وجدت الحروف المتروكة من كل جنس مكثورة بالمذكورة ثم إنه ذكرها مفردة و ثنائية و ثلاثية و رباعية و خماسية، إيذانا بأن المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة، و مركبة من حرفين فصاعدا إلى الخمسة، و ذكر ثلاث مفردات في ثلاث سور لأنها توجد في الأقسام الثلاثة:
الاسم و الفعل و الحرف و أربع ثنائيات لأنها تكون في الحرف بلا حذف (كبل)، و في الفعل بحذف ثقل (كقل). و في الاسم بغير حذف (كمن)، و به (كدم) في تسع سور لوقوعها في كل واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه: ففي الأسماء من و إذ و ذو. و في الأفعال قل و بع و خف. و في الحروف من و إن و مذ على لغة من جربها. و ثلاث ثلاثيات لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة تنبيها على أن أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر، عشرة منها للأسماء، و ثلاثة للأفعال، و رباعيتين و خماسيتين تنبيها على أن لكل منهما أصلا: كجعفر و سفرجل، و ملحقا: كقردد و جحنفل، و لعلها فرقت على السور و لم تعد بأجمعها في أول القرآن لهذه الفائدة مع ما فيه من إعادة التحدي و تكرير التنبيه و المبالغة فيه.
و المعنى أن هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف. أو المؤلف منها، كذا و قيل: هي أسماء للسور، و عليه إطباق الأكثر. سميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيا من اللّه تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها، و استدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل و التكلم بالزنجي مع العربي، و لم يكن القرآن بأسره بيانا و هدى. و لما أمكن التحدي به و إن كانت مفهمة، فإما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها، أو غير ذلك. و الثاني باطل لأنه؛ إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب فظاهر أنه ليس كذلك، أو غيره و هو باطل لأن القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فلا يحمل على ما ليس في لغتهم.
لا يقال: لم لا يجوز أن تكون مزيدة للتنبيه؟ و الدلالة على انقطاع كلام و استئناف آخر؟ كما قاله قطرب، أو إشارة إلى كلمات هي منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر في قوله:
قلت لها قفي فقالت قاف كما روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال: الألف آلاء اللّه، و اللام لفظه، و الميم ملكه. و عنه أن الر و حم و ن مجموعها الرحمن. و عنه أن الم معناه: أنا اللّه أعلم و نحو ذلك في سائر الفواتح. و عنه أن الألف من اللّه، و اللام من جبريل، و الميم من محمد أي: القرآن منزل من اللّه بلسان جبريل على محمد عليهما الصلاة و السلام، أو إلى مدد أقوام و آجال بحساب الجمل كما قال أبو العالية متمسكا بما
روى : «أنه عليه الصلاة و السلام لما أتاه اليهود تلا عليهم الم البقرة. فحسبوه و قالوا: كيف ندخل في دين مدته إحدى و سبعون سنة، فتبسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا: فهل غيره، فقال: المص و الر و المر، فقالوا: خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ»
. فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب عليهم و تقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك، و هذه الدلالة و إن لم تكن عربية لكنها لاشتهارها فيما بين الناس حتى العرب تلحقها بالمعربات كالمشكاة و السجيل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 35
و القسطاس، أو دلالة على الحروف المبسوطة مقسما بها لشرفها من حيث إنها بسائط أسماء اللّه تعالى و مادة خطابه.
هذا و إن القول بأنها أسماء السور يخرجها ما ليس في لغة العرب، لأن التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستكره عندهم و يؤدي إلى اتحاد الاسم و المسمى، و يستدعي تأخر الجزء عن الكل من حيث إن الاسم متأخر عن المسمى بالرتبة، لأنا نقول: إن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه و الدلالة على الانقطاع و الاستئناف يلزمها و غيرها من حيث إنها فواتح السور، و لا يقتضي ذلك أن لا يكون لها معنى في حيزها و لم تستعمل للاختصار من كلمات معينة في لغتهم، أما الشعر فشاذ، و أما قول ابن عباس، فتنبيه على أن هذه الحروف منبع الأسماء و مبادئ الخطاب و تمثيل بأمثلة حسنة، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينة لا تفسير، و تخصيص بهذه المعاني دون غيرها إذ لا مخصص لفظا و معنى و لا بحساب الجمل فتلحق بالمعربات، و الحديث لا دليل فيه، لجواز أنه عليه الصلاة و السلام تبسم تعجبا من جهلهم، و جعلها مقسما بها و إن كان غير ممتنع لكنه يحوج إلى إضمار أشياء لا دليل عليها، و التسمية بثلاثة أسماء إنما تمتنع إذا ركبت و جعلت اسما واحدا على طريقة بعلبك، فأما إذا نثرت نثر أسماء العدد فلا، و ناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة و البيت من الشعر و طائفة من أسماء حروف المعجم، و المسمى هو مجموع السورة و الاسم جزؤها فلا اتحاد، و هو مقدم من حيث ذاته مؤخر باعتبار كونه اسما، فلا دور لاختلاف الجهتين. و الوجه الأول أقرب إلى التحقيق و أوفق للطائف التنزيل و أسلم من لزوم النقل و وقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود بالعلمية، و قيل: إنها أسماء القرآن و لذلك أخبر عنها بالكتاب و القرآن.
و قيل: إنها أسماء للّه تعالى و يدل عليه
أن عليا كرم اللّه وجهه كان يقول : يا كهيعص، و يا حمعسق،
و لعله أراد يا منزلهما.
و قيل الألف: من أقصى الحلق و هو مبدأ المخارج، و اللام: من طرف اللسان و هو أوسطها، و الميم:
من الشفة و هو آخرها جمع بينها إيماء إلى أن العبد ينبغي أن يكون أول كلامه و أوسطه و آخره ذكر اللّه تعالى.
و قيل: إنه سر استأثر اللّه بعلمه و قد روي عن الخلفاء الأربعة و غيرهم من الصحابة ما يقرب منه، و لعلهم أرادوا أنها أسرار بين اللّه تعالى و رسوله و رموز لم يقصد بها إفهام غيره إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد.
فإن جعلتها أسماء اللّه تعالى، أو القرآن، أو السور كان لها حظ من الإعراب إما الرفع على الابتداء، أو الخبر، أو النصب بتقدير فعل القسم على طريقة اللّه لأفعلن بالنصب أو غيره كما ذكر، أو الجر على إضمار حرف القسم، و يتأتى الإعراب لفظا و الحكاية فيما كانت مفردة أو موازنة لمفرد كحم فإنها كهابيل، و الحكاية ليست إلا فيما عدا ذلك، و سيعود إليك ذكره مفصلا إن شاء اللّه تعالى، و إن أبقيتها على معانيها فإن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كان في حيز الرفع بالابتداء أو الخبر على ما مر، و إن جعلتها مقسما بها يكون كل كلمة منها منصوبا أو مجرورا على اللغتين في اللّه لأفعلن، و تكون جملة قسمية بالفعل المقدر له، و إن جعلتها أبعاض كلمات أو أصواتا منزلة منزلة حروف التنبيه لم يكن لها محل من الإعراب كالجمل المبتدأة و المفردات المعدودة و يوقف عليها وقف التمام إذا قدرت بحيث لا تحتاج إلى ما بعدها، و ليس شيء منها آية عند غير الكوفيين. و أما عندهم ف الم في مواقعها، و المص و كهيعص و طه و طسم* و طس و يس و حم* آية، و حم عسق آيتان، و البواقي ليست بآيات و هذا توقيف لا مجال للقياس فيه.
[سورة البقرة (2): آية 2]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
ذلِكَ الْكِتابُ ذلك إشارة إلى الم إن أول بالمؤلف من هذه الحروف أو فسر بالسورة أو القرآن فإنه لما تكلم به و تقضى، أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعدا أشير إليه بما يشار به إلى البعيد
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج1، ص: 36
و تذكيره، متى أريد ب الم السورة لتذكير الكتاب فإنه خبره أو صفته الذي هو هو، أو إلى الكتاب فيكون صفته و المراد به الكتاب الموعود إنزاله بنحو قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا . أو في الكتب المتقدمة. و هو مصدر سمي به المفعول للمبالغة.
و قيل فعال بمعنى المفعول كاللباس، ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب. و أصل الكتب الجمع و منه الكتيبة.
لا رَيْبَ فِيهِ معناه أنه لوضوحه و سطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحيا بالغا حد الإعجاز، لا أن أحدا لا يرتاب فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا . الآية فإنه ما أبعد عنهم الريب بل عرفهم الطريق المريح له، و هو أن يجتهدوا في معارضة نجم من نجومه و يبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة و لا مدخل للريبة.
و قيل: معناه لا ريب فيه للمتقين. و هدى حال من الضمير المجرور، و العامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي. و الريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة، و هي قلق النفس و اضطرابها، سمي به الشك لأنه يقلق النفس و يزيل الطمأنينة. و
في الحديث « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
فإن الشك ريبة و الصدق طمأنينة، و منه ريب الزمان لنوائبه.
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ يهديهم إلى الحق، و الهدى في الأصل مصدر كالسرى و التقى و معناه الدلالة.
و قيل: الدلالة الموصلة إلى البغية لأنه جعل مقابل الضلالة في قوله تعالى: إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و لأنه لا يقال مهدي إلا لمن اهتدى إلى المطلوب. و اختصاصه بالمتقين لأنهم المهتدون به و المنتفعون بنصه، و إن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر و بهذا الاعتبار قال تعالى: هُدىً لِلنَّاسِ . أو لأنه لا ينتفع بالتأمل فيه إلا من صقل العقل و استعمله في تدبر الآيات و النظر في المعجزات، و تعرف النبوات، لأنه كالغذاء الصالح لحفظ الصحة فإنه لا يجلب نفعا ما لم تكن الصحة حاصلة، و إليه أشار بقوله تعالى: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً . و لا يقدح ما فيه من المجمل و المتشابه في كونه هدى لما لم ينفك عن بيان يعين المراد منه.
و المتقي اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى. و الوقاية: فرط الصيانة. و هو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة، و له ثلاث مراتب:
الأولى: التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك و عليه قوله تعالى: وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى .
الثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم و هو المتعارف باسم التقوى في الشرع، و هو المعني بقوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا .
الثالثة: أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق و يتبتل إليه بشراشره و هو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ و قد فسر قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ هاهنا على الأوجه الثلاثة.
و اعلم أن الآية تحتمل أوجها من الإعراب: أن يكون الم مبتدأ على أنه اسم للقرآن. أو السورة. أو مقدر بالمؤلف منها، و ذلك خبره و إن كان أخص من المؤلف مطلقا، و الأصل أن الأخص لا يحمل على الأعم لأن المراد به المؤلف الكامل في تأليفه البالغ أقصى درجات الفصاحة و مراتب البلاغة و الكتاب صفة ذلك.